الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إنّ من المقرر المعلوم أنّ عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا كما ورد ذكر ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى، الذي كتبَ فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى أول ما خلق السماوات والأرض، حيث أجرى ليلها ونهارها وقدّر أوقاتها فقسّمها على هذه الشهور الاثني عشر شهرًا، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
وإنّ هذه الشهور هي: « الْمُحَرَّمُ وَصَفْرٌ وَرَبِيعٌ الْأَوَّلُ وَشَهْرُ رَبِيعٍ الثَّانِي وَجُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الْآخِرَةُ وَرَجَبٌ وَشَعْبَانُ وَشَهْرُ رَمَضَانَ وَشَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ»، وإنّ أيام هذه الشهور إما تسعة وعشرون يومًا، أو ثلاثون يومًا، وإنّ من بين هذه الشهور أربعة أشهر حُرم، وهي: «ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب»، وجاءت ثلاثة منها متواليات سرد: وهنّ: «ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم»، وواحد فرد، وهو«رجب».
قال القرطبي: « إِنَّمَا قَال الله تعالى «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» لِيُبَيِّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى ما رتّبها عليه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا". وَحُكْمُهَا باق عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبِهَا تَغْيِيرُ الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا، وَتَقْدِيمُ الْمُقَدَّمِ فِي الِاسْمِ مِنْهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ فِيهَا وَرَفْضُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ وَتَقْدِيمِهَا، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهِ».
وسميّت هذه الأشهر حرمًا لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها، حيث كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يتعرض له، نظرًا لحرمتها وتعظيمها ومكانتها عندهم. وأنّ ما ورد ذكره من عدد شهور السنة، ومن تحريم أربعة أشهر منها، هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فلا يظلم الناس في هذه الأشهر الحُرُم أنفسهم بترك الطاعات، وفعل المعاصي، وبإيقاع القتال فيها، وهتك حرمتها، نظرًا لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها، لا أنَّ الظلم في غيرها جائز، وأمرت الآية بقتال المشركين جميعًا كما أنهم يقاتلون أهل الإيمان جميعًا، فالله جل وعلا مع أهل الإيمان والتقوى بتأييده وتثبيته ونصره وعونه لهم، فهم الذين يتقونه بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، ومن كان الله جل وعلا معه فلن يغلبه ولن يقوى عليه أحد مهما كانت وعظمت قوته ومكانته.
ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الشهور الهلالية هي التي يعتدّ بها المسلمون في الحج والصيام والأعياد، وغيرها من سائر العبادات.
قال البغوي: «الشُّهُورُ الْهِلَالِيَّةُ، وَهِيَ الشُّهُورُ الَّتِي يَعْتَدُّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي صِيَامِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَسَائِرِ أُمُورِهِمْ، وَبِالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ تكون السنة ثلاث مائة وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبْعَ يَوْمٍ، وَالْهِلَالِيَّةُ تنقص عن ثلاث مائة وَسِتِّينَ يَوْمًا بِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ. وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَكُونُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا».
ومن المؤكد المعلوم أن العمل الصالح أعظم أَجْرًا في الأشهر الحرم، وكذلك الظلم فيهن أعظم فيما سواهنّ من الشهور.
قال قتادة: «الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالظُّلْمُ فِيهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا».
وإنّ تسمية هذه الأشهر بمسمياتها المشهورة والمعروفة بها، له سببه، فسُمِّيَ المحرّم بذلك تأكيدًا لتحريم القتال فيه.
وصَفَرٌ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ بُيُوتِهِمْ مِنْهُ، حِينَ يَخْرُجُونَ لِلْقِتَالِ وَالْأَسْفَارِ.
وشَهْرُ ربيع أول: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِبَاعِهِمْ فِيهِ. وَالِارْتِبَاعُ الْإِقَامَةُ فِي عِمَارَةِ الرَّبْعِ.
ورَبِيعٌ الْآخِرُ: كَالْأَوَّلِ.
وجُمَادَى: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِجُمُودِ الْمَاءِ فِيهِ.
ورَجَبٌ: مِنَ التَّرْجِيبِ، وَهُوَ التَّعْظِيمُ.
وشَعْبَانُ: مِنْ تَشَعُّبِ الْقَبَائِلِ وَتَفَرُّقِهَا لِلْغَارَةِ فيه.
وَرَمَضَانُ: مِنْ شِدَّةِ الرَّمْضَاءِ، وَهُوَ الْحُرُّ.
ورَبِيعٌ الْآخِرُ: كَالْأَوَّلِ.
وشَوَّالٌ: مِنْ شَالَتِ الْإِبِلُ بِأَذْنَابِهَا لِلطِّرَاقِ.
والْقَعْدَةُ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، لِقُعُودِهِمْ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ وَالتَّرْحَالِ.
وذو الْحِجَّةُ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، وسُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِيقَاعِهِمُ الْحَجَّ فِيهِ.
قال ابن كثير: « ذَكَرَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخاوي فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ سَمَّاهُ "الْمَشْهُورُ فِي أَسْمَاءِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ": أَنَّ الْمُحَرَّمَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَهْرًا مُحَرَّمًا، وَعِنْدِي أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَقَلَّبُ بِهِ، فَتُحِلُّهُ عَامًا وَتُحَرِّمُهُ عَامًا، قَالَ: وَيُجْمَعُ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ، وَمَحَارِمَ، وَمَحَارِيمَ.
صَفَرٌ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ بُيُوتِهِمْ مِنْهُ، حِينَ يَخْرُجُونَ لِلْقِتَالِ وَالْأَسْفَارِ، يُقَالُ: "صَفِرَ الْمَكَانُ": إِذَا خَلَا وَيُجْمَعُ عَلَى أَصْفَارٍ كَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ.
شَهْرُ ربيع أول: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِبَاعِهِمْ فِيهِ. وَالِارْتِبَاعُ الْإِقَامَةُ فِي عِمَارَةِ الرَّبْعِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْبِعَاءَ كَنَصِيبٍ وَأَنْصِبَاءَ، وَعَلَى أَرْبَعَةٍ، كَرَغِيفٍ وَأَرْغِفَةٍ.
جُمَادَى: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِجُمُودِ الْمَاءِ فِيهِ. قَالَ: وَكَانَتِ الشُّهُورُ فِي حِسَابِهِمْ لَا تَدُورُ. وَفِي هذا نَظَرٌ؛ إِذْ كَانَتْ شُهُورُهُمْ مَنُوطَةً بِالْأَهِلَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَوَرَانِهَا، فَلَعَلَّهُمْ سَمَّوْهُ بِذَلِكَ، أَوَّلَ مَا سُمِّيَ عِنْدَ جُمُودِ الْمَاءِ فِي الْبَرْدِ، ويُجمع عَلَى جُمَاديات، كَحُبَارَى وحُبَاريات، وَقَدْ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُقَالُ: جُمَادَى الْأُولَى وَالْأَوَّلُ، وَجُمَادَى الْآخِرُ وَالْآخِرَةُ.
رَجَبٌ: مِنَ التَّرْجِيبِ، وَهُوَ التَّعْظِيمُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْجَابٍ، ورِجَاب، ورَجَبات.
شَعْبَانُ: مِنْ تَشَعُّبِ الْقَبَائِلِ وَتَفَرُّقِهَا لِلْغَارَةِ وَيُجْمَعُ عَلَى شَعَابين وشَعْبانات.
وَرَمَضَانُ: مِنْ شِدَّةِ الرَّمْضَاءِ، وَهُوَ الْحُرُّ، يُقَالُ: "رَمِضَتِ الْفِصَالُ": إِذَا عَطِشَتْ، وَيُجْمَعُ عَلَى رَمَضَانات ورَماضين وأرْمِضَة قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ"؛ خَطَأٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ؛ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَبَيَّنْتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ.
شَوَّالٌ: مِنْ شَالَتِ الْإِبِلُ بِأَذْنَابِهَا لِلطِّرَاقِ، قَالَ: وَيُجْمَعُ عَلَى شَوَاول وشَوَاويل وشَوَّالات.
الْقَعْدَةُ: بِفَتْحِ الْقَافِ -قُلْتُ: وَكَسْرِهَا -لِقُعُودِهِمْ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ وَالتَّرْحَالِ، وَيُجْمَعُ عَلَى ذَوَاتِ الْقَعْدَةِ.
الْحِجَّةُ: بِكَسْرِ الْحَاءِ -قُلْتُ: وَفَتْحِهَا -سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِيقَاعِهِمُ الْحَجَّ فِيهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى ذَوَاتِ الْحِجَّة»ِ.
ولقد ذكر النَّبي صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم في حجة الوداع أنّ الزمان عاد إلى أصل الحساب الذي اختاره الله جل وعلا ووضعه يوم خلق السموات والأرض، وأوضح في الحديث أنّ السنة اثنا عشر شهرًا، ومنها أربعة حرم، وهي: «ذو القَعْدَةِ للقُعودِ عنِ القِتالِ، وذُو الحِجَّةِ للحَجِّ، والمُحَرَّمُ لتَحريمِ القِتالِ فيهِ، ووَاحدٌ فَرْدٌ، وهو رَجَبُ مُضَر»، لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب، ولم يكن يستحلُّهُ أحدٌ من العرب، الذي بين جمادى وشعبان. فقال عليه الصلاة والسلام: « إنَّ الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَةِ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ، الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ، أيُّ شَهْرٍ هذا، قُلْنا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: أليسَ ذُو الحِجَّةِ، قُلْنا: بَلَى، قالَ: فأيُّ بَلَدٍ هذا. قُلْنا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: أليسَ البَلْدَةَ. قُلْنا: بَلَى، قالَ: فأيُّ يَومٍ هذا. قُلْنا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: أليسَ يَومَ النَّحْرِ. قُلْنا: بَلَى، قالَ: فإنَّ دِماءَكُمْ وأَمْوالَكُمْ، - قالَ مُحَمَّدٌ: وأَحْسِبُهُ قالَ - وأَعْراضَكُمْ علَيْكُم حَرامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَسَيَسْأَلُكُمْ عن أعْمالِكُمْ، ألا فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ، ألا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَن يُبَلَّغُهُ أنْ يَكونَ أوْعَى له مِن بَعْضِ مَن سَمِعَهُ. فَكانَ مُحَمَّدٌ إذا ذَكَرَهُ يقولُ: صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ قالَ: ألا هلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْن»ِ.«أخرجه البخاري (٤٤٠٦ )، ومسلم (١٦٧٩)».
إنّ للأشهر الحرم أحكامًا تتعلق بها دون غيرها من سائر الشهور، ومن هذه الأحكام للأشهر الحرم ما يلي:
1- إنّ الظلم فيها يكون أشد تحريمًا من غيرها؛ لقوله تَعَالَى: ﴿ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة:26].أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الْحَجِّ: ٢٥] وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ؛ وَلِهَذَا تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ ذَا مَحْرَمٍ.
2- استحباب الصيام فيها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:« أفضلُ الصِّيامِ بعدَ شَهرِ رمضانَ، شَهرُ اللَّهِ المحرَّمُ» «أخرجه مسلم (١١٦٣)».
قال النووي رحمه الله تعالى في المجموع: «قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم» «7ج/ص482».
3- النهي عن القتال في الأشهر الحرم، ولقد اختلف أهل العلم في النهي عن القتال في الأشهر الحرم هل نسخ أم لا، فمذهب الجمهور على نسخه وأن تحريم القتال فيها نسخ، ومن حججهم غزو النبي صلى الله عليه وسلم للطائف في شهر ذي القعدة، وقول آخر: أنها باقية ولم تنسخ، وأن التحريم فيها باقي ولا يزال.
قال القرطبي: «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الشُّهُورِ. وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ وَلَهَا مَزِيَّةٌ فِي تَعْظِيمِ الظُّلْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: ١٩٧] لَا أَنَّ الظُّلْمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ جَائِزٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. ثُمَّ قِيلَ: فِي الظُّلْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ بِاللَّهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوَا فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا، وَمَا نُسِخَتْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفًا بالطائف، وحاصرهم فِي شَوَّالٍ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ».
وقال الألوسي: «والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة، وأن الظلم مؤول بارتكاب المعاصي، وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها، مع أن الارتكاب منهي عنه مطلقًا لتعظيمها، ولله سبحانه أن يميز بعض الأوقات على بعض، فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام» "روح المعاني" (10/91).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: «اختلف العلماء هل حرمة القتال فيها باقية أو نسخت؟ على قولين: الجمهور على أنها نسخت وأن تحريم القتال فيها نسخ، وقول آخر: أنها باقية ولم تنسخ، وأن التحريم فيها باقي ولا يزال، وهذا القول أظهر من جهة الدليل " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (18/ 433).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: «القول الراجح من أقوال العلماء: أنه لا يجوز القتال فيها، إلا ما كان دفاعًا، أو كان قد انعقدت أسبابه من قبل، بمعنى: أنه لا يجوز أن نبدأ قتال الكفار في هذه الأشهر الحرم، إلا إذا كان دفاعًا، بمعنى أنهم هم الذين بدءونا في القتال، أو كان ذلك امتدادًا لقتال سابق على هذه الأشهر» "اللقاء الشهري" (27/ 3).
4- إنّ القتال في الأشهر الحرم له حالان:
الأولى: أن يكون قتال دفع، بمعنى أن يبتدئ المعتدون القتال في الأشهر الحرم، فيجوز للمسلمين قتال هؤلاء المعتدين باتفاق العلماء.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى: «وَيَجُوزُ القتال في الشهر الحرام دفعا، إجماعًا " "الفروع" (10/ 47)، زاد المعاد، لابن القيم" (3/ 301).
الثانية: أن يكون القتال ابتداءً، بمعنى أن يبتدئ المسلمون القتال في الأشهر الحرم: فذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم بدء القتال في الأشهر الحرم: منسوخ، وذهب آخرون إلى أنه غير منسوخ؛ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢].
ولما رواه أحمد (14583) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى -أَوْ يُغْزَوْا -فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ).
قال ابن كثير: « وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا -وَهُوَ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا:﴿ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عَامًّا، فَلَوْ كان محرما ما فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ -وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ -كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهم، فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ -عَمد إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَاصَرَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢] وَقَالَ: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم ْ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] وَقَالَ: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥٠]».
5- إنّ الشهور الهلالية هي التي يعتدّ بها المسلمون في الحج والصيام والأعياد، وغيرها من سائر العبادات قال القرطبي: «هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، دون الشهور التي تعتبر ها الْعَجَمُ وَالرُّومُ وَالْقِبْطُ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَعْدَادِ، مِنْهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ وَمِنْهَا مَا يَنْقُصُ، وَشُهُورُ الْعَرَبِ لَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُصُ، وَالَّذِي يَنْقُصُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهُ شَهْرٌ، وَإِنَّمَا تَفَاوُتُهَا فِي النُّقْصَانِ وَالتَّمَامِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ سَيْرِ الْقَمَرِ فِي الْبُرُوجِ».
6- إنّ العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله جل وعلا من غيرها من الشهور، لحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:« ما مِن أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فيها أحَبُّ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن هذه الأيّامِ -يَعني أيّامَ العَشرِ-. قال: قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، إلّا رَجُلًا خرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ، ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بِشَيءٍ» «أخرجه أحمد في مسنده (١٩٦٨)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط، وأخرجه أبو داود (٢٤٣٨)، والترمذي (٧٥٧)، وابن ماجه (١٧٢٧)، وأحمد (١٩٦٨) واللفظ له».
هذا ما تيسر ايراده، نسأل الله جل وعلا أن يجعل أعوامنا وأيامنا في طاعته سبحانه وتعالى، وأن تكون في خير وبركة، وأن ينفع بما كُتب، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله ربّ العالمين.
1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (تفسير الطبري)، للإمام محمد بن جرير الطبري.
2- الجامع لأحكام القرآن، (تفسير القرطبي)، للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي.
3- تفسير القرآن العظيم، (تفسير ابن كثير)، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير.
4- معالم التنزيل (تفسير البغوي)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي.
5- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبدالرحمن السعدي.
6- أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، الشيخ جابر بن موسى بن عبد القادر المعروف بأبي بكر الجزائري.
7- المختصر في التفسير، مركز تفسير.
8- التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
9- صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
10- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري.
11- مسند الإمام أحمد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني.
12- سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني.
13- سنن الترمذي، الحافظ أبو عيسى محمد الترمذي.
14- سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن ماجه القزويني.
15- المجموع، أبو زكريا يحيى بن شرف الحزامي النووي الشافعي.
16- الفروع، القاضي شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح.
17- روح المعاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي.
18- زاد المعاد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية.
19- مجموع الفتاوى، العلامة عبدالعزيز بن عبد الله بن باز.
20- فتاوى اللقاء الشهري، العلامة محمد بن صالح العثيمين.