الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأَمِينِ، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ:
فإن هذه مقدمة تمهيدية لموضوع الوقف في التصور الإسلامي من حيث الرؤية الكلية والمرجعيات الحاكمة والأساس العقدي والحقوقي الذي تقوم عليه منظومة الوقف وهي جزء من ورقة قدمت حول أحكام الوقف في الإسلام في أحد المؤتمرات بإسطنبول.
ونُؤَكِّدَ في القضايا التي تتعلق باستخلاف الإنسان في الأرض سواء في التصورات والعقائد أو في السياسة والاقتصاد أو الاجتماع والأخلاق، على أربعة مفاهيم أساسية ذات أهمية خاصة في التصورات الكلية. فالإسلام يدور حول هذه المفاهيم الأربعة:
الأول: مفهوم الْحَقِّ.
الثاني: مفهوم الْخَلْقِ.
الثالث: مفهوم الْأَمْرِ(المسيرة).
الرابع: مفهوم الْمَصِيرِ والمنتهى.
أولاً: مفهوم الحق:
مفردة الحق: (ح ق ق) تدل على الثبوتواللزومواليقين، قال ابن فارس في مقاييس اللغة:
الحاء والقاف أصلٌ يدلُّ على إحكام الشيء وصحته… ومن ذلك الحق، وهو نقيض الباطل، لأنه ثابت وصحيح.
والحق في الاصطلاح الشرعي فقها وأصولا هو (الاختصاصالثابتللشخصبموجبالشرع، بحيث يُمكّنه من التصرف، أو المطالبة، أو المنع، كالحق في الملكية، أو الحضانة، أو القصاص)
ومفهوم الحق في جوهره يتناول حقائق الوجود الغيبي، وعلى رأسها وأعظمها: وجود الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [الحج: 62]، فالله جل وعلا هو الحق المطلق، ومن هذه الحقيقة تنبثق الرؤية الكلية للإسلام؛ إذ إن الإسلام في جميع قضاياه ومبادئه ينطلق من الإيمان بأن الله هو الحق، وأن كل ما يصدر عنه سبحانه – من وحي وتشريع وتدبير – يندرج في إطار الحق ولا يخرج عنه.
مكانة الحق في القرآن:
إذا تأملنا في القرآن الكريم، وجدنا أنه يُعطي أهمية كبرى لمفهوم الحق والحقوق ولما يترتب عليه من آثار، سواء في العقيدة أو العلاقات والتشريعات.
وإذا أردنا أن نُفكّك منظومة القيم في الإسلام، فسنجد أن قيمة الحق تمثل القيمة العليا والمركزية، التي تدور حولها سائر القيم، بل تُعد بمثابة الضابط والمُوجِّه لبقية القيم كالعَدْل، والرحمة، والأمانة، والحرية وغيرها.
فالحق ليس مجرد قيمة أخلاقية أو نظرية، بل هو مرتكز وجودي وتشريعي وعَقَدي، ينعكس أثره في كل تفاصيل الحياة الإسلامية.
الارتباط بين الحق والتوحيد والرسالة:
يتجلى مفهوم الحق أول ما يتجلى في التوحيد؛ إذ إن التوحيد هو الاعتراف بأن الله وحده هو الحق، وكل ما سواه باطل إن لم يكن متصلًا به. ثم يظهر الحق كذلك في الرسالة التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي كتابٌ إلهيٌّ يحمل الحقائق التي يريد الله أن يوصِلها إلى عباده، سواء كانت:
حقائق كونية: أشار إليها القرآن الكريم، وتتكشف مع التقدّم العلمي، كما في قوله تعالى:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
وهذا يعني أن الحقائق العلمية الكونية تتكامل مع حقائق الوحي المنزل، لتُؤكّد أن هذا الدين مبنيٌّ على الحق المطلق في كل أبعاده: الغيبية، والتشريعية، والعقلية، والكونية.
العلاقة بين الحق والوقف:
ومن هنا ندخل إلى صلة موضوع الحق بموضوع الوقف، فالوقف – كما هو معلوم – يتعلق بـ الحقوق: حقوق الله، وحقوق الناس، وحقوق المال، وحقوق الأجيال القادمة، وهو نظامٌ شرعيٌّ يعكس تجلي مفهوم الحق في بُعده العملي، من خلال:
صيانة حق الله في المال، بأن يُصرف في وجوه البرّ.
حفظ حق المحتاجين من الفقراء والضعفاء.
تثبيت حق الأوقاف على مر الزمن، ومنع التعدي عليها.
فالوقف ليس مجرد عمل خيري، بل هو تجسيد لفكرة الحق في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والدينية، ويقوم على ضمان الحقوق واستمراريتها، ولذلك نجد أن فقه الوقف في الإسلام يحفل بتفصيلات دقيقة لحماية هذه الحقوق وتحقيق مقاصدها.
والحديث عن “الحق” في الإسلام ليس مسألة جزئية أو موضوعًا ثانويًا، بل هو محور أساسي تنبثق منه سائر المفاهيم والقيم والتشريعات. وتتجلى عظمة هذا المفهوم في علاقته بالله، والوحي، والعقل، والكون، والمجتمع.
وإذا نظرنا إلى الوقف من هذا المنظور، فهمنا أنه ليس مجرد وسيلة للخير، بل هو مؤسسة تُقام على أساس الحق، وتُدار بروح الحق، وتُثمر في ظل حماية الحق.
ثانيًا: مفهوم الخلق:
فإن الحديث عن الخلق كذلك يمثل ركنًا أساسيًّا في التصور العقدي، لما له من خصائص تميّزه عن الخالق جل شأنه وأولى هذه الخصائص:
الزوجية؛ إذ إن الله تعالى واحدٌ في ذاته، متفرّد في صفاته، منزه عن الشبيه والمثيل، لا يقبل الزوجية ولا التعدد، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1-4].
في المقابل، نجد أن الزوجية من الخصائص الملازمة للمخلوقات، كما أشار القرآن الكريم:
﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49].
ومن خصائص الخلق كذلك: الحدوث بعد العدم، والفناء بعد الوجود. فالخلق حادث، لم يكن ثم كان، والله تعالى هو الذي أوجده من العدم، كما قال سبحانه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: 62]، وقال أيضًا:
﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [غافر: 68]. وفي ذلك ردٌّ على من زعم قِدَم العالم أو أبديته، فالمخلوق محدود بحدٍّ زماني، مبدوء بفعل “كن”، منتهٍ بقدر الله تعالى، بينما الله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3].
ويمكن تصنيف الخلق إلى إطارين أساسيين:
الخلق المُسخَّر:
ويشمل نوعين:
الخلق الكوني الطبيعي: مثل السماوات، الأرض، الجبال، البحار، الشمس، القمر، والكائنات غير العاقلة؛ فهذه كلها مسخَّرة، أي خاضعة لقوانين وسنن كونية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل. وهذا ما يُعرف في القرآن بـ “السُّنن الإلهية”، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].
وتسبيح هذه المخلوقات يتمثل في خضوعها التام لهذه السنن، وهو تسبيح لا نُدرِك كنهه، كما قال الله تعالى:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]. كما لا ينافي ذلك التسبيح لله تعالى بما يناسب حال تلك المخلوقات.
الملائكة المطهرون: وهم كذلك خلق مسخَّر لعبادة الله وطاعته دون أن تكون لهم إرادة مخالِفة خُلِقوا من نور، وهم معصومون من المعصية، كما في قوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]. وقال أيضًا: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26–27].
الخلق المكلَّف (أو المخيَّر):
ويشمل الإنس والجن؛ وهؤلاء خُلقوا بعقل، وأُعطوا حرية الإرادة والمشيئة، ليكونوا محلًّا للتكليف والابتلاء، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. فهم قادرون على الطاعة أو المعصية، ومحاسَبون على أفعالهم، وهذا ما يجعلهم يترقّون إلى مراتب البر أو ينحدرون إلى مراتب الفجور، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3]، وقال: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29].
وهذا هو محور الابتلاء الإنساني، حيث يُمتحَن الإنسان والجنّ في إرادتهما، ويكون الجزاء الأخروي فرعًا عن هذا الابتلاء، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2].
ويتّضح من هذا العرض المختصر أن الخلق، على اختلاف أنواعه، يشترك في صفات الضعف والاحتياج والحدوث بعد العدم، ولكنه يتمايز من حيث الوظيفة، والتكليف، والإرادة.
فالخلق المسخَّر منفعل لا اختيار له، بينما الخلق المخيَّر فاعل مسؤول، يخوض تجربة الحياة بين الطاعة والمعصية، ليحقق الغاية من خلقه وهي العبادة والمعرفة والابتلاء.
وهذا يُشكّل الركن الثاني في التصوّر العقدي الإسلامي بعد إثبات وجود الله وصفاته، إذ يحدّد العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويضبط فهمنا لسنن الكون ونواميس الوجود ضمن قاعدة الحق حق والخلق خلق. فلا حلول بينهما ولا وحدة وجود ولا تشطير ولا تبعيض في تصور الذات الإلهية ولا تجسيد من أحدهما في الآخر ولا تشابه ولا تماثل ولا ندية ولا تناظر ولا دهرية يتصور معها استغناء الخلق عن الحق والخالق فكل ذلك من آفات التصورات الباطلة، والتدين المغشوش، والمحرف والمبدل.
ثالثًا: مَوْضُوعُ الْأَمْرِ(المسيرة):
يتعلق مفهوم “الأمر” بتنظيم العلاقة بين الحق والخلق، فالإنسان، وهو الخَلق المُكَلَّف، قد أنيطت به قضية الاستخلاف وعمارة الأرض، أي _مسيرة الإنسان المستخلف من البداية حتى النهاية_ كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30].
فالاستخلاف في الأرض أُنيط بالإنسان المكلف، الذي خُلق لعبادة الله وعمارة الأرض، وهذان الركنان هما الأساس في فهم الاستخلاف:
أولاً: عبادة الله سبحانه وتعالى، وهي تنظم من خلال العقيدة، والتصورات المعرفية، والعبادات، والتشريعات، وسائر أمور النُّسُك قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
ثانيًا: العمران في الأرض، وهو ما ورد في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] أي طلب منكم عمارتها.
فالإنسان لا يكون خليفة حقًّا إلا إذا كان عابدًا معمّرًا، ومن يُقصّر في أحد هذين الجانبين فهو مقصّر في فهم الرؤية الكلية للاستخلاف.
وينبثق من هذا الفهم مصطلحات مركزية في البناء الحضاري الإسلامي:
الاستخلاف _ التمكين والمكنة_ العمران وقيام الحضارة الراشدة أو حضارة الحق ، وهذه تتكامل فيما بينها، ولن يستطيع الإنسان أن يحقق هذا الاستخلاف الخاص بأهل الإيمان إلا إذا مُكِّن، وتمتّع بما يسمى بـ المكنة، ومفردة التمكين مصدر مكّن وله دلالات مختلفة في الوحي المنزل بحسب السياق القرآني فتارة تعني القوة والسلطان وسعة الرزق والمال والنفوذ وتارة تدل على التسخير والعمران وأخرى على علو المكانة وقوة المركز والإدراك والمعرفة ونفاذ القول والثبات وكل هذه الدلالات معتبرة ومقصودة للشارع ويمكن أن نشير في بعض مجالات التحقق في واقع الحياة و ذلك في وفق المسارات الثلاثة الآتية::
المَسَار الأول: المكنة المعرفية والعلمية:
ويُقصد بها تمكين الإنسان من طلب العلم، سواء كان علمًا شرعيًّا لفهم أوامر الله ونواهيه، أو علمًا تجريبيًّا يساعده على فهم الكون وتسخير موارده في عمارة الأرض.
والإسلام يسعى لتوسيع دوائر العلم، ويعتبر بسط المعرفة أحد شروط التمكين الحقيقي، بل ويجعل من الاحتكار العلمي سلوكا مذموما، لأن العلم في الإسلام يجب أن يكون مُشَاعًا ومنتشرًا بين جميع الناس، خلافًا للنظام الغربي الذي يُقيِّد المعرفة بحقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وغيرها.
فالعلم في الإسلام أداة استخلاف، ووسيلة لتمكين الإنسان من الاضطلاع بدوره في الأرض، ولذلك فإن أي تقصير في نشره يُعد تقصيرًا في تمكين الإنسان والمجتمع.
المَسَار الثاني: المكنة السياسية (الولاية):
وهي تتعلق بتمكين الناس من المشاركة في السلطة والولاية، والتمتع بـ الحقوق السياسية والمدنية، والتي نظّمها الإسلام بتفصيل فريد، بدءًا من حقوق الطفولة، ثم الأسرة، ثم الجار، والمجتمع، وصولاً إلى حقوق الفرد في طبيعة علاقته بالسلطة السياسية معاونة ومشاركة أو مدافعة ومغالبة بقصد إقامة الدين وصلاح أحوال العمران.
وفي التصور الإسلامي، لا تُحرم أي فئة أو فرد من الحقوق المتعلقة بولايتهم الخاصة، سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم؛ فحتى غير المسلمين لهم حقوق وولايات داخل مجتمعاتهم، مثل ولايتهم على أسرهم وتربية أولادهم وحقهم في الولايات الخاصة بتنظيم أحوالهم.
وهذا التمكين السياسي لا يُقصَر على طبقة دون أخرى، بل هو عام، ويُشكّل جزءًا من تحقيق الاستخلاف العام (لبني آدم)، والاستخلاف الخاص (للمؤمنين.
فحين تُنتهك الحقوق السياسية، أو تُحتكر السلطة، تَضعُف المكنة السياسية، ويتغوّل النظام الحاكم على المجتمع، بينما الإسلام يُعالج هذه الإشكالية من خلال ضمان الولاية العادلة المتوزعة، لا المحتكرة من خلال حاكمية الشريعة وأسس التعاقد والتواثق والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبسط الحقوق والحريات وحماية الحرمات.
المَسَار الثالث: المكنة المالية:
كما أن الناس شركاء في العلم والمعرفة والسلطة والولاية ، فهم كذلك شركاء في المال والموارد وقد نظّم الإسلام حركة المال في المجتمع بحيث يمنع التكديس ويعزّز التداول، قال تعالى:﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ [الحشر: 7].وهذا بخلاف الرأسمالية التي ترى أن نهضة المجتمع تقوم على تراكم الثروة، وهو ما تبناه آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم) وأما الإسلام يتبنى منهج تفتيت الثروة وتداولها، مما يمنع الاحتكار ويحقق التوازن الاجتماعي ، فحين يموت الشخص، تُوزَّع ثروته على ورثته، فيتوزع المال، بدلاً من أن يتراكم بيد واحدة.
وهنا ننتقل إلى “الوقف”:
الوقف هو أحد أهم الآليات التي تُحقق هذا التوازن، لأنه يخدم منظورين متكاملين:
منظور التعبّد لله تعالى
ومنظور التمكين وتحقيق العمران
فالوقف أداة دائمة ومستمرّة تُمكِّن المجتمع من إدارة نفسه، والقيام بوظائفه الدعوية والتعليمية والصحية والاجتماعية، دون الحاجة المستمرة إلى الدولة قال تعالى:﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ﴾ [النور: 55].فالوقف يُسهم في تحقيق الاستخلاف من خلال تمكين المجتمع بالعلم، والسلطة، والمال، ويُساعد في تحقيق الأمن المجتمعي وتحقيق غاية التعبد لله تعالى.
الدولة والمجتمع من يحتكر القوة؟
قامت الدولة الحديثة على احتكار العلم والمعرفة والمال والسلطة، وبناءً عليه تضخمت مؤسساتها وتراجع دور المجتمع ومؤسساته بالرغم من المحاولات العديدة لتعزيز مؤسسات المجتمع بينما التصور الإسلامي يُبنى على تمكين المجتمع ابتداءً وتقوية وتعزيز المؤسسات المجتمعية لتكون الدولة فرع المجتمع وخادمة له لا سيدة عليه ومتحكمة فيه، والدولة من هذا المنظور أضعف من المجتمع، لأن المجتمع يملك أدوات التمكين الذاتية، وكان في السابق يدير كثيرًا من شؤونه، مثل التعليم والصحة وكثير من الخدمات، من خلال الوقف دون الحاجة للدولة وتدخلها إلا في نطاق ضيق ومحدود.
وعليه حين تَغُولَت الدولة الحديثة على المجتمع، أول ما استهدفته هو إضعاف الوقف، لأن الوقف يُمثل الاستقلال والتمكين المجتمعي وهكذا، أصبح المجتمع ضعيفًا ومعتمدًا كليًا على الدولة، في حين أن الدولة تحتكر أدوات السيطرة كالأمن والجيش، فضلاً عن النفوذ الإعلامي والاقتصادي.
فالإسلام يقدّم رؤية مخالفة لأنه:
يقوِّي المجتمع، ويُعزّز استقلاله، ويجعل الوقف أحد أهم أدواته، حتى إذا سقط النظام السياسي، يبقى المجتمع قائمًا. أما في النظم الحديثة، فإذا سقطت الدولة، سقط معها المجتمع، لأن كل شيء مرتبط بها.
ففلسفة الوقف الإسلامية تقوم على بناء مجتمع قوي، مستقل، متماسك، ومُمكَّن من إدارة شؤونه عبر:
(علمٍ مشاع – ولاية عادلة – ومالٍ متداول) وكل ذلك يحقق الاستخلاف الحقيقي في الأرض.
المفهوم الرابع: المصير والمنتهى إلى الله تعالى
كل ما سبق عن التصور الاستخلافي، بأركانه الثلاثة:
(الحق – الخلق – الأمر) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بـ المصير والمنتهى إلى الله تعالى. فلا معنى لحركة الإنسان في الأرض – من عبادة أو عمران أو تمكين – إن لم تكن مرتبطة بغاية أخروية واضحة، هي رضا الله ودخول الجنة قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115] ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ [النجم: 42].
إن نهاية كل حركة اجتماعية واقتصادية وسياسية يجب أن تكون متجهة إلى الله تعالى، وهذا ما يضمن اتزان الإنسان والمجتمع، ويمنعه من العبثية،والعدمية والضياع، والفراغ الوجودي.
ولذلك، فإن الإيمان بالله واليوم الآخر هما ركنان أساسيان لا يقوم الإيمان ولا تثمر الأعمال إلا بهما، كما في قوله تعالى: ﴿ لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ۖ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ﴾ البقرة/ ١٧٧
بهذا التصور المتكامل، نصل إلى إدراك أن الإسلام يقدم نموذجًا حضاريًا فريدًا، يجعل من الإنسان خليفةً مسؤولًا، ممكَّنًا في الأرض، مرتبطًا بغاية عليا.
وهذا النموذج يكتمل من خلال:
تحقيق التوحيد والحق،
فهم طبيعة الخلق،
تنظيم العلاقة بين الحق والخلق عبر الأمر،
ووعي المصير والمنتهى إلى الله.
فحين تُعاد صياغة المفاهيم: (الحق – الخلق – الأمر – المصير)، تنضبط رؤية الإنسان في الأرض، وتصبح كل حركته قائمة على العبودية والعمران، مرتبطة بالهدف الأعلى الذي خُلق لأجله قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ الأنعام: 162.
والله نسأل التوفيق والسداد وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين