لا تكمن القصة الكبرى للصفقة التي تم التوصل إليها في شرم الشيخ في التفاصيل، بل في غيابها!

الجميع منهكٌ، الجميع بعيدٌ عن أهدافه الكبرى، الجميع بحاجةٍ إلى وقف الحرب، ولو مؤقتًا، وهؤلاء “الجميع” ليسوا أهل غزة ومقاومتها، ولا جيش العدوان، وحدهم: ترامب (الولايات المتحدة)، أوروبا، يمينها قبل يسارها، ويهود أوروبا وأمريكا، من يؤيد ومن يعارض، أردوغان (تركيا)، السيسي (مصر)، دول الخليج. هؤلاء كلهم كانوا مندفعين نحو الحل، ولهذا جاء الحل الترامبي: لننجز ما يمكن تحقيقه أولًا، ولنهرب إلى الأمام فيما تتباعد حوله المواقف، ونؤجل الحل النهائي، والذي سيحصل وندفع باتجاه الحل لاحقًا في التفاصيل!

خطة ترامب لم تكن واقعيةً للطرف الفلسطيني، كما أن الطرف “الإسرائيلي” كان يرغب بتطبيقها بحذافيرها من دون قبول مجرد الحديث عن “دولة فلسطينية”، ويدرك تمامًا أن المقاومة لن تقبلها، لكن ثمة من جذب الطرفين إلى الطاولة:

حماس، وجدت فيها فرصة لحقن الدماء المسفوحة بشكلٍ يوميٍ في غزة، وإنقاذ أهاليها من الهلاك والأمراض والتجويع، وهي تضع التهجير كخطٍ أحمرٍ لا يمكن لها قبوله ولا التسليم له، غير أن قدرتها على منعه باتت محدودةً مع تراجع إمكاناتها القتالية واللوجستية.

منذ ردة الفعل الأولى ل ـ”طوفان الأقصى”، أدركت حماس أن عنوان العملية سيطرأ عليه تغييرٌ سريعٌ؛ فالحديث عن الأقصى بات عسيرًا في ظل رد الفعل الصهيوني غير المسبوق، ولم يعد مستقبل الأقصى موضوعًا على الطاولة في أي جولةٍ من المباحثات.

فوجئت حماس بعد ذلك، بالاستعداد الهائل لدى قيادة “إسرائيل” اليمينية للتضحية بأسراها.

أمسكت حماس بورقة تبادل الأسرى مع وقف الحرب، لكنها مع الوقت أدركت أن احتفاظها بالأسرى لم يعد ورقةً رابحةً جدًا، رغم أهميتها الشكلية للطرف الآخر، ولترامب لاحقًا.

لم يعد “تبييض السجون” هدفًا يسهل تحقيقه في ظل استهتار نتنياهو بأسرى كيانه.

تَراجُع تلك الورقة جذب حماس للطاولة؛ فحتى خيانة “إسرائيل” المتوقعة لم تعد تقلق حماس كثيرًا في هذا الاتفاق، وهي أقدمت عليه واعيةً بمخاطر المضي فيه؛ فالضامنون في الحقيقة ليسوا ضامنين، ولا قدرةً كبيرةً لديهم على مجابهة “إسرائيل” والولايات المتحدة من خلفها.

كما أنه لا ضمانة لاستمرار الزخم الجماهيري العالمي لمددٍ طويلةٍ ما قد يحرم المقاومة قوةً إضافيةً تغير وجه التاريخ لو فتر نشاطها.

الانسحاب “الإسرائيلي” ولو كان مؤقتًا، ووقف الحرب، ولو كان مجرد هدنةٍ مردت “إسرائيل” دومًا على خرقها منذ نشأتها، وتبادل الأسرى بأي صفقة قبل أن يُقتل من تبقى لدى حماس، وتدفق المساعدات، وعلاج الجرحى، ووقف نزيف القتل جوعًا ومرضًا، مكاسبٌ لم تكن لحماس أن ترفضها.

قيادة الكيان، استنفدت جميع المدد الزمنية التي منحتها واشنطن، ومن خلفها قادة الصهيونية في العالم، وكبار المتنفذين اليهود، فقد كانت المهلة الأخيرة تنتهي عند مرور سنتين على “طوفان الأقصى”، فنتنياهو استنفد كل الفرص، وبات من المتوقع ألا يفضي استمراره في القتل إلا إلى مزيدٍ من ضياع سمعة “إسرائيل” بل اليهود، بل ساسة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ومن ثم بروز جيل لا تنطلي عليه فكرة “معاداة السامية”، ويكفر تدريجيًا بشعارات الحرية والديمقراطية، ويفهم شيئًا فشيئًا ما ظلت نخبة السياسة تخفيه عنه من تسخير الإمكانات الأمريكية لـ”إسرائيل” دون فقراء أمريكا، ومن غياب قيم الديمقراطية والعدالة، فلأول مرة تُرغم عواصم الغرب كلها تقريبًا على اتخاذ سياساتٍ تتحدى رغبات ناخبي أحزابها الغالبة!

 وتتنكر لجميع استطلاعات الرأي، وتعادي جيل الشباب الصاعد وتضرب بطموحاته وتطلعاته عرض الحائط بصورةٍ فجةٍ واضحةٍ لا تخطئها عين الشمس، وتؤكدها مؤشرات قياس الرأي العام.

لم يحقق نتنياهو أيًا من أهدافه التي أعلنها، فلم يسترد الأسرى عسكريًا، ولم يقضِ على حماس، ولم يتمكن من تأمين احتلال آمن لقواته، ومضى في حرب استنزاف لا نهاية لها.

بل صار جيشه منهكًا جدًا ولم يعد قادرًا على المواصلة لمددٍ تاليةٍ أطول. يدلّس ترامب، فيقول: “حماس فقدت من جانبها نحو 70 ألف شخصٍ وهذه الحرب ينبغي أن تتوقف”، للإيحاء بأن الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يمثلون القسم الأكبر من فاتورة العدوان هم من كتائب القسام! لكن حتى بهذا الاعتبار؛ فإن المعادلة زادت كثيرًا عن المعدلات السابقة للعمليات العسكرية بين الطرفين “الإسرائيلي” والمقاوم، ففي تصريحاتٍ أدلى بها رئيس الأركان “الإسرائيلي” إيال زمير في شهر فبراير الماضي، وبثتها القناة 12 “الإسرائيلية”، قال إن “5942 عائلةٍ إسرائيليةٍ جديدةٍ انضمت إلى قائمة الأسر الثكلى خلال عام 2024، بينما تم استيعاب أكثر من 15 ألف مصاب في نظام إعادة التأهيل”.

أي أن عدد قتلى “إسرائيل” العسكريين بلغ نحو 10% من قيمة تعداد ضحايا الحرب الفلسطينيين في غزة، كما أن عدد الجرحى أيضًا يماثل النسبة ذاتها! (هذا بالطبع إذا ما أضيف إليها قتلى وجرحى الجيش الصهيوني خلال عام 2025م)، وهذه كلفةٌ عاليةٌ جدًا من الناحية العسكرية، لها انعكاساتها على بنية الكيان الصهيوني نفسه، ومدى صموده كدولةٍ مزعومةٍ لمددٍ طويلةٍ.

الضغوط مورست من ترامب على الطرفين الذي وجد أن ثمن استمرار الحرب فادح على “إسرائيل” أولًا ثم أمريكا، ولهذا قال لنتنياهو: “لن تستطيع محاربة العالم كله، بيبي”!، وقد أنيط به إنقاذ “إسرائيل” من نزق نتنياهو، هكذا يشعر أو هكذا حثته جهاتٌ صهيونيةٌ نافذةٌ على التحرك لإنقاذ سمعة أمريكا كذلك.

ومن ترامب أيضًا على حماس، حيث هددها، وأوعز لمن يفعل ذلك أيضًا، فكانت تلك النتيجة التي تظل مبهمة النتائج، ولهذا كشف مسؤولٌ “إسرائيليٌّ” بارزٌ مشاركٌ في المفاوضات، في محادثاتٍ مغلقةٍ، لصحيفة يديعوت أحرونوت (9 أكتوبر)، القصة الحقيقية بالتفصيل: هذا ليس اتفاقًا نهائيًا، بل إطار مبادئ “فضفاض” فُرض على الطرفين تحت ضغطٍ أمريكيٍ غير مسبوقٍ.

ويقول إنّ الهدف لم يكن حل جميع المشاكل، بل خلق ديناميكيةٍ تُنهي الحرب.

ويضيف: “إنه تكتيكٌ مذهلٌ، أن نتفق أولًا، ثم نتجادل”.

“دائمًا لدى نتنياهو خطة (ب) لنسف الاتفاق”، مثلما يقول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، لكنه يستدرك: “ليس لديه الآن فرصةٌ للمناورة”. نعم، لربما رضي نتنياهو وأركان كيانه بما هو قائمٌ، وما هو قائمٌ إنما هو العودة إلى السياسة الأمنية “الإسرائيلية” في غزة والضفة، سياسة “جز العشب”، بعد أن أيقن أن “اقتلاع العشب” صعب المراس.

                                                                                                                                                                                                                                                                                       للحديث بقية…

اترك تعليق

نشرتنا البريدية

إشترك معنا لكي يصلك كل جديد

التواصل الاجتماعي

بيانات التواصل

905539590432+
rabitah.maktab@gmail.com
رابطة علماء المسلمين

© جميع الحقوق محفوظة لدي رابطة علماء المسلمين 2023 برمجة أنيما ويب