دكتاتورة تقود حزبًا يحكم البلاد منذ “الاستقلال” بالحديد والنّار، حان وقت انتخابها؛ فأجرت انتخاباتٍ شكليّة، فازت فيها بنسبةٍ معتادةٍ لدى المستبدين، 98%، بعد أن أزاحت زعيم المعارضة، متّهمةً إياه بالخيانة، فاحتجّ الشّباب ثائرين، ومزّقوا صورها، واندفعوا نحو المطار وبعض المباني الحيويّة في البلاد، فقمعتهم الشّرطة، وقتلت عددًا منهم، وفرضت حظر التّجوال ومنعت الانترنت، وتهيّأت الظّروف لأداء اليمين الدّستوريّة، فأدّته في مدينةٍ خلت من المارّة حينها.
يتداول الشّباب التّنزانيّ والكينيّ والموزمبيقيّ أيضًا بعض المقاطع الّتي تُظهر جثثًا ملقاةً على الأرض، للدلالة على أنّ “مئاتً” من المحتجّين – بينهم أطفال – قد قُتلوا بالرّصاص على يد الشّرطة أو مجموعاتٍ عسكريّةٍ مجهولةٍ جابت الشّوارع لفضّ الاحتجاجات (قالت الأمم المتّحدة إنّهم لا يقلّوا عن 10 قتلى، واتّهمتها الحكومة بالمبالغة، وقدّرتهم المعارضة بنحو 700 قتيلٍ).
بابا الفاتيكان يُظهر تعاطفًا استثنائيًا مع ضحايا العنف ويدعو إلى “الحوار”، ووسائل إعلامٍ فرنسيّةٍ وكينيّةٍ وبريطانيّةٍ وأمريكيّةٍ قد تبنّت بيانات المعارضة عن أعداد الضّحايا، الّذين قدرتهم بالمئات.
بدت صور الاحتجاجات شحيحةً، تضمّ المئات من المحتجين، بينما غمرت صفحات تليجرام وإنستجرام مقاطع قيل إنّها كلّها من تنزانيا تظهر صورًا لقتلى الاحتجاجات.
التزمت منطقة شرق إفريقيا الصّمت عقب الانتخابات الّتي شابتها الفوضى وتخريب مواد الانتخابات.
لم يرسل سوى رئيس مفوضيّة الاتّحاد الأفريقيّ (محمود يوسف) رسالة تهنئةٍ إلى الرّئيس سولوهو، في حين تجنّبت الدّول الأعضاء في مجموعة شرق إفريقيا ورؤساء حكوماتها التّعليق على النّتيجة.
أصدرت مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (SADC) تقريرها الأوّلي لبعثة مراقبة الانتخابات حول الانتخابات الزّائفة والعنيفة في تنزانيا، وهو تقريرٌ لاذعٌ رصد 13 عنوانًا لغياب المصداقيّة عن هذه الانتخابات، أبرزها: التّرهيب والبيئة السّياسيّة غير المستقرّة، والقيود المفروضة على العدالة الانتخابيّة، وضعف استقلاليّة اللّجنة الانتخابيّة، والقيود الدّستوريّة المفروضة على المرشّحين المستقلّين، وغياب تكافؤ الفرص الإعلاميّة، ونحو ذلك ممّا هو معروفٌ من النّظم الدّيكتاتوريّة بالضّرورة.
هكذا يمكن اختزال مشهد الانتخابات التّنزانيّة، وما رافقها من احتجاجاتٍ، كصراعٍ بين حرسٍ قديمٍ ديكتاتوريٍّ، وجيل “زد” الصّاعد الطّامح إلى التّغيير عبر الطّرق الدّيمقراطيّة، الثّائر في وجه الاستبداد.
غير أنّ هذا التّبسيط لا يعكس الحقيقة الكاملة، ففي المعادلة كثيرٌ من المجاهيل…
ومن أخفى تلك المجاهيل أنّ (سامية حسن) لا تواجه احتجاجاتٍ لأنّها ديكتاتورة فحسب.
نعم هي تحكم بقبضةٍ من حديدٍ، واستبعدت منافسيها، وقمعت الاحتجاجات… صحيحٌ هذا كلّه، لكن في الطّرف الآخر لا تقف الدّيمقراطيّة في مواجهة الدّيكتاتوريّة، وإن بدا للشّباب الغرّ ذلك؛ فالذين يؤجّجون المشاعر ليسوا بالضّرورة طامحين في “حكمٍ راشدٍ”، فبعضهم راغبٌ في ضبط الصّوت على موجةٍ غربيّةٍ مستبدّةٍ كذلك، فمجاهيل المعادلة لا يريد هذا الطّرف المستبدّ، ولا ذاك المتترّس خلف جيل زد الحالم أن تظهر للعيان.
وأهمّ تلك المجاهيل، أنّ تنزانيا دولةٌ مسلمةٌ واعدةٌ، بوابة الإسلام الشّرقيّة إلى إفريقيا، يقطنها أكثر من 60% من المسلمين، وفقًا لإحصاءاتٍ قديمةٍ جرى طمسها، وروّج “الاستعمار” ومِن خلفه الحكم الشّيوعيّ الّذي لم يزل جاثمًا على صدور التّنزانيين المسلمين حتى الآن، وإن ارتدى حجاب سامية التي تقسم على القرآن أن تحكم بما يناقضه! المسلمون أغلبيّةٌ لكنّهم لا يحكمون، ولا يتعلّمون – إلا بما تسمح به الكنيسة الّتي تقود من خلف السّتار – ولا ينالون من حقوقهم شيئًا إلا بشقّ الأنفس، وكفاح المخلصين من المسلمين.
ولو كان الغضب لأجل الدّيمقراطيّة؛ فحيهلا، ولتكن ديمقراطيّةً حقيقيّةً، وسيكون حينها رئيس الأركان من المسلمين، على خلاف ما هو حاصلٌ الآن، والبرلمان ذا غالبيّةٍ مسلمةٍ، على خلاف ما نراه، والوزراء جلهم من المسلمين، ثم يليهم الكاثوليك والبروتستانت، ثم الوثنيين، أو العكس، بنسبة الثّلث والرّبع، لكن ذلك ما لا ينادي به “حقوقيو” الغضبة الحاليّة؛ فجانبٌ مجهولٌ أيضًا ممّا لا يراه المشاهد في تلك الصّورة الزّائفة هو أنّ سامية الدّكتاتورة الّتي تمثّل حزبًا شيوعيًا مستبدًّا لا تحارب بسبب ذلك فحسب، بل لأنّها قد تولّت حكم تنزانيا بعد وفاة الرّئيس النّصرانيّ جون ماغوفولي الّذي وافته المنيّة فجأةً في عام 2021 فحلّت نائبته سامية، فأحدثت قدرًا من التّسامح مع المسلمين – ربما لأهدافٍ سياسيّةٍ تخص التّوازن الدّيموجرافيّ في تنزانيا ورغبتها في استقطاب أصوات المسلمين – وقد كان “التّقليد” أن يحكم نصرانيٌّ، فـ “مسلمٌّ”، فلمّا حكمت سامية فترةً، عزّ على الكنيسة أن تعاود الكرّة فتحكم مجدّدًا، ويصار إلى تعديلٍ تدريجيٍّ للمعادلة، ويتعزّز وضع المسلمين وتمثيلهم السّياسيّ شيئًا فشيئًا ولو كان ذلك عبر حزبٍ شيوعيٍّ!
ليس كلّ ما يلمع ذهبًا، فهناك من تقلقه صحوة المسلمين ورفضهم لهذا التّهميش الطّويل، ويفزع كلّما بدأت مجاهيل المعادلة في الحلّ.
مثلما يفزع حين اختلّت معادلة الحكم الثّنائيّة نفسها في نيجيريا لصالح المسلمين رئاسيًّا، فراح يرغي ويزبد كما ترامب “حامي مسيحييّ نيجيريا” الجديد!