بهذه العبارة، يُعبِّر السِّياسيُّ والصَّحفيُّ اليساريُّ الإيطاليُّ (أدريانو سوفري) في صحيفة “إل فوجليو” الإيطاليَّة عما اختلج في نفوس القنَّاصين الأثرياء الخسيسة، الَّذين كانوا يصطادون المدنيِّين المسلمين في سراييفو أثناء حصارها قبل ثلاثين عامًا.

فقد كانوا يرون أنَّ قنص الأطفال يعكس قدرة القنَّاصين أكثر من الكبار، لأنَّ الهدف صغير!

العالم كله شاهد دمويَّة الصِّرب، وشوفينيتهم الشَّديدة، ولمس تواطؤ الغرب والشَّرق مع القتلة، أثناء العدوان الفظيع على المسلمين البوشناق في البوسنة، وتابع – لمدة أربع سنوات – حصارًا مطبقًا على العاصمة البوسنيَّة سراييفو، ذات الغالبيَّة المسلمة، ومع أنَّه قد عاين هذا الإجرام، إلا أنَّ قلَّةً هي من عرفت بتورط مجموعةٍ من الأثرياء من كل الطَّوائف المسيحيَّة الدِّينيَّة فيما سُمِّي بـ”سياحة القنص” أو “سفاري الرُّعب” أو “قناصة عطلة نهاية الأسبوع”، والَّتي دفعوا خلالها أموالًا طائلةً لضباطٍ وجنودٍ صربٍ (بقيادة رئيس جمهوريَّة صرب البوسنة الانفصاليَّة رادوفان كارزاجيتش)، تصل لمائة ألف دولارٍ لاصطياد المارَّة والفارين من القصف في شوارع المدينة المنكوبة آنذاك.

أثرياءٌ من إيطاليا وفرنسا (كاثوليك)، وبريطانيا والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة (بروتستانت)، وروسيا واليونان والصِّرب (أرثوذوكس)، وألمانيا وسويسرا (كاثوليك وبروتستانت)، تكالبوا على المستضعفين من المسلمين، ساخرين من ضعفهم، عابثين بأرواحهم من أجل إشباع ساديَّتهم المروِّعة تلك في التَّباري بقنص المسلمين من فوق الجبال والتِّلال المحيطة بسراييفو.

وهذه الجريمة الَّتي طفت على السَّطح الآن، ثمَّ بدأ يخبو الاهتمام بها في زحمة الأحداث قد كان ورادًا أن ينظر لها المسلمون كحالةٍ فرديَّةٍ لساديِّين أو متعصبين دينيِّين غلبت عليهم شقوتهم، ولم يكن ذلك ليستوقفنا كثيرًا في خضمِّ ما عاناه المسلمون اليوم في غزَّة، وما يعانونه في السُّودان وميانمار وغيرهما، غير أنَّ قصة الكشف عن هذه الجريمة وما تنمُّ عنه ويحيط بها، هو ما يلفت الانتباه، ويأخذ بالتَّفكير باتجاهاتٍ بعيدةٍ نسبيًا عن الجريمة ذاتها، فالَّذي كشف عن الجريمة هي رئيسة بلدية سراييفو السَّابقة كاريتش الَّتي ناضلت من أجل التَّحقيق في الجريمة، وهنا يتكشف أنَّ كاريتش بدأت نضالها منذ العام 2022 ولم يرشح ذلك للإعلام، واستعانت بشاهدٍ من الجنائيَّة الدَّوليَّة الَّي حاكمت قادة الصِّرب، ولم تتكشَّف الجريمة منذ حصول هذه المحاكمات، وتواطأت حكومة البوسنة في إبطاء التَّحقيق، حتَّى لجأت رئيسة البلديَّة للتَّحقيق في إيطاليا، ومن هنا بدأ الاهتمام الإعلاميُّ يحدث!

نحن إذن أمام جريمةٍ يقول عنها السِّياسيُّ الإيطاليُّ (أدريانو سوفري) أنَّها كانت مشتهرةً بين الدُّول، حيث إنَّ “وجود القنَّاصة الأثرياء الأجانب، بحماسٍ وكثرةٍ، كان أمرًا معروفًا للجميع”، تعرف بها الأجهزة الأمنيَّة، وربما بعض وسائل الإعلام لكنَّها طُمست كل هذه السِّنين، وتَشَارَكَ في ارتكابها مجرمون من دولٍ كثيرةٍ لكنَّها مع ذلك لم تجد طريقها لا للنَّشر ولا للتَّنديد ولا للتَّحقيق طوال ثلاثين سنةً.

وهذا بدوره يعطنا مزيدًا من الانطباعات عن أنَّ الرُّوح الصَّليبيَّة من جهةٍ، والإرث الرُّومانيَّ الَّذي كان يتلذَّذ بمشاهدة افتراس الوحوش للعبيد أو قتل العبيد بعضهم بعضًا من أجل المتعة، في مشاهد مفزعةٍ تجمع بين الصَّليبيَّة المتجذَّرة، والرُّومانيَّة الأصيلة عند تلك الدُّول الَّتي إن لم تقتل؛ فإنَّها تصمت وتُخفي بل وتألِّف، فكيف لقارَّةٍ كاملةٍ ينحدر منها جزارون هكذا لا تعلم بما يقترفون؟ بل كيف لها تعلم وتخفي لمدةٍ طويلةٍ هكذا؟ كيف لها إن لم تكن تلك الرُّوح ساكنةٌ بين جوانحها تحرِّك ساديَّتها قتلًا أو صمتًا؟ هذا، ولم يكن صرب البوسنة الَّذين أريد لهم أن يكسروا شوكة المسلمين هم يهود “إسرائيل” بنفوذهم الَّذي ركعت له أنظمة أوروبا حتَّى جافت كل مبادئها اللِّيبرالية آخذةً في قمع متظاهري الحقِّ في غزَّة، فأين نفوذ هؤلاء من أولئك، إن لم يكن الحقد الدَّفين هو المحرِّك والقائد.

ثم كيف لحكومة البوسنة أن تتجاهل كلَّ الشَّكاوى منذ الإبادة الجماعيَّة للمسلمين في تسعينات القرن الماضي، فلا تقيم دعوى واحدةً ضدَّ الصِّرب، وإن قامت أماتتها حتى تلجئ صاحبتها إلى البحث عن “العدالة الضَّائعة” إلى جوار الفاتيكان!

إنَّ الدرس الأبرز من هذه الجريمة الَّتي فشلنا – كمسلمين في الجملة – على إبرازها في كلِّ وسائل التَّواصل والإعلام والدِّعاية للتَّأكيد على أنَّنا دائمًا نحن الضَّحايا لا الجناة، هو أنَّه متى كنَّا طرفًا في صراعٍ أو حتَّى ضحايا مذبحةٍ، فسوف لن نجد الأنظمة الأوروبيَّة في مكانٍ غير مكان القتلة والمجرمين، فإذا ما أردنا دفعًا أو انتصارًا فإنَّ تقييدنا هو مهمة ساسة أوروبا، مثلما قال السِّياسيُّ اليساريُّ الإيطاليُّ أدريانو سوفري:

“حظر الأسلحة لا يهدف إلَّا إلى إبقاء البوسنيِّين هادئين وغير مسلَّحين، بينما يطلق القنَّاصون قوة نيرانٍ غير متناسبةٍ على رؤوسهم”

“بينما كانت المذبحة اليوميَّة تجري هناك دون عقابٍ، والَّتي بلغت ذروتها في مسلخ سريبرينيتشا، فإنَّ دعاة السَّلام هناك، بما في ذلك أولئك الَّذين انخرطوا بصدقٍ وحتى بشجاعةٍ في التَّضامن مع المحاصرين، ضاعفوا إداناتهم ونداءاتهم “ضدَّ أيِّ شكلٍ من أشكال التَّدخل المسلَّح”.

تأمَّلوا هاتين العبارتين جيدًا، فما كان في البوسنة بالأمس، عاصرناه في غزَّة، وسنعيشه في كلِّ مكانٍ قتلًا وتواطؤًا وتمالؤًا وبتلك السِّيناريوهات المتكرِّرة، ما لم نضع اليد في اليد، والكتف في الكتف، واقفين في سبيل الله صفًّا كأنَّنا بنيانٌ مرصوصٌ.

                                                                                                    وللحديثِ بقيَّةٌ…

اترك تعليق

نشرتنا البريدية

إشترك معنا لكي يصلك كل جديد

التواصل الاجتماعي

بيانات التواصل

905539590432+
rabitah.maktab@gmail.com
رابطة علماء المسلمين

© جميع الحقوق محفوظة لدي رابطة علماء المسلمين 2023 برمجة أنيما ويب