• تدريجُ الأفكارِ الصَّلِيبيَّةِ

لا تجرؤ أعتى الديكتاتورياتِ العربيّةِ على بَحثِ سُبُلِ مكافحةِ “التسلّلِ المسيحيّ” أو “اليهوديّ” علنًا، كما تفعلُ فرنسا.

فرنسا لم تُناقِشْ هذه المسألةَ علنًا -على كُلِّ ما يحملهُ التعبيرُ من إساءةٍ إلى الإسلام- فحسْب، بل إنّ رئيسَ جمهوريتِها “ماكرون” قد دعا إلى اجتماعٍ لمجلسِ الدِّفاعِ في قصرِ الإليزيه، عقبَ تقريرٍ كاذبٍ رُفِع إلى وزيرِ الداخليّة، مُتَّخِذًا هذا العنوانَ الصادِم.

تجنَّدتْ فرنسا من أجلِ البحثِ عن سُبُلٍ لوقفِ انتشارِ الإسلامِ فيها، أو -إذا كُنَّا دقيقين أكثرَ- لِكبحِ الانتشارِ النِّسبيِّ للإسلام، قياسًا بالتَّراجُعِ الشديدِ في التمسُّكِ بالمسيحيةِ في قلبِ مَصدرِ الحملاتِ الصليبيّةِ ومأرِزِها.

باختصارٍ، لدى فرنسا قانونٌ يُسمّى “قانون الفصل” أو “الانفصال”، مضى على إقراره 120 (مائةٌ وعشرونَ) عامًا، ولم يكن حينَها المسلمونَ بهذا الحجمِ في فرنسا، ولا ذاك الحضور، وبالتّالي؛ فإنّ القانونَ تحدَّث عن فصلِ الدِّينِ عن الدولة، وحُرّيّةِ التعبيرِ والاعتقاد، وسمَحَ بالحُرِّياتِ العامّةِ والخاصّة، ولم يستثنِ المسلمينَ.

ولقد عَمَدتْ فرنسا أوَّلًا، في (17 فبراير 2021م)، إلى مكافحة ما تُسمِّيه “الانفصاليَّة الإسلاميَّة” -عبر قانونٍ أُقِرَّ في هذا التاريخ-؛ أي: إقامةُ مجتمعاتٍ إسلاميَّةٍ معزولةٍ داخلَ فرنسا تُقيمُ الشَّرعَ داخلها. ثم إنّها، مِن بعدُ، قد وَجَدَتْ أنّ هذه المكافحةَ إنما تتحدَّث عن توجُّهٍ محدوٍد، أو لنَقُلْ: حظرٍ محدودٍ لممارساتٍ إسلاميّة (رغم أنَّ فرنسا مِن أكثرِ الدُّولِ الأوروبيَّةِ فاشيَّةً في هذا الاتِّجاه)، فبدأت في البحث عن وسائلَ أخرى لكبحِ انتشار الإسلام وتأثيره في فرنسا، والتضييقِ على مُسلميها بأشدِّ ما يمكنها فِعلُه ضمنَ هامشِ المُتاحِ قانونًا، والذي تُحاولُ جعلَه أكثرَ “مُرونةً” و”شُموليَّةً” ليتجاوزَ ما حدَّده قانونُ الفصلِ السَّابق، والذي لم يُراعِ حجمَ المسلمين وتأثيرَهم.

الآن تُريد فرنسا أن “تُصحِّحَ خطأَها” -فيما تزعُم- فتداعى قانونيُّوها ومفكِّروها لبحث المسألة. يقول فرانك فريغوسي، دكتور الأدب الفرنسي، وأحدُ المهتمِّين بتأثير الإسلام في فرنسا: “عقَدَ المقرِّرون ولجنةٌ جلساتِ استماعٍ، وسافروا داخل فرنسا وخارجها؛ استطلعوا آراءَ -بما في ذلك رأيي- أكاديميِّين وخبراءَ في القضايا الإسلاميّة. كما يتضمَّن التقرير قِسمًا كاملًا يتعلَّق بالأجهزةِ الأمنيَّةِ لم يُنشَر بعدُ”.

ثم أصدر وزيرُ الداخليَّةِ الفرنسيُّ، رئيسُ الحزب الجمهوريِّ “برونو ريتايو”، المعروفُ بطموحاته الرئاسيَّةِ، هذا التقريرَ، الذي كُلِّف بإعدادِه سلفُه “جيرالد دارمانان” قبل أكثرَ من عام، ثم سرَّبَ ريتايو مقتطفاتٍ منه إلى صحيفة لوفيجارو [1]. وحينها استخدم الوزير تعبيرًا مُثيرًا للقلق حين صرَّح بأن “الهدف النهائيَّ هو إغراقُ المجتمع الفرنسيِّ بأكمله في الشريعة الإسلاميّة” المهدِّدةِ للجمهوريّة. لكنَّ استنتاجاتِ التقرير لم تُثبتْ رغبةَ المسلمين الفرنسيِّين في إقامة “دولةٍ إسلاميَّةٍ” في فرنسا أو تطبيقِ الشريعة الإسلاميَّة، على عكسِ تصريحاتِ وزير الداخليَّة! لكنَّها الإرادةُ السياسيَّةُ والدينيَّةُ الطاغيةُ التي انحرَفتْ بنتائج التقرير عن مَسارِه؛ فحَمَلَ التَّرهيبَ والقلق.

وكعادتهم، لم يرغبوا في اتِّهام الإسلام مباشرةً (إلّا في شكل كتاباتٍ موازيةٍ للتقرير)؛ فاستعاروا التُّهمةَ من النُّظُم العربيَّة، مُشيعِينَ أنّ ثَمَّةَ حركةً مُمنهَجةً لـ”أَخْوَنةِ المسلمين”، ومِن ثَمَّ “أَخْوَنةِ الدولة” لاحقًا؛ فوَضَعُوا خطَّةَ تحجيمِ المسلمين، نُفوذًا وعبادةً، تحت قُنبُلةِ “الأَخْوَنةِ” الدُّخانيَّة.

نِقاشٌ بَرْلمانيٌّ:

هذا “القلق” وتلك “الأخونة”، كانا محورَ نقاشٍ في مجلسِ الشيوخِ الفرنسي، جرى في أواخرِ مايو الماضي، وفيه تمَّ هذا الاستجوابُ من النائبِ “أندريه رايشاردت” عن الحزبِ الجمهوري، في 22 مايو الماضي، لوزيرِ الداخلية برونو ريتايو، إذ يقول له:

“معاليَ وزيرِ الدولة، لقد ذكرتَ بنفسِك أنَّ هذا التقرير مُدانٌ ومُقلق؛ فما هي الإجراءاتُ التي تنوي الحكومةُ اتخاذَها ردًّا على هذه الملاحظة المُخيفة؟”

فيُجيب الوزير: “السيناتور أندريه رايشاردت، بالطبع هذا التقرير مُقلق”، ويضيف: “أُشيرُ إلى أنَّ الدُّولَ الأكثرَ تشدُّدًا تجاهَ الإخوانِ المسلمين ليستِ الديمقراطياتِ الغربيةَ، بل الدُّولَ الإسلامية”، ويُوضِحُ: “هناك فرقٌ كبيرٌ بين ما يُسمَّى بالانفصالية والتسلُّل؛ فالانفصالية تتمثَّل في بناءِ مجتمعاتٍ مضادَّةٍ صغيرةٍ، منفصلةٍ عن المجتمعِ الوطني، بينما يميل التسلُّلُ إلى إجبارِنا على تعديلِ قواعدِنا الخاصةِ بشكلٍ جذريٍّ، وهو ما يهمُّ مجتمعَ المواطنين بأكمله. وسواءٌ هذا أو ذاك، فالحاصلُ هو نفسُ المصفوفةِ السياسيةِ التي ابتكرها الإخوانُ المسلمون بَدْءًا من عام 1928م، ولم تتغيَّر منذ ذلك الحين. إنَّها تقوم على سيادةِ الشريعةِ الإسلامية على قانونِ الجمهورية، وعلى تحقيرِ مكانةِ المرأة، وعلى معاداةِ السامية تحتَ ستارِ معاداةِ الصهيونية”.

ويختصر الوزيرُ هدفَ التقريرِ في التصدّي لتهديدَيْنِ: “الأول يتعلَّق بالطابَعِ الجُمهوريِّ لفرنسا والتماسُكِ الوطنيِّ، وعلاجُه في تنظيمٍ أفضلَ للدولةِ مع الأجهزة الأمنية وحلِّ المؤسَّساتِ (الإسلامية المستهدَفة). والثاني بالدوائر المالية، فمن الضروري فهمُ كيفيةِ نقلِ ممتلكاتٍ وأصولِ “بركة سيتي” إلى المملكة المتحدة بعد حلِّ الجمعية. وبالمثل، كيف نُقلت ممتلكاتُها وأصولُها إلى بلجيكا بعد حلِّ “التجمّع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا” (CCIF). فثمَّةَ ثغراتٌ في هذا الصَّدَدِ يجب سدُّها”[2] .

لكنْ كيفَ تمَّ إعدادُ هذا التقريرِ المُنحازِ ضدَّ الإسلامِ تحتَ غطاءِ مكافحةِ الإخوانِ المسلمين؟

زار مُعِدُّو التقريرِ عشْرَ دوائرَ فرنسيةٍ وأربعَ دُولٍ أوروبيةٍ، وعقدوا أكثرَ من ألفَيْ جلسةِ استماعٍ، وَفْقًا لقصرِ الإليزيه. وبالإضافةِ إلى الأدبيَّاتِ العلميةِ المتاحةِ حولَ هذا الموضوع، التقوا بنحو أربعين أكاديميًّا، وقادةٍ مسلمين على المستوييْنِ الوطنيِّ والمحليِّ، ومختلفِ الإداراتِ المعنيةِ بتحليلِ الظاهرةِ الإسلاميةِ ورصدِها. ومع ذلك، يُؤكِّدُ المُعِدُّون أنَّ “الملاحظات” التي يُعِدُّونها هي “مستقِلَّة” عن “العملِ الذي تقوم به الأجهزةُ المتخصِّصة”.

وبالنظرِ إلى ردودِ الأفعالِ على التقريرِ نفسِه؛ فإنَّ قِلَّةً من نوابِ الأحزابِ اليسارية هم مَن يقِفُون في صفِّ المعارضين لتنفيذِ تَوْصِيَاتِ التقرير، وكذلك بعضُ نشطاءِ اليسارِ وإعلاميُّوه. وما عدا ذلك، فالمِزاجُ العامُّ في الحياةِ السياسيةِ والثقافيةِ الفرنسية طافحٌ بالانحيازِ والتجييشِ ضدَّ المسلمين. وبالتالي؛ فلا غرابةَ في أن يخلُصَ التقريرُ إلى ما خلُص إليه، ثمَّ أن يَستندَ مجلسُ الدفاعِ الأعلى إليه للبدء بحملةِ ملاحقةٍ للمؤسَّساتِ الإسلامية.

                                                                                                        وللحديثِ بقيَّةٌ

 

[1] لي فيغارو 8/5/2025

[2] نُشر في الجريدة الرسميَّةِ لمجلس الشيوخ بتاريخ 22/05/2025 – الصفحة 5902.

اترك تعليق

نشرتنا البريدية

إشترك معنا لكي يصلك كل جديد

التواصل الاجتماعي

بيانات التواصل

905539590432+
rabitah.maktab@gmail.com
رابطة علماء المسلمين

© جميع الحقوق محفوظة لدي رابطة علماء المسلمين 2023 برمجة أنيما ويب