الاثنين ، 11 ربيع الآخر ، 1446
section banner

في رحاب آية

poster

استثارني بها الإمام أيما إثارة وهو يرددها وكأنه يتدبر لها معنى مع كل إعادة وترديدة، ويكأنه يستفتح بها القلوب والأفهام مع نسمات الفجر الأولى ليلفت لمعانيها أذهان المصلين ويرسمها  على صفحات يومهم الأبيض منهجا لفقه البدايات، ويُشِع بها عليهم نورا وهداية لعها تزهر في أرواحهم توحيدا وتعظيما..

 (..فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) الشعراء: 213

شرد ذهني متتبعا هذه الآية وما بعدها بنسقها المتدفق الرائع ومما زادها جمالا وجلالا ذلك الصوت الندي المتفاعل مع ما فيها من عمق وتأثير..

خطر في بالي ما يستسهله العُبّاد  والدعاة في أخطر قضية تعصف بالإنسانية منذ نشأتها الأولى وهي التوجه إلى غير الله بالدعاء وطلب الحاجات  وهو أمر يناقض تجريد العبادة لله وحده، ويفسد محبته وينحرف بالخوف منه ويلغي الرجاء فيه ويهز التذلل والإنابة إليه ويبحث عن بدائل لله في مخلوقات ضعيفة بالية.

 يظنون أن طرحها في القرآن الكريم بالكثافة العالية لا تهمهم في شيء وهي شأن يتعلق بالجاهلية الأولى وبمن عبد هبل واللاة والعُزى وكأنها لا تعنيهم في شيء فهم مستثنون من دوائر هذا الخطاب المحذّر للنبي عليه الصلاة والسلام، وكأن لهم براءة من  الشرك  تجعلهم في عصمة ولي أو في حوزة دعي تحجبهم عن الله وعظمته ومطلق قدرته، فلم ترتجف قلوبهم لقوله سبحانه: "فتكون من المعذبين" 213

جال بخاطري سريعا أولئك الذين يحولون فكرهم ونظرهم ومطلق عملهم لإصلاحات لاحقة لا تستقيم دون أساسات متينة سابقة ..

لن يستقيم مجتمع ولن يتحقق نصر من الله إذا لم تخلص النفوس لله، فتعبده وحده وتدعوه وتتوكل عليه وترجوه  وستظل هذه المعاني أقوى ما في الدعوة إلى الله وأمتنها وهي وحدها التي تعيد هذه الأمة التائهة إلى مواقع التحرر والعزة والرفعة والمجاهدة.

 ويتواصل نسق الآيات القرآنية الهادر والمتدفق من حنجرة ذلك الإمام الموفق:

(وأنذِرْ عشيرتَكَ الأقربينَ) (214)

 يُنذرهم خطورة الشرك ويدعوهم لامتثال أوامر الله

 وهنا يأتي التصحيح المنهجي الثاني وهو أن يبدأ المقتفي أثر الرسول عليه الصلاة والسلام بأقرب الناس إليه، وأحقُّهم بإحسانه فهو لم يبدأ دعوته عليه الصلاة والسلام من الهند ولكنها حين كانت البدايات صحيحة  سرعان ما وصلت إليها وإلى السند وما وراءها.

 فحين امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمرَ الإلهيَّ دعا سائرَ بطون قريش فذكَّرهم ووعظهم، ولم يُبقِ شيئا من وسعه في نصحهم وهدايتهم إلاَّ فعلَه، فاهتدى من اهتدى، وأعرض من أعرض.

ثم يسترسل الإمام في التلاوة:

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (215) 

تنتقل هذه الآيات المتضمنة لتصحيح   منهج التأثير في القلوب وتأسيس الإيمان وترسيخه وهو منهج خفض الجناح المناقض للاستعلاء بالعلم والترفع بالهداية عن الخلق.

أما من خالف وكان في صف المناوئين والمخالفين فيقول سبحانه:

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (216)

براءة لا تحتمل التوافق ولا التواطؤ ولا المجاملة للخلق في معصية الخالق ولا بحث عن حلول وسط تستجيب لرغبة الأكثرية أو لهوى متبع أوعرف سائد، على حساب الدين والشرائع ولن يُقاوَم تيار القُوَى المتمردة عن الوحي إلا بالثبات عن المبادئ والتوكل على الله وحسن إدارك الخلاف لذلك صدع بها الإمام ورددها:

 (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (217)

 هذا هو أصل العزم ومردُّ إدارة المشهد فلا فلاح ولا تمكين بدونه.

ثم يواصل الإمام التلاوة:

(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) (218) 

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) 

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

إنها الآيات المحددة لمعايير الدعاة ففي هذا الجو الدعوي النقي والصراع المعلن والخفي  بين طائع مستجيب ومناكف معرض يأتي التذكير بحضور القلب واستشعار معية الله فيكبر العزم ويتقلب الداعي بين القيام والسجود والدعاء والخضوع لله وحده والتوكل عليه مستمدا عوامل النصر من السميع العليم سبحانه المحيط بالخلق مهما عظم مكرهم وقبح كيدهم.

وحين سلم الإمام سلمنا واستغفرنا وشعرت بالأمن والسلام، وأنا أردد: اللهم أنت السلام ومنك السلام يا ذا الجلال والإكرام. وكأني أول مرة أعقب بها صلاتي وقلبي مطمئن بها فالحمد لله.