أشدُّ التلبيس وأعظمه ما كان باسم الدين والعلم، ويقوم عليه رجال بِلِحًى وعمائم، حينها يعظم الخطر ويستفحل.
وفي حرب غزة سقطت كثير من الأقنعة، وانكشف كثير من الزيف، ونَجَمت ناجمةُ النفاق، وانتكست الفِطَر، وانقلبت المفاهيم، ونُقضت الأصول.
وممن عَرَّتهم الحرب وفضحتهم وأَخْزتهم: المداخلة، ويعرفون كذلك بالجامية، وغلاة الطاعة.
الحرب والجهاد في فلسطين ينبغي أن يكون عند الأمة محلَّ إجماع واتفاق؛ ذلك أن العدو ظاهر بيِّن لا لَبس في عداوته ولا خفاء، وقد اتفق العالَم -إلا من شذَّ- على تجريمه، وهو مع ذلك لا يُخفي أطماعه التوسعية، ويمارس العربدة والبلطجة في قلب بلاد الإسلام، وينشر الفساد والدمار فيها ليتسيَّد المشهد. ومجاهدوه في جملتهم من أهل الإسلام والسنة، يقاتلون لتحرير مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب البلاد إلى الله تعالى بعد مكة والمدينة، وينُوبون في قتالهم عن أمة نائمة غافلة عن عدوٍّ يَسبح ماكرا لاستباحة بيضتها.
فهذا الجهاد لا ينبغي أن يختلف فيه الناس، مع التسليم بوجود أخطاء هنا وهناك تحتاج إلى مراجعة وتصحيح وتقويم، لكنها لا تعود على أصل الجهاد بالبطلان؛ وإلَّا ما صح في الأمة جهاد من بعد الراشدين، كما وأنها لا تنفي الخير الكثير الموجود بحمد الله تعالى.
أكثر وأفجر من حارب الجهاد في غزة وعاداه وافترى على أهله هم المداخلة.
وحتى لا يكون الكلام مُرسلا فإني أشير في نقاط إلى معالم هذا الخطاب وأوصافه الغالبة عليه حتى لا ينخدع به الناس، وتستبينَ سبيلُ أهله العوجاء.
1- خطاب كاذب:
المداخلة قوم بُهْت مع خصومهم، لا يتورعون عن الكذب لتحقيق أغراضهم ومآربهم.
ومن شواهد ذلك في حرب غزة: قول بعض كبارهم: إن هذه الفيديوهات التي ينشرها المجاهدون كاذبة (مُفبرَكة) ليست حقيقية.
ولا أظن الرجل بلغ به الجهل أن تخفى عليه حقيقتُها، ولكن في سبيل عداوة الإخوان والجهاد والمجاهدين لا بأس من الكذب.
ومن ذلك قول جماعة منهم: حماس جماعة أنشأها اليهود من أجل تمرير مخططاتهم الخبيثة.
بالله هل يقول هذا عاقل؟! لا والله، لكن القوم لا عقل لهم.
وكذبهم هنا لا يمكن تتبعه: لكثرته؛ فالقوم يتوافرون على الكذب وينقله بعضهم عن بعض، ولِعدم جدوى ذلك؛ فأكثره مفضوح مكشوف لا ينطلي حتى على أبلد الناس.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أنِّي لا أُورد من كلامهم إلا ما قاله كبارهم والمعروفون فيهم.
وأنبه كذلك إلى أن كلامهم في غالبه منصبٌّ على حركة حماس؛ وذلك للخصومة الشديدة بينهم وبين الإخوان عموما، وحماس تمثلهم في غزة. ومعلومٌ أن حماس لا تجاهد وحدها في غزة، وإن كان عناصرها هم الأكثرَ عددا وقوة وتأثيرا في المشهد.
2- خطاب جاهل:
المداخلة يتمسَّحون بالعلم، ويُلصقون أنفسهم بأهله لترُوج على الناس بضاعتُهم، لكنَّ سنة الله جَرَت بفضح الأدعياء.
ومن شواهد جهلهم في حرب غزة: قول بعضهم: إنَّ قتلى غزة ليسوا شهداء؛ لأن القتال في حقهم لم يُشرَع أصلا.
وهذا يردده كثير منهم لا كثرهم الله ولا بارك فيهم.
فتأمل نفيَه الشهادة عن كل من قاتل في غزة، ثم تأمل تعليله بأن القتال لم يُشرع في حقهم أصلا!
هل يقول هذا من اشتمَّ رائحة العلم؟!
كيف تحكم على ألوف مؤلفة من الشباب المجاهدين بأنهم ليسوا شهداء؟!
وانتبه؛ فإنهم لا يَسلبون المجاهدين الشهادةَ ورعا وعملا بظواهر بعض الأحاديث الواردة في الباب، والتي لم يفهموها، وإنما يقصدون أنهم ماتوا مِيتة جاهلية تحت راية عِمِّيَّةٍ خارجية.
أمَّا أنَّ الجهاد لم يُشرع في حقهم فإنهم يعللون ذلك بأمور، منها: أن القدرة هنا منتفية، وهي شرطٌ للوجوب، بل للجواز أيضا؛ فآل الأمر إلى عدم المشروعية.
وهذا مخالف لإجماع أهل العلم من أن العدو الصائل المعتدي يُدفَع بحسَب الإمكان.
والقوم لا يفرقون بين الدفع والطلب، ولا بين شرط الوجوب وشرط الجواز، ولا بين بَدء الحرب والانغماس فيها.
وهذا الأخير مهم؛ فإننا لو سلمنا بأن إعلان الحرب كان خطأً مخالفا للشرع= فالكلام الآن ليس فيه، وليس في النقاش حول كونه من الطلب أو الدفع، بل الكلام في أمر واقع لا محيدَ عنه، وهو صيال العدو على الأرض والدماء والأعراض، فقتاله والحالة هذه قتال دفع لا طلب بالاتفاق.
3- خطاب خائن حاقد:
لا يُخفي المداخلةُ حقدهم على خصومهم، بل يتقربون إلى الله تعالى بذلك؛ فهم يرونهم مبتدعةً ضُلالا يُتبرَّأ منهم كما يُبترأُ من اليهود والنصارى والكفرة والمشركين.
بل صرَّح بعضهم أثناء الحرب على غزة أنه يَبرأُ إلى الله من حماس، وبعضهم زاد على ذلك بأن دعا الله أن ينتقم منه ويهزمهم.
وكلامهم في هذا كثير أعرضت عنه لقُبحه ودناءته.
وهو كما ترى يناقض أصول الشريعة وقطعياتها التي يزعم القوم التمسكَ بها.
ولو أنك أغْربت جدا في الاحتجاج له وتطلُّب الدليل عليه ما أسعفتك الأدلةُ والنصوص وكلام أهل العلم بشيء يمكن الاعتماد عليه والاستمساك به.
وهكذا فإن القوم لا تحركهم الأدلة، ولا تهمهم النصوص إذا كان الكلام عن خصومهم، سيما المجاهدين والعاملين للإسلام. ولا يُعْييهم تحريفُها ولَيُّ أعناقها (بل قطعها) في سبيل الانتصار لباطلهم، شأنَ من ينتقدونهم من أهل التحريف وزيادة.
4- خطاب مخذِّل:
المداخلة مُذ نشؤوا لم يكونوا منحازين إلى الأمة وقضاياها وهمومها، بل تراهم أبدًا مع أعدائها وجلَّاديها، ولو سمعت بعضهم وهو يتحدث عن أمريكا ويُثني على طواغيتها لظننته يتحدث عن دولة الإسلام وخليفة المسلمين.
أما تعظيمهم للحكام والأنظمة وغلوهم في طاعتهم والانتصار لهم والدفاع عنهم بالباطل والبهتان= فلا يحتاج إلى بيان، بل هذا شيءٌ عُرفوا به وصار علما عليهم.
وفي حرب غزة سلكوا مسالك قذرةً لتخذيل الأمة عن نصرة أهل غزة ومجاهديها، ومن ذلك:
– الطعن في جهادهم وأنه جهاد في سبيل الشيطان، وأن الجماعات المجاهدة هناك إنما هي عصابات من قطَّاع الطُّرق الخارجين عن السلطان، وعن منهج أهل السنة والجماعة.
– التوهين من شأن الجهاد، وأن جهادنا اليوم ينبغي أن يكون بالعلم والدعوة. وطار كلام أحد مشاهيرهم يخاطب أبا عبيدة: يا أبا عبيدة، جاهد بالسنن إن كنت صادقا، أعظم من الجهاد بالسيوف… إلخ كلامه الساقط الذي آل سُبَّة وعارا عليه وعلى طائفته.
– دعوتهم إلى عدم مقاطعة المنتجات الأمريكية واليهودية، وأن هذا ليس من شأن الناس، وإنما هو من شأن ولي الأمر، وبلغ الحال ببعضهم أن يصور نفسه في بعض المطاعم وهو يشرب (ستاربكس) ويتندَّر بمقاطعتها.. مشهد في غاية السقوط والخسة والدناءة. والشيء من معدِنه لا يُستغرب.
– دعوتهم المسلمين إلى عدم متابعة ما يجري في غزة فضلا عن النصرة، وأن هذا ليس من شأنهم، بل من شأن ولي الأمر. ووالله لو كان أولياء أمورهم قائمين بشيء مما يجب عليهم لهان الخَطب، فكيف وأحسن أحوالهم أنهم خاذلون غارقون في الذل والضعف والمهانة والتبعية!
وثبت بالأدلة اليقينية خيانة جماعة منهم وتواطؤهم مع عدونا وإمداده بالمال والعدة والعتاد، وفتح ممراتهم له. أفيُطمع فيمن هذه حاله، ويُرجى منه قليل أو كثير؟!!
ولا يتسع المقام هنا لاستيعاب طرائقهم وأساليبهم الخبيثة في تخذيل الأمة وتنويمها، والأمة تجاوزتهم ولَفَظَتْهم بحمد الله تعالى ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
5- خطاب متناقض:
التناقض سمة بارزة ظاهرة عند القوم، لا تخطئها عينك وأنت تتأمل مقولاتهم.
وما من شيء أخذوه على خصومهم وجرَّحوهم به وعادَوهم لأجله إلا فعلوه وزيادة، أو فعله أولياؤهم ومن يُغالون في طاعتهم.
وخذ مثلا على ذلك ما نحن فيه من حديثهم عن الجهاد في غزة، وأنه قتال فتنة وعصبية وجاهلية وفي سبيل الشيطان، وأن القائمين عليه قطاع طرق، وأنه شرٌّ كله، وأنه خارج عن السلطان.. إلخ ما يذكرونه وسبق بعضُه.
ولو نظرت في القتال الذي يؤيدونه وينصرونه ويدعون إليه، مثل القتال مع حفتر في ليبيا، والدعم السريع في السودان وغيرهما= لرأيت أنه لا يتحقق فيه شيء مما يشترطونه على غيرهم، ولا يَسلم من شيء من المؤاخذات -على التسليم بها- التي عابوا بها خصومهم، بل هي فيه وأشد.
أفيكون القتال مع حفتر وحميدتي قتالا في سبيل الله، ومع مجاهدي غزة قتالا في سبيل الشيطان؟!! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
وكل ما يأخذونه على الطوائف المقاتلة في غزة من البدع والضلالات والمخالفات -لو سلَّمنا بها- موجود فيمن يخلعون عليهم ألقاب الولاية والإمامة من حكامهم، بل في دولهم من البدع والضلالات والكفر الصريح الذي لا يجادِل فيه أحد، وتراهم مع ذلك يصمتون صمت القبور! بل يسوِّغون لهم ذلك، ويُلبسونه لباس الشرع، وهو منهم جميعا براء.
فإن قالوا: هؤلاء أولياء أمور، ومناصحتهم إنما تكون في السر لا العلن.
فالجواب: وحماس في غزة أولياء أمور، فلماذا لا تناصحونهم سرا؟!
ثم إن النصيحة في السر عند السلف في المنكرات الخاصة التي لا يجاهِر بها الحاكم، فإن جاهر بها تعين على أهل العلم إنكارُها ما لم يترتب على ذلك منكر أكبر منها، والأحاديث والآثار الواردة عن السلف من الصحابة والتابعين تدل على ذلك، وعامتهم عليه كما نقل غيرُ واحد.
وليس المقصود الانجرارَ للنقاش في هذا، فقد سبقت فيه مقالة مفصَّلة.
هذه طريقة القوم، وهذا مبلغ علمهم، وهذه خصومتهم وعداوتهم لأهل الإسلام، وولاؤهم لأهل الكفر والطغيان.
لقد صاروا ضُحْكة الضاحك، وهُزْءَة المستهزئ.
ما امتُحن أهل الإسلام بمثلهم، وما عَرفت الأمة في تاريخها مثل بدعتهم.
أوعية فارغة، وأقلام زائغة، وألسنة طويلة، ودعاوَى عريضة، ما قام للإسلام قائم إلا حاربوه وأسقطوه، ولا جاهد في سبيل الله مجاهد إلا عادَوه وشوَّهوه.
يأخذون على المجاهدين والدعاة الصغائر فيُشيعونها، ويسكتون عن العظائم من أعداء الله وشرعه ويجمِّلونها.
ونحن لا نطلب منهم ولا من غيرهم السكوتَ عن الأخطاء والمنكرات، بل نأمرهم بالقسط والعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وهم والله أبعد الناس عنه.
والكلام يطول في شأنهم، وقد كتب الأفاضل وأهل العلم في الرد عليهم والتحذير منهم كتبا ومقالات كثيرة، وكان القصد هنا بيانَ مواقفهم ومقولاتهم في الحرب على غزة، وكنت قد سميت المقالة: (طليعة تفكيك الخطاب المدخلي المتصهين) طمعا في كتابة شيء مفصَّل بعد ذلك، ثم عدلت عنه إلى ما ترى؛ فإن الغوص في كلام القوم مُمْرضٌ يحتاج إلى لياقة خاصة أخشى ألَّا أقوى عليها، وأرجو أن يكتب الله لنا الخير فيما نستقبل، ويعيننا على طاعته ومرضاته، ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويجعلنا من حزبه المفلحين، وجنده الغالبين، اللهم آمين آمين.
هذا قد وكنت كتبت أصل هذه المقالة أواخر الحرب الظالمة التي توقفت صورةً وهي مستمرة حقيقة وواقعا، ثم أعدت النظر فيها صباح اليوم (الجمعة) الموافق 30 ربيع الآخر 1447، والحمد لله رب العالمين.