الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد ..
فإنّنا – وسائر العلماء الموقعين على هذه الوثيقة والمعبرين بتوقيعهم عن ضمير الأمة وروح الشريعة – نتوجه أولًا لله بالحمد على نعمته التي أفاضها على إخواننا السوريين وعلى نصره الذي أنعم به عليهم، وثانيًا بالتهنئة الخالصة لسوريا قيادة وحكومة وشعبًا وجيشًا على هذا النصر الذي جاء بعد طول جهاد وجلاد، وبأطيب الأمنيات والدعوات أن يتم الله عليهم نعمته ويقيهم شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، وبتذكيرهم بقول ربّهم: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)) (الأنفال: 26-29).
وإذْ نُعَبّرُ بهذا عن حُبّنا وولائنا لإخواننا السوريين، وعن حرصنا عليهم وصدقنا في توجيه النصح لهم؛ نتقدّم إليهم بهذه الجملة من النصائح والفتاوى:
أولًا: إنّ الاجتماع على القيادة والحكومة والإدارة الحالية هو المصلحة التي يقرّها الشرع وتدعمها أصول الشرعية وقواعد السياسة الشرعية؛ وعليه فإننا ندعو السوريين قيادة وحكومة وشعبًا إلى أن يتحركوا في ظلّ هذا الوضع الشرعيّ المؤقت نحو بناء مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، وأن يضعوا خطة متدرجة لإقامة شرع الله بلا تعجل يحرق المراحل ويستدعي المعوقات، ولا تسويف يعطل الشريعة ويفوت الفرص، وإذا كانت التحدّيات ضخمة وهائلة ومخيفة فإنّه بحسن التوكل على الله تُذلَّل الصعاب: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق: 3).
ثانيًا: إنّ تقوية المجتمع وتأطيره بشكل صحيح، وبناء مؤسساته الأهلية المستقلة – ولاسيما الدعوية والتربوية والعلمائية – هو الضمانة الكبيرة للحفاظ على مكتسبات الثورة؛ فيجب على النظام الحاكم أن يكثر من التشجيع والتيسير ويقلل التدخل، اللهم إلّا بالدعم اللوجستيّ والحماية والتوجيه، ويجب على العلماء والصلحاء وكافة المكونات الخيرية والتطوعية والفكرية والأكاديمية أن يبادروا إلى ذلك، وألّا يترددوا أو يتوقفوا، ويجب على الشعب السوريّ أن يبادر بالعودة إلى بلده لتعميرها وتقوية البعد الديموغرافيّ فيها، فهجرة السوريين إلى بلدهم ولاسيما في أيّامنا هذه مستحبة، وقد تجب في بعض الحالات على بعض الناس، وهذه يصدق عليها قول الله تعالى: (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء: ١٠٠).
ثالثًا: ينبغي للعلماء أن يرتقي خطابهم إلى المستوى الذي يناسب المرحلة ويلبّي مقاصد الشريعة الغراء، فلا يثير خلافات مذهبية أو عرقية أو عشائرية، ولا يغرق في أمور جانبية هامشية تاركًا النوازل الكبرى بلا معالجة شرعية دعوية رشيدة، وليعلموا أنّ المجتمع في حاجة إلى إعادة هيكلته وتربيته وجدانيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا، وهذا واجب لا ينهض به ولا ينهد له إلا أصحاب الهمم وأهل الإخلاص، فلْيدَعوا الخلاف والنزاع، وليهجروا مواطن الفتن، ولينهضوا للواجبات الكبرى والأدوار العظيمة التي تنتظرهم، ولْيقدموا النصح للراعي والرعية؛ فإنّ: (الدين النصيحة)، وليكونوا قدوة للأجيال في الشجاعة وقول الحقّ.
رابعًا: لا يسوغ للناس أن يكثروا من التثريب على النظام ولا على القيادة والحكومة فيما تقيمه من علاقات دبلوماسية مع دول ليست متلبسة في الحال بعدوان عسكريٍّ أو تآمريّ على مسلمين، ولا في تأجيل مواجهات لا تقدر عليها مع أعداء متربصين، ولا في استدامة اتفاقاتِ وقفٍ لإطلاق النار مع العدو الصهيونيّ؛ ما دام الحال حال ضعف واضطرار، فمن المتفق عليه أنّ حال الضعف والاضطرار يختلف في كثير من الأحكام عن حال القدرة والاختيار، أمّا ما نربأ بالنظام أن يدخل فيه فهو الدخول في التطبيع أو في الاتفاق الإبراهيمي مع العدو الصهيونيّ؛ لأنّ هذا مآلاته إلى فشل وخراب
خامسًا: ينبغي للنظام أن يقف في تعامله وفي عدله وإحسانه على مسافة واحدة من جميع الموطنين: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)) (الممتحنة: 8-9)، ويجب عليه ألّا يتهاون مع المجرمين الذين يستقوون بإسرائيل وغيرها ويبغونها فتنةً واحترابًا أهليًّا، وألّا يبطئوا عن محاسبة المتورطين من عناصر النظام السابق ورموزه في قتل الشعب وتهجيره وتدمير البلاد وتجريفها، وأن يكون دائمًا على يقظة من المجرمين.
سادسًا: الشورى منهج الحكم في الإسلام، فالمسلمون في وضعهم الطبيعيّ يكونون على هذه الحال: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (الشورة: 38)، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الآيات التي نزلت في عقب غزوة أحد، وذلك على الرغم من أنّ المشورة التي غلبت كانت مضرة، فقال عزَّ وجل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع الشورى قطّ في أيّ أمر ذي بال، ولا سيما أمور الشأن العام، فينبغي للنظام الحاليّ أن يوسع دائرة الشورى، وأن يتخلى عن المركزية الضيقة في اتخاذ القرارات، وليعلم أنّ البركة في الشورى مهما بدا للمرء خلاف ذلك، وإلا فلمَ أمر الله بها ولِمَ حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها؟ ومن استقرأ دوائر الشورى في العهد النبوي والعهد الراشديّ تبيّن له أنّها تتعدد وتتباين بتعدد وتباين المواقف، فهناك دائرة أهل الحل والعقد وهناك دائرة الأمة وهكذا.
سابعًا: المهاجرون الذين وفدوا إلى سوريا ليلبّوا نداء إخوانهم ويشاركوهم جهادهم .. قد تركوا أهلهم وديارهم وأموالهم ومصالحهم ودنياهم؛ ليغيثوا المسلمين؛ فلا يجوز – قطعًا – التضييق عليهم ليبحثوا لأنفسهم عن ملجأ آخر، بل الواجب هو إكرامهم وحمايتهم وتقنين أوضاعهم.
ثامنًا: ويجب في المقابل على كافّة الفصائل – ولاسيما المهاجرين والدوائر الأمنية – أن يتوفر لديهم الانضباط الحركيّ، فلا يحدثوا شيئًا إلا بالرجوع إلى المسئولين، ولا يروجوا شائعة من الأمن أو الخوف، بل عليهم أن يردوها إلى المعنيين؛ عملا بقول الله: (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَاّ قَلِيلاً) (النساء: 83)، ويجب على جميع الأطراف أن يتعاونوا على الخير لا الشر: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (المائدة: 2)، وأن يجمعوا بين واجبين: واجب السمع والطاعة للأمير، وواجب النصح للأمير وممارسة الحسبة السياسية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تاسعًا: يعدّ الفساد من أكبر الأسباب المفضية للفشل، والتجربة السورية بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة موضوعة في اختبار عسير، فيجب أن تكون قدوة للمسلمين وللناس أجمعين، بالاستعلاء على فتن الدنيا، كفتنة المال وفتنة السلطة وفتنة النساء والجنس، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من أن تُفتح عليهم الدنيا فتفتنهم كما فتنت الذين من قبلهم وتهلكهم كما أهلكتهم.
عاشرًا: على الجميع أن يقدموا حسن الظنّ وأن يصبر بعضهم على بعض، وأن يقدر الشعب للحكومة سعيها الحثيث الدءوب وسط تحديات تنوء بحملها الجبال، وأن تقدر الحكومة للشعب أنّه تعرض لما لم يتعرض له شعب على مدى التاريخ البشريّ؛ فإنّه إن ساد بين الجميع التراحم حلّت عليهم رحمات ربّ العالمين، فالراحمون يرحمهم الرحمن .. هذا والله المستعان.