مشهدان ذا دلالة مؤلمة: يستدير ترامب وهو يلقي كلمته في شرم الشيخ بعد أن يقول: “إن الهند وباكستان ستعيشان معًا بسلام”، ليسأل رئيس وزراء باكستان شهباز شريف الذي اصطف مع حكام آخرين خلفه كالوصفاء: “أليس كذلك؟”، فينفجر شريف ضاحكًا وموافقًا، بينما كانت القذائف الباكستانية تنفجر في مواقع الإمارة الإسلامية لتحصد أرواح مسلمين أشقاء.
وكما ارتدى ترامب قفاز السلام بين حماس و”إسرائيل” الذي يخفي يد العدوان داخله، فهو قد عقّب على دك الطائرات والمدفعية الباكستانية تضرب 7 ولايات أفغانية بالقول مازحًا: “سمعتُ أن هناك حربًا دائرة بين باكستان وأفغانستان. قلتُ لهم: سيتعين عليهم الانتظار حتى أعود، فأنا خبير في حل الحروب”. بينما يعتقد كثيرون أن يد ترامب ضالعة في هذا العدوان أيضًا.
مُزحة ترامب كانت ثقيلة جدًا، كثقل مشهد قتال يدور بين دولتين مسلمتين شقيقتين، بل قامتا في العصر الحديث على أساس ديني، لا يتحدث عن الوساطة عنه سوى الولايات المتحدة والصين، على نفس كل مسلم، يؤمن بـ {إنما المؤمنون إخوة}.
جذور الأزمة:
معلوم أن للأزمة جذورًا، تعود إلى الاحتلال البريطاني للهند، حيث تعمدت لندن – كعادتها – أن تدق إسفينًا بين المسلمين، فوضعت بينهما خطًا حدوديًا خبيثًا، عُرف بخط ديورند، الذي خطه السير البريطاني هنري مورتيمر دوراند ووافق عليه الحاكم الأفغاني أمير عبد الرحمن خان، بسذاجة مفرطة، فالخط الذي تحاول إسلام آباد الآن تعزيزه بسياج حدودي ممتد، وترفض كابول، مُعتبرةً إياه خطًا يعود إلى الحقبة الاستعمارية، هو قد وُضع في العام ١٨٩٣، لخدمة المصالح البريطانية، وتحديدًا كحاجز في وجه روسيا، وهذا على المشهور من شأنه، أما المسكوت عنه؛ فهو منع وحدة إسلامية قد تقوم بعد رحيل البريطانيين، والحؤول دون تطلع الأفغان، وهم المقاتلون الأشداء إلى العودة لحكم أجزاء واسعة من الهند مثلما كان في عصور سابقة، وحرمان الأفغان من أن يكون لهم ساحل يضم ميناءً على بحر العرب، وشق صفوف الباشتون الذين يشطر الخط قبائلهم، ويمنعهم من أن يشكلوا قوة عسكرية كبيرة (يشكل الباشتون أكثر من 50 مليونًا على جانبي الخط الحدودي “الاستعماري”).
انزعاج باكستاني مفهوم ولكن!:
عندما قصفت باكستان أجزاءً من كابول وشرق أفغانستان، في يومي 9 ، و10 أكتوبر الحالي، مدّعيةً أنها استهدفت مخابئ حركة طالبان باكستان، التي تتهم باكستان، الإمارة الإسلامية في أفغانستان بإيواء مقاتليها، كان وزير خارجية الإمارة الإسلامية أمير خان متقي يزور الهند، العدو الاستراتيجي الأول لباكستان. وفي عنفوان هجمات طالبان باكستان على مواقع عسكرية باكستانية، بدأت العلاقات الأفغانية الهندية تتحسن، ويجرى الحديث عن تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين البلدين.
كلا الأمرين: تزايد هجمات طالبان باكستان، بحيث جاوزت ٦٠٠ هجوم هذا العام، وبناء علاقات جيدة بين كابول ونيودلهي، وتعزيز الشراكة الاقتصادية بينهما، أثار انزعاج إسلام آباد كثيرًا، فعلاقة طالبان الأفغانية بالباكستانية مثيرة لقلق حكام باكستان، فالحركتان اللتان تتشاركان في رغبتهما إقامة نظام إسلامي، وتنتميان – في معظمهما – إلى القبائل الباشتونية نفسها، وتتقاسمان الهم نفسه، يجعل أي نفي من قِبل الحكومة الأفغانية لإيواء مقاتلي طالبان الباكستانية محل شك كبير لدى باكستان، خصوصًا أن دعم الأفغان للاستقلاليين الباشتون في باكستان قديم، ولا يقتصر على زمن حكومة الإمارة، فلقد دعمت أفغانستان هؤلاء منذ خمسينات وستينات القرن الماضي دعمًا لإقامة دولة “باشتونستان”، هذا على الأقل ما تثيره إسلام آباد رسميًا وإعلاميًا. أما ما ضاعف من قلق النظام الباكستاني أكثر في زيارة وزير الخارجية الأفغاني للهند؛ فهو البعد الديني للزيارة، حيث أفسحت نيودلهي المجال للضيف الأفغاني لزيارة غير مسبوقة لمدرسة دار العلوم الديوبندية، معقل التعليم الإسلامي في الهند، وأهم مراكز التأثير على المسلمين الهنود، فباكستان تقدم نفسها للمسلمين الهنود – لاسيما المتدينين منهم – على أنها الظهير الإسلامي المجاور، والسَّند الذي يقوي من شوكة المسلمين في الهند ويدعم مؤسساتهم العلمية ولو اقتصر على الناحية المعنوية.
وحكومة نيودلهي الهندوسية المتطرفة تدرك ذلك جيدًا، ولهذا أرادت أن تُحدث نوعًا من الانقسام بين الدولتين المسلمتين الشقيقتين بإظهارها السماح للأفغان المتدينين بالتواصل مع إخوانهم في أكبر صرح علمي إسلامي مستقل في العالم، مدرسة دار العلوم الديوبندية. كما أن حكومة الإمارة الإسلامية هي الأخرى تدرك ذلك، لكنها تود من جانب آخر مد الجسور مع هذه الكتلة الإسلامية العريضة، وربما التدخل مستقبلًا لتخفيف يد الإرهاب الهندوسي عنها عبر الدبلوماسية الأفغانية. ثم حتى لو كانت كابول تسعى لقدر من الانفراد بمسلمي الهند بعيدًا عن باكستان، فمن يلومها بعد ما فعله الجيش والحكومة الباكستانيين مع أفغانستان، وماذا ترك لها حكام باكستان من خيارات بعد أن أوصدت أبوابها أمام الإمارة الوليدة، وتركتها تنسج علاقاتها مع دول الجوار غير المسلمة القوية، والمسلمة الضعيفة؟!
لقد مارست إسلام آباد سياسة رعناء أفضت إلى إبعاد أفغانستان عنها وتوجس الأخيرة منها خصوصًا بعد تصريحات الرئيس الأمريكي عن رغبته في احتلال قاعدة باغرام الجوية الأفغانية، وقلق كابول من ضلوع إسلام آباد في مخطط لتحقيق تلك الرغبة الأمريكية، وهو قلق له ما يعززه جدًا؛ فترامب قد شفع إعلانه برغبته في “استعادة” قاعدة باغرام الجوية، وتسليم غنائم حربها مع جيش الاحتلال الأمريكي إلى واشنطن، بتهديد كابول بعواقب “سيئة” إن لم تفعل ذلك من تلقاء نفسها. ولم يتحرك ترامب لكن عسكر باكستان تحركوا، ولطالما أجادت بعض الجيوش في العالم الإسلامي لعب دورها الوظيفي الذي رسمه لها المحتل السابق أو من ينوب عنه، فينفذ له سياساته دون أن تنزف للمحتل قطرة دم واحدة.