الأحد ، 11 ذو القعدة ، 1445
section banner

الفساد البيئي بين منظورين

poster
 
 
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله الأمين أما بعد:
من القضايا الكبرى التي تشغل البشرية في العقود الأخيرة قضية البيئة وتلوثها وفسادها وما يترتب على ذلك من مشكلات تؤثر في الحياة الإنسانية وسلامتها واستقرارها وتطورها وتحقيق الحياة الطيبة في هذه المعمورة وتشير كافة الدراسات البيئية بأن العوامل الإنسانية هي الأساس في فساد البيئة وتلوثها وهو ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى قال تعالى: (ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ) الروم/٤١
وقضية صلاح البيئة وفسادها له علاقة مباشرة بالتصورات والمفاهيم التي يحملها الإنسان لأن تصرفات الإنسان وسلوكه تابع لتصوره ولرؤيته لنفسه وللكون والطبيعة من حوله وكذلك لمدى إيمانه بوجود سلطة عليا تملي عليه مواقف وتصرفات معينة سواء كانت هذه السلطة في عالم الغيب أو الشهادة وبالتالي فإن ما تقوم به الدول والمؤسسات الدولية من معالجات حول البيئة كلها معالجات مؤقتة ومسكنات لا تتناول جذور الأزمة ودوافعها بل هي حالة توهان في التفاصيل والأعراض بعيدا عن الغوص في الأعماق التي تقف على التصورات والمفاهيم المحركة والدافعة للسلوك البشري المنتج للفساد في الأرض.
حقيقة الخلق في المنظور الإسلامي:
الكون والإنسان وكل ما في الوجود سوى الله؛ ما هو إلا أثر من أثار أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولازم الإظهار الكوني لتلك الأسماء والصفات، يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى:(إن قدر الله هو الذي تنشأ به الأحداث، كما أنه هو الذي تنشأ به الأشياء، وأن مشيئة الله هي التي تصرف أمر الناس كله في هذه الحياة، وأن الحقيقة الإلهية لتتجلى بآثارها في الحياة الإنسانية جملة وتفصيلاً) مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب ص223
وعن طبيعة العلاقة بين الحق سبحانه وهذا الكون؛ يقول سيد رحمه الله: (إن الله سبحانه خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه، أنشأه إنشاءً بعد أن لم يكن، كما أنه سبحانه هو الذي أنشأ الحياة والأحياء، وبثها في الموات، وهو الذي يغير ويبدل ويطور ويعدل في الكائنات وفي الأحياء، وهو الذي يمسك ويحفظ هذا الكون، ويرزق ويكفل ما فيه من الأحياء، ويدبر الأمر كله بمشيئته الطليقة من وراء السنن الثابتة، وهو الذي يميت ويهلك، كما أنه هو الذي يحي ويبعث كما يشاء) مقومات التصور الإسلامي، ص247-248 ويستشهد بقوله تعالى: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ﴾ [الأنعام ١]هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن طِینࣲ ثُمَّ قَضَىٰۤ أَجَلࣰاۖ وَأَجَلࣱ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ ) الأنعام/1-2
والخلق قسمان: الخلق المكلف، والخلق المسخر، أما المسخر فيندرج تحت قوله تعالى: (هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰ⁠تࣲۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ) البقرة/٢٩ وقوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ) الجاثية/١٣.
وهذا الخلق المسخر من أرض وسماء وما فيهما وما بينهما؛ إنما مقصوده تحقيق مصلحة الإنسان وسعادته، حتى يؤدى عبادة الله، ويقوم بما كلفه ربه من تكاليف، كما أن هذا الخلق المسخر يقوم بدور الدلالة على خالقه ومدبره ومسخره جلَّ وعلا، ولما كان الإنسان هو محور الخلق المكلف في التصور الإسلامي لأنه أبرز المكلفين عبادةً واستخلافاً وعمراناً، لقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ * مَاۤ أُرِیدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقࣲ وَمَاۤ أُرِیدُ أَن یُطۡعِمُونِ ) الذاريات 56/57 وقوله جل جلاله :(وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة/٣٠. وقال سبحانه: ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِحࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی قَرِیبࣱ مُّجِیبࣱ) هود/٦١
فالإنسان في التصور الإسلامي كائن مكرم عند الله، ذو مركز عظيم في تصميم الوجود، وهو كائن يتعامل مع الكون بقوانينه وسننه بما أوتي من علم، وهو مستعد بحسب تكوينه الذاتي لأن يرتفع إلى أرقى من آفاق الملائكة المقربين، وينحط إلى أدنى دركات الحيوان البهيم.
وأفراد هذا الجنس متساوون ابتداءً في عبوديتهم لله، ومبتلون في هذه الأرض بالحياة والموت، والخير والشر، والسراء والضراء، والإنسان ذو فاعلية إيجابية في مصيره كله في إطار المشيئة الإلهية، وهو مخلوق خاص ذو كيان متميز، تميزه في أزواج عناصر تكوينه، مستخلف في الأرض، مزود بخصائص الخلافة، وأهم هذه الخصائص الاستعداد للمعرفة النامية المتجددة.
وهو مجهز لاستقبال المؤثرات الكونية، والانفعال بها، والاستجابة لها، ومن مجموع انفعالاته واستجاباته يتألف نشاطه الحركي للتعمير والتغيير والتعديل والتحليل والتركيب والتطوير في مادة هذا الكون، وطاقته للنهوض بوظيفة الخلافة، والإنسان في هذه الخلافة على ذلك المستوى وفي هذه الحدود يتعامل مع الوجود كله، ومع خالق الوجود ابتداءً) انظر/معالم المنهج الإسلامي، ص35-38/ الدكتور محمد عمارة
والخلق المسخر إنما تسخيره تسخير عبادة وتسخير منفعة، وذلك لأنه لا يشذ عن عبادة الله مثقال ذرة في هذا الكون، قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَـٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِیحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِیمًا غَفُورࣰا) الإسراء/٤٤
وإن عبادة الخلق المسخر اضطرارية، كما أن عبادة الخلق المكلف اختيارية شرعية،أو كونية قدرية، والخلق بقسميه المسخر والمكلف يفارق الخالق جل وعلا في خصائص تميزه، وصفات تدل على حقيقته وطبيعته، ونتناول بعض خصائص الخلق على النحو الآتي:
خصائص الخلق:
لقد أعطى الله كل شيءٍ خلقه ثم هدى، فهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأهم خصائص الخلق هي:
1/ سبق العدم ولحوق الفناء: إذ إن المخلوقات كلها حادثة، والحوادث مسبوقة بالعدم، وأما الحق سبحانه فإنه الموجود الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، قال تعالى: ( ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانࣲ * وَیَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ) الرحمن /٢٦-٢٧.
2/ الفقر والحاجة: يعتبر الفقر والحاجة من أخص خصائص المخلوقات؛ فهي محتاجة في إيجادها وفي إمدادها، وأنها لا حول لها ولا قوة إلا بالله، وأن الله تعالى هو الغني عن المخلوقات كلها، قائم بنفسه، لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، يمد برحمته الخلائق كلها، ومنه تستمد الحياة، ومن نوره استنارت السموات والأرض، قال تعالى: ( ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةࣲ فِیهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِی زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبࣱ دُرِّیࣱّ یُوقَدُ مِن شَجَرَةࣲ مُّبَـٰرَكَةࣲ زَیۡتُونَةࣲ لَّا شَرۡقِیَّةࣲ وَلَا غَرۡبِیَّةࣲ یَكَادُ زَیۡتُهَا یُضِیۤءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارࣱۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورࣲۚ یَهۡدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَیَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَـٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ) النور/٣٥ وقد أخبر الله جل جلاله عن ضعف الإنسان وفقره وهو واقع مشاهد وملموس والضعيف دائم الحاجة، لازم الافتقار إلى غيره وحقيقة الافتقار للخلق كلهم هي لله الغني الحميد .
3/ العبودية والذل: يقول سيد قطب رحمه الله في حقيقة الألوهية والعبودية: (إن التصور الإسلامي يفصل فصلاً تاماً بين طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، وبين مقام الألوهية ومقام العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية؛ فهما لا تتماثلان ولا تتداخلان، كذلك يبين التصور الإسلامي بياناً حاسماً من هو الله صاحب الألوهية؟ ومن هم العبيد الذين تتمثل فيهم العبودية؟) مقومات التصور الإسلامي، ص81.
وكما سبقت الإشارة فإن عبودية الخلق منها ما هي عبودية تكليف، ومنها ما هي عبودية تسخير، فالسماوات والأرض، وعالم الأشياء، وكثير من عوالم الأحياء، عبوديتها تسخيرية، والإنسان والجان عبوديتهما تكليفية، ويدل على هذه العبودية في الإنسان أصل الفطرة السليمة، المذكورة في الحديث النبوي: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) رواه البخاري ومسلم، وعلى هذه الفطرة كان العهد والميثاق الأول مع الله تعالى كما نص عليه القرآن الكريم.
ومع هذه الصفات والمؤهلات الكافية في الإنسان، والمشتمل عليها في تركيبه الذاتي، إلا أنه تطرأ عليه موانع كثيرة، تجعل الفعل الإنساني يعتريه النقص والخلل، وتجعله في حاجة ماسة إلى عون الله ابتداء بالهداية والتوفيق، كما أنه محتاج إلى تعاون الخلق معه، ومؤازرتهم له، ومشاركتهم إياه، ومن هذه الموانع التي هي عوامل ضعف فيه على سبيل التمثيل؛ الجهل، والعجلة، والضعف، والنسيان، والغفلة وغيرها مما نص عليه الكتاب العزيز.
4/ الزوجية المغايرة للوحدانية: تقوم حقيقة الألوهية في التصور الإسلامي على الوحدانية لا الزوجية والتعدد وهذا على خلاف حقيقة الخلق فإنها تقوم على الزوجية والثنائية، تنوعاً وتقابلاً وتوازناً، فهناك الجمادات، والحيوانات المختلفة، والأشكال والمقادير والصفات، والمنافع المتباينة ، وقد أرشد القرآن إلى ذلك في قوله: (وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ) الرعد/٤
وأما التقابل فنجده في حكمة الله في خلق المتضادات والمتقابلات كالعلو والسفل والطيب والخبيث، والحياة والموت، والداء والدواء، كل ذلك في توازن بديع، حتى لا يقع الاختلال والفساد فظاهرة التوازن بين العدد والحجم والعمر ظاهرة كونية عامة) راجع / قدر الدعوة، رفاعي سرور ص47-60 بتصرف
وخلاصة القول: فإن حقيقة الألوهية تقوم على الخالقية والوحدانية والقيومية والغنى وتقوم حقيقة الخلق على الفقر والحاجة والزوجية، ولهذه الحقيقة دلالات عظيمة على التصورات والمفاهيم الإنسانية المؤثرة على السلوك البشري.
فالتصور الإسلامي للوجود ثلاثي الأبعاد:
1-الله جل جلاله الخالق المعبود الذي له الخلق والأمر وهو كلي العلم والخير والحكمة.
2-الإنسان المخلوق المكرم والمكلف والمستخلف بأمر الله وإرادته تحقيقا للعبادة والعمران بعيدا عن الطغيان والاستكبار والتأله على الخلق مهما بلغت قدراته المادية فهو عبد لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا ونهاية المسيرة البشرية تنتهي إلى الله تعالى ليحاسب الناس على أعمالهم وتصرفاتهم ثم يكون الجزاء الأوفى بالجنة أو النار.
3-الكون الطبيعي المسخر الذي يجري بسنن الله الثابتة وناموسه الحتمي تحقيقا لمنفعة ومصالح الإنسان المكلف والأرض مليئة بالخيرات الكافية لكل ما يحتاجه الناس ومع الوفرة والكفاية فالناس مطالبون بالتوسط والاعتدال وعدم التبذير والإسراف والشعور بالمسؤولية الأخروية عن أفعالهم وتصرفاتهم تجاه الطبيعة.
فالله هو الخالق والرب والمالك لكل الوجود بما فيه وما فيه والإنسان عبد مكلف ومستخلف في الأرض يعمرها بأمر الله وهداياته وتشريعه وأن الخروج عن ذلك خراب وفساد في الأرض وأن الإنسان ليس في حالة صراع مع الطبيعة ليقهرها بل في تناغم واستفادة من منافعها التي سخرها الله تعالى له شاكرا لله في ذلك على نعمائه وآلائه.
ولئن كان هذا هو منطق الإسلام وتصوره ورؤيته ومنظوره للوجود فإن للجاهلية المعاصرة تصورها ورؤيتها ومنظورها المغاير والذي يقوم ويتأسس على ثنائية الإنسان والطبيعة وتنحية الإله عن ساحة التأثير في التصورات والتشريعات والحاكمية حتى ولو تم الإقرار بالخالقية والربوبية ووجود قوة عليا فاعلة ومؤثرة في الوجود إلا أنه لا تتدخل في حياة الناس وتوجيههم وبالتالي حل الإنسان محل الإله وجعل نفسه سيدا على الكون دون مرجعية عليا ومهيمنة وجعل نفسه في صراع مع الطبيعة فكلما هيمن عليها وأخضعها شعر بنشوة التفوق والانتصار وصراعه غير محكوم بأخلاق تحمي الكون من تداعيات سلوكه الفاسد والملوث للبيئة فهو في تبذير وإسراف لا حدود له لأنه بلا رقابة يستشعرها من داخله أو خارجه لأنه السيد المطلق في هذا الكون إلا ما كان من تشريعات واتفاقات دولية قد لا تلتزم بها الدول الكبرى إذا ما تعارضت مع مصالحها القومية دون أي اعتبار للشركاء الذين يسكنون هذه المعمورة كما هو الحال في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية التي رفضت التوقيع على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالبيئة وانبعاثاتها مع أنها من أكبر الدول تلويثا للبيئة وبالتالي فإن الإنسان الذي تقوم تصوراته بعيدا عن الإيمان بالله تعالى واستحضار الأمانة والمسؤولية في الاستخلاف في الأرض والابتعاد عن الفساد والإفساد فيها وترتكز تصوراته على التمركز على الذات مستقلة استقلالا يقدح في كونه مخلوقا ومكلفا ومستخلفا وبعيدا عن الهدايات الربانية معتمدا منهج العقل المجرد ساعيا لتحقيق مصالحه ومنافعه الخاصة في سياق فرداني يقوم على الأنانية المفرطة فإن مآلات هذا التصور كارثية تضر بالبيئة والإنسان ولن تجدي مع هذه الظاهرة الإنسانية المنفلتة المسكنات التي تصدرها مؤتمرات البيئة لأنها لا تعالج جذور الأزمة بل أعراضها ومن هنا ندرك أن البشرية اليوم حاجتها إلى التصورات النابعة من الإسلام ومنظوره الكوني وتشريعاته التفصيلية أشد من أي وقت مضى وذلك لأن المهددات متسارعة والإنسان مهدد في وجوده وصلاح عمرانه وبقائه على هذه الأرض.
وبما أن الأرض خلقت مهيأة وصالحة للحياة فإن فسادها بفساد سكانها سواء كان ذلك بالفساد المادي أي بالسلوك غير الراشد في مخرجات البيئة المسخرة لمنافع الإنسان أو كان ذلك بالذنوب والمعاصي وما يترتب على ذلك من سيئات الأعمال وهي العقوبات اللاحقة وعليه فالتلوث أو الفساد البيئي هو(بما كسبت أيدي الناس) -كما تقدم في الآية – وإلى شمول الفساد لكلا جانبيه المادي والمعنوي أشار العديد من المفسرين فقد أشار الطبري في تفسيره بأن الفساد المراد في الآية هو المعاصي حيث قال:( ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه) وأشار العلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير إلى الجانب المادي وسوء الحال في البر والبحر حيث قال  والفَسادُ: سُوءُ الحالِ، وهو ضِدُّ الصَّلاحِ، ودَلَّ قَوْلُهُ ﴿فِي البَرِّ والبَحْرِ﴾ عَلى أنَّهُ سُوءُ الأحْوالِ في ما يَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ مِن خَيْراتِ الأرْضِ بَرِّها وبَحْرِها.
ثُمَّ التَّعْرِيفُ في الفَسادِ: إمّا أنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ العَهْدِ لِفَسادٍ مَعْهُودٍ لَدى المُخاطَبِينَ، وإمّا أنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الجِنْسِ الشّامِلِ لِكُلِّ فَسادٍ ظَهَرَ في الأرْضِ بَرِّها وبَحْرِها أنَّهُ فَسادٌ في أحْوالِ البَرِّ والبَحْرِ، لا في أعْمالِ النّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿لِيُذِيقَهم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ .
وفَسادُ البَرِّ يَكُونُ بِفِقْدانِ مَنافِعِهِ وحُدُوثِ مَضارِّهِ، مِثْلَ حَبْسِ الأقْواتِ مِنَ الزَّرْعِ والثِّمارِ والكَلَأِ، وفي مَوَتانِ الحَيَوانِ المُنْتَفَعِ بِهِ، وفي انْتِقالِ الوُحُوشِ الَّتِي تُصادُ مِن جَرّاءَ قَحْطِ الأرْضِ إلى أرَضِينَ أُخْرى، وفي حُدُوثِ الجَوائِحِ مِن جَرادٍ وحَشَراتٍ وأمْراضٍ.
وفَسادُ البَحْرِ كَذَلِكَ يَظْهَرُ في تَعْطِيلِ مَنافِعِهِ مِن قِلَّةِ الحِيتانِ واللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ (فَقَدْ كانا مِن أعْظَمِ مَوارِدِ بِلادِ العَرَبِ) وكَثْرَةِ الزَّوابِعِ الحائِلَةِ عَنِ الأسْفارِ في البَحْرِ، ونُضُوبِ مِياهِ الأنْهارِ وانْحِباسِ فَيَضانِها الَّذِي بِهِ يَسْتَقِي النّاسَ).
وارتباط الفساد والصلاح البشري بما يقع في الكون والوجود الطبيعي أمر مشهود في التصور الإٍسلامي وهو ما لا نجده في التصورات الوضعية المادية فهناك علاقة بين الإيمان والتقوى وبين الوفرة المادية ورغد العيش كما جاء في قوله تعالى:( وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ) الأعراف /96
وثبت في الحديث النبوي هذا النوع من العلاقة بين الذنوب والمعاصي وعقوباتها المادية المؤثرة على الكون والطبيعة والإنسان
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا مَعْشَرَ المهاجرينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ، حتى يُعْلِنُوا بها، إلا فَشا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إلّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ ويَتَخَيَّرُوا فيما أنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم) صحيح الجامع / الألباني.
ومحصول القول في قضية البيئة صلاحاً وفساداً تدور حول منظورين كونيين لكل منهما وجهته وتصوراته المنظور الإسلامي القائم على التوحيد والإصلاح والتكافل والمسؤولية والمنظور الجاهلي الوضعي القائم على التشتت والتيه والعدمية والضياع والغريزية والأنانية والمنفعة بعيدا عن منطق المسؤولية الأخروية وتترتب على هذه التصورات تباينات كبيرة على صعيد السياسات والبرامج والسلوك العملي ولهذا فإن تناول ظاهرة الفساد والتلوث البيئي نحتاج فيها لدراسة الجذور العميقة في دوافع النفس البشرية وتصوراتها وليس في الممارسات والسلوك الظاهري والذي غالبا ما يعطينا معلومات غير دقيقة ومعالجات شكلية مع تفاقم الأزمات وسرعتها ونقطة البداية تكون بالإنسان فصلاح المعمورة بصلاح ساكنيها وفسادها بفسادهم . والله من وراء القصد.