أقوى تهديد يصدر من واشنطن ضد الحكم السوري، هو ذاك الذي صدر في صورة “نصائح” يقدمها المبعوث الأمريكي لسوريا توماس براك في مقابلة له مع وكالة رويترز للأنباء، الثلاثاء (22 يوليو)، وأوضح شروط هي تلك التي ساقها في هذه المقابلة.
ومن خلالها تظهر الاستراتيجية الأمريكية جلية، يدركها من شاء أن يدركها، ويدفن رأسه في التراب كالنعام من شاء أن يحسن الظن بواشنطن حد البلاهة!
براك الذي ينحدر من أسرة لبنانية كاثوليكية هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحتفظ باستثمارات في الخليج العربي، قد رسم ملامح تلك الاستراتيجية، في صورة “نصائح” كتلك التي كان “ينصح” بها المسؤولون الأمريكيون الرؤساء قبل أن يحركوا الراكد لخلعهم إذا ما انتهى دورهم أو أمرهم. أو لكيلا ينطلي علينا الدجل الأمريكي بوصف شروطها بـ”النصائح”، فالمفهوم من إملاءات واشنطن هو وضع الخطوط العريضة لسوريا التي يريدون.
وبموجبها لن يكون لسوريا هذا الجيش “الإسلامي”، فلابد أن تتغير عقيدة الجيش، وهيكله كذلك، وكذلك الأجهزة الأمنية، والحل ميسور: تساهم دول الجوار في جعل عقيدة هذا الجيش كنظائره من الجيوش الوظيفية المستأنسة.
وعلى “الحكام السنة” – على حد تعبير براك – “توسيع دائرة الحكم لإشراك الأقليات بسرعة” وإلا “في غياب التغيير السريع، فإن الشرع يخاطر بفقدان الزخم الذي دفعه ذات يوم إلى السلطة”. وإذا كان الشرع بالفعل يُشرك الأقليات بنسب تفوق حجمهم في الحكومة، فإن المفهوم لدى براك، وتفسره القائمة بأعمال السفارة الفنلندية في سوريا، آني ميسكانين – في مقابلة مع العربية – بوضوح أكثر: “النساء على قدم المساواة، والأقليات مشاركة كاملة ومتساوية” أي أن الغرب، الذي تقوده أمريكا يريد تمثيلًا كبيرًا للأقليات الدينية يفوق أحجامها بمراحل، ففي أقصى تقدير حقيقي تبلغ نسبتها نحو 14% من تعداد السكان، فيما تبلغ الأقلية العرقية الكردية المسلمة نحو 6% من تعداد السكان.
المفهوم من كلام براك أن الجيش لابد أن يخرج منه “المتطرفين”، وقد أشار إلى ذلك بشكل ملتوٍ بقوله: “مسلحو تنظيم داعش ربما كانوا متنكرين بزي حكومي”، ونفذوا “مجازر في السويداء”، ولابد للجيش والأجهزة الأمنية أن تغير هياكلها بمعاونة أدوات واشنطن في المنطقة، وتتغير عقيدتها القتالية والأمنية لتصبح مدجنة، والأقليات يجب أن تقوض حكم الأغلبية بتوغلها في مفاصل الحكم (مثلما يحصل حاليًا بالفعل عبر تسكين شخصيات من نظام بشار الأسد في هياكل الدولة الرئيسة، بمستو مقلق لكنه لا يرضي براك). والمفهوم أيضًا أن ما بات معلومًا من أمر السويداء بالضرورة، وهو أن ميليشيات الهجري الانفصالية هي التي ارتكبت جرائم حرب متوالية، ذبح وقتل واغتصاب، ثم دفن جماعي دون تحديد مصائر الضحايا مع الأمن الداخلي والعشائر، كل ذلك “يجهله” براك، بل يقذف بكرة اللهب إلى دمشق متهمًا إياها إما بالتستر على داعش أو الفشل الذريع في مناهضتها حد اختراق التنظيم للجيش السوري!
وتغيير طريقة الحكم السوري الحالي بالغة الأهمية، لئلا يصبح مصير سوريا “مثل أفغانستان أو ربما أسوأ”، وهذا رهين تغيير تفكير الشرع نفسه، يقول براك: “ينبغي للشرع أن يتكيف بسرعة، لأنه إن لم يحصل ذلك، فسيفقد الدعم المحيط به، وبإمكانه أن ينضج كرئيس.. الصواب أن أتخلى عن نهجي الذي لا يُجدي نفعًا”.
ثم المفارقة أنه يوجه النصح لـ”إسرائيل” أن تبادر بالتطبيع مع سوريا، وكأن هذا التوجه لم تسع إليه تل أبيب طول نصف قرن لم يجد نظام الأسد نفسه جاهزًا للتورط فيه، فيتحدث براك – بخبث –: “رسالتي إلى إسرائيل هي إجراء حوار لتخفيف المخاوف بشأن “الزعماء السنة الجدد” في سوريا، وإن الولايات المتحدة يمكن أن تلعب دور “الوسيط” للمساعدة في حل أي مخاوف”.
التطبيع كذلك شرط لبقاء نظام أُفقد منذ البداية قدراته الدفاعية، وصار متجردًا من كل سلاح يمكنه أن يصمد أيامًا أمام زحف “إسرائيلي” لا تخشاه واشنطن وتل أبيب إلا من جانب المقاومة الشعبية المتوقعة في حال انفرط عقد الدولة السورية حاليًا. ولهذا، كانت خطوة باريس (دولة “الاستعمار” السابقة لسوريا، وصاحبة “اختراع” دول الطوائف في الشام قبل مائة عام)، لإنجاز خطوة تطبيعية بين سوريا والكيان المحتل هائلة تمثلت في الاجتماع غير المسبوق الذي عقده وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وزير الشؤون الإستراتيجية “الإسرائيلي” رون ديرمر في باريس، الخميس (24 يوليو). حيث أُرغمت دمشق على هذه القفزة في الهواء دون أي ثمن مقابل سوى بقاء النظام، في وقت تدك فيه “إسرائيل” غزة وتحاصرها حد المجاعة القاتلة!
براك أراد أن يأخذ من دمشق كل ما يريد ولا يمنحها في المقابل أي شيء، فهو يحضر الاتهام للجيش بالإرهاب والتستر على دواعش، ويحقق لـ”إسرائيل” أكبر مما تتمناه في سوريا، ويعطي للأقليات حصانة وموافقة ضمنية لتفعل ما يحلو لها، وها هي السويداء أصبحت تحت حكم الهجري حقيقة حتى الآن، وتُوِّج “محررًا لها من السنة”، لاسيما مع تراجع دور شيخي العقل الآخرين، الجربوع (المختفي) والحناوي (المريض)، وها هو مظلوم عبدي يماطل ويملي شروطه.. ثم بعد كل ذلك ينفض براك يديه من كل التزام، قائلًا: “الولايات المتحدة لا تملي الشكل السياسي لسوريا، باستثناء الاستقرار والوحدة والعدالة والشمول” ثم يعود ناكصًا في أمر “الوحدة”، بتمهيد الطريق للتقسيم، لأول مرة في الخطاب الأمريكي، قائلًا: “إذا انتهى الأمر بحكومة فيدرالية، فهذا قرار السوريين، والجواب عن هذا السؤال هو “أن الجميع قد يحتاجون الآن إلى التكيف”!
ما تريده واشنطن من سوريا، هو إفراغ الثورة من “استقلاليتها المتبقية”، وإخراج المتدينين من الجيش، والتمكين للأقليات، وإعادة وجوه من سلطة بشار إلى الواجهة، وتحديد الاستثمارات في نطاق دولة دمشق القديمة، وربما التمهيد لممر داود الصهيوني الذي لا يوقفه التطبيع، بل يُسرع به، وتشويه سمعة الحكم، والعمل على تدني شعبيته، لابتزازه أكثر، وبسط السبل للفيدرالية أو التقسيم على حدود مقاربة لحدود الشام بعد تقسيمها في العام 1920م. أو في ظلال اتفاقية بارو-براك (سايكس – بيكو المعدلة)!
وما تريده واشنطن، لابد أن يكون في مقابله ما تفرضه دمشق، ولو عبر حرب ضروس، حرب لم تُخض “بضراوة” في الأيام التي سبقت 8 ديسمبر الماضي، وبالتوازي: اختراقات سياسية تسحب البساط من تحت أقدام المغرضين والمتآمرين، وتحسم بعض الملفات، للتفرغ لأخرى. تبدو الحكومة السورية واعية لذلك، لكن التحدي كبير قد يفوق قدرتها على تجاوزه بالوتيرة والسياسة الحاليين.