الفاشرْ ليست مدينة عابرة في ذاكرةِ الشعب السودان؛ بل رمزًا للصبرِ والصمود والثبات، وميدانًا لصراعٍ بين إرادةِ شعبٍ حرٍّ ومشاريعِ التغريب والتفتيتِ والنهبِ والهيمنة. وبعد حصارٍ دام أكثرَ من عامينٍ، وصمودٍ أسطوريٍّ أمام ما يزيدُ على مئتينِ وثمانينَ محاولةَ اقتحامٍ، اقتحمتها قوات «التدميرُ السريع»، فارتُكبت فيها مجاز! تندى لها جبينُ الإنسانيةِ، ففتحتْ بذلك فصلاً جديدًا من ابتلاءِ الأمةِ وجراحِها.
واليوم، بينما الجراحُ لا تزالُ داميةً والقلوبُ مكلومة، تتكاثرُ الأصواتُ من الداخلِ والخارج تدعو إلى «إيقافِ الحرب» و«فرضِ الهدنة» و«تحقيقِ السلام». والمتأمّلُ بعينٍ بصيرةٍ يَعلمُ أنّ هذه الدعواتِ ليست بدعوات إلى سلامٍ حقيقيٍّ إنّما هي دعوات لاستسلامٌ يَرتدي لباسَ السلام؛ يرادُ به تثبيتُ واقعٍ انفصاليٍّ وتقسيميٍّ جديد، على مثال ما جرى في دولٍ سقطتْ بفعلِ مشاريعٍ مماثلة. فبعد عجزِ هؤلاءِ عن السيطرةِ على الخرطوم، اتجهوا إلى غرضٍ آخرَ: تثبيتُ مكاسبِهم في الغربِ السوداني، وإعادةُ رسمِ خريطةِ السودانَ على أسسٍ تقطعُ أرضه وتغيّرُ هويته.
ومن أعظمِ الأخطاءِ أن يُخدَعَ الناسُ ببريقِ الألفاظِ ويظُنّوا أن من قالَ «سلامًا» قد صدقَ النيةَ. مع أنه كم من «سلامٍ» كان بابًا لاستعبادِ الشعوبِ وسلبِ إرادتها ونهبِ ثرواتها! لذا فإنّ واجبَ هذهِ المرحلةِ هو الوضوحُ والثباتُ، والإدراكُ أنّ المعركةَ ليست معركةَ سلاحٍ فحسب، بل هي معركةُ هويةٍ وإيمانٍ ووعيٍ واستقلال.
وبناءً على ذلكَ، فإني أرى أن من أعظمَ المطلوبِ اليومَ بوضوحٍ وجلاءٍ ما يلي:
أولًا — تثبيتُ الجيشِ السوداني وقياداته على رفضِ الدعواتِ المشبوهةِ للهدنةِ أو «السلامِ الناعمِ»؛ والتي ترددها جماعات حمل الجزرة، وجماعات حمل العصا، فهذه الأدعاءاتُ ليست إلا غطاءً لتمزيقِ البلادِ وإضعافِ مؤسستها العسكرية، التي هي بعد اللهِ الحصنُ الأخيرُ لوحدةِ السودانِ وأمنه.
ثانيًا — التعبئةُ العامةُ واقعًا لا شعارًا؛ فالتعبئةُ ليست كتابةَ بياناتٍ أو رفعَ شعاراتٍ، بل استنهاضُ الطاقاتِ المتنوعة إلى ميادينِ العملِ المدنيِّ والدعويِّ والفكريِّ والإعلاميِّ، وتنسيقُ جهودِ الإغاثةِ والدعمِ والمساندةِ للحفاظِ على الجبهةِ الداخليةِ متماسكةً.
ثالثًا — جمعُ الكلمةِ والحذرُ من الفتنةِ والتمزقِ؛ فالفتنةُ أعظمُ خطرًا من العدوِ الظاهر، والعدوُّ الخارجيُّ لا ينتصرُ إلا إذا وجدَ فرقةً في الداخلِ. وعلى العلماءِ والمفكرينَ والدعاةِ أن يكونوا حُماةَ الوحدةِ ومرشدي الضميرِ العامِّ، بحيث يبصّرون الناسَ بخطورةِ الجهويةِ والقبليةِ والتمزقِ، ويشرحون أن هذه السهامُ مسمومةٌ في خاصرةِ الأمة.
رابعًا — ترسيخُ التكافلِ الاجتماعيِّ ومواجهةُ الفقرِ والجوعِ؛ فالجهادُ لا يقتصرُ على السلاحِ، بل يشملُ إطعامَ الجائعِ، وكساءَ العريانِ، ودواءَ المريضِ، وإقامةَ مؤسساتِ إغاثةٍ منضبطةٍ تضمنُ بقاءَ الجبهةِ الداخليةِ صامدةً لا تُخترقُ من حاجةٍ أو قهرٍ.
خامسًا — بناءُ جبهةٍ إعلاميةٍ صادقةٍ وأمينةٍ؛ فالإعلامُ اليومَ ميدانٌ من ميادينِ الجهادِ. عليه أن يَبُثَّ الحقيقةَ، ويكشفَ مكرَ الأعداءِ، ويعرّي مشاريعَهم التدميريةَ، ويُبيّنَ للناسِ الحقائقِ دون تهويلٍ ولا تلطيفٍ، لأنّ الصدقَ والوضوحَ هما سلاحانِ لا يقلانِ عن السلاحِ في تأثيرِهما.
أمّتنا الكريمةُ: إنّ سقوطَ الفاشر، وإن كان فاجعةً موجعةً، فهو في ميزانِ الإيمانِ امتحانٌ للثباتِ وغربلةٌ للصفوفِ وميزانٌ لصدقِ الموقف. لعلَّ اللهَ أراد بهذه المحنةِ أن يوقظَ قلوبًا غافلةً، ويعيدَ إلى الأمةِ هويتها ووعيها، فتدركَ أنَّ الأمنَ لا يُصنعُ بالاستجداءِ أو التبعية، وأنَّ السلامَ لا يُمنحُ من يدِ تتآمرَ علينا، وأنَّ النصرَ لا يُنال إلا بالإيمانِ والعملِ ووحدةِ الكلمةِ.