الذين يُغرقون باكستان
كرجل من قلب المؤسسة العسكرية الباكستانية، تولى الرئاسة، لكنه خرج عن الخط الأمريكي المرسوم للجيش الباكستاني؛ فتم تفجير طائرته، وعاد الجيش مجدداً للحظيرة!
كمدني، لم تتطلب الإطاحة بعمران خان، ما احتاجته إزاحة الجنرال ضياء الحق. مجرد حكم من محكمة عليا، وتحريك بيادق داخل البرلمان، وتجميد لحزب الإنصاف، وملاحقة قضائية، ثم تزوير للانتخابات على نطاق واسع يحرم أعضاءه من تشكيل الحكومة الباكستانية عبر تحالف.
بدت باكستان في السباق الانتخابي الأخير، كواحدة من جمهوريات الموز؛ إذ تم حياكة الأحكام القضائية، والإجراءات الانتخابية، والممارسة السياسية على مقاس الحزبين التقليديين، لاستبعاد خان وحزبه من تشكيل الحكومة الباكستانية.
لم يكن ضياء الحق "قديساً" أو ملاكاً؛ حتى حين كان يدعم "المجاهدين" في أفغانستان في حربهم ضد الغزو السوفييتي، متحالفاً مع الأمريكيين. وكانت لديه أخطاؤه التاريخية في السياستين الداخلية والخارجية، غير أنه في النهاية لم يسر على هوى الأمريكيين؛ فقتلوه. وأما عمران فقد تخبط يميناً ويساراً قبل وأثناء وبعد حكمه كرئيس للوزراء، لكنه أراد أن ينفذ مشروعاً مستقلاً عن الأمريكيين؛ فلم تتطلب إطاحته سوى ورقة صغيرة أرسلتها السفارة الأمريكية في إسلام أباد للعسكر.
حالت الدولة العميقة دون استقلال باكستان عن الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تزل نافذة جداً في الجيش والاستخبارات الباكستانية، وقزمت هذا البلد النووي القوي، وحشرته في زاوية ضيقة أمام عدوته اللدود، الهند، ولم تزل تضعفه أكثر عندما أسلمت البلاد – أو كادت - لحكومة ائتلافية هشة من حزبي الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف، والشعب الباكستاني بقيادة الرئيس الباكستاني الأسبق أصف علي زرداري. مثلما أسلمتها من قبل بعد إقالة واعتقال عمران خان في العام 2022.
أجريت الانتخابات في الثامن من هذا الشهر، وسط تعنت رهيب من الجيش الباكستاني، الحاكم الفعلي للبلاد، ضد عمران وحزبه، حيث لم تخلُ أي من مراحلها من تجاوزات واضحة؛ فرئيس حزب الإنصاف الذي وجهت له أكثر من 180 تهمة تتراوح بين أعمال الشغب والإرهاب وقضايا أسرية وفساد! وتم سجنه في زنزانة متسخة مساحتها 3×4 مترًا، استبقت الانتخابات بإدانة متسرعة له في 5 أغسطس بتهمة بيع هدايا الدولة. والجيش عبر ذراعه الأمني والقضائي قد لاحق معظم قادة حزب الإنصاف بذرائع ومزاعم مختلفة فاعتقل الآلاف، وأجبر عشرات القادة والكوادر على الاستقالة قبل عامين، ثم حالت الدولة العميقة، بذراعها القضائي أيضاً دون انتخاب خلف لعمران في قيادة حزب الإنصاف، فلم تعترف بالانتخابات الداخلية للحزب، ما أفسح الطريق أمام مفوضية الانتخابات المسيسة أن تمنع الحزب من خوض الانتخابات البرلمانية بدعوى أن رئيسه عمران قيد السجن. ليتركوا مقعد رئاسة الحزب شاغرة! وكانت الطامة الأخيرة في الانتخابات ذاتها، حين خاض مرشحو الإنصاف الانتخابات كمستقلين، فزُورت الانتخابات ضدهم في عدد من دوائرهم، لصالح مرشحي الرابطة والشعب المستقلين، لاسيما في إقليم السند.
مشاهد مريرة:
في الانتخابات كانت المشاهد مريرة، واشية باستخفاف العسكر بالإرادة الشعبية؛ فصورة مشينة لحظر اسم عمران خان من وسائل الإعلام الرئيسية، وثانية في إعادة رسم خطوط حدود الدوائر الانتخابية لصالح خصومه، وثالثة شوهدت قبل الانتخابات حيث كان كثيراً ما يجد مرشحو الانصاف أوراق ترشيحهم وقد انتزعت من أيديهم على يد أفراد أمن غامضين. ولتجنب ذلك، لجأت حركة الإنصاف إلى إرسال العديد من المرشحين مع أوراق الترشيح على أمل أن يتمكن أحدهم من اختراق الطوق الأمني!
ورابعة حين صار شعار كرة الكريكيت التي يتخذه عمران شعاراً لحزبه أيضاً، محظوراً هو الآخر، للحؤول دون تعرف كثير من الناخبين على مرشحهم أثناء الاقتراع في بلد يمثل الأميون 40% من ناخبيه.
وخامسة بعد الانتخابات، حين انضم عدد من "مستقلي" حزب الإنصاف إلى أحزاب أخرى، كالرابطة والشعب، بعد ظهور مؤشرات نجاحهم، فأعلنت لجنة الانتخابات نجاحهم، لكنهم سرعان ما خدعوا اللجنة، وغادروا تلك الأحزاب! وسادسة حين قطعت السلطات الاتصالات وخدمة الانترنت طوال يوم الاقتراع في مناطق شاسعة في باكستان، وتذرعت السلطات ببطئها لتبرير تأخير نتيجة الانتخابات لأكثر من 60 ساعة كاملة، ما سمح بتزوير واسع النطاق في أقاليم متعددة لاسيما السند! وسابعة أشد مرارة وسوريالية، حين قال مسؤول باكستاني إنه تلاعب في فرز الأصوات وأن لجنة الانتخابات الباكستانية متورطة أيضًا، واعتذر مسؤول الانتخابات السابق في روالبندي، للجنة الانتخابات، وقال: "لقد قدمت ادعاءات كاذبة، أنا آسف"، لكن المفوضية رفضت ما قاله!
النتيجة:
في أعقاب إعلان النتائج التي لم تقبلها عدة قوى، نظم حزب الإنصاف والجماعة الإسلامية والحركة القومية المتحدة، احتجاجات في جميع أنحاء باكستان خلال عطلة نهاية الأسبوع، لاسيما في إقليم السند الذي شهد أكبر عمليات التزوير تسببت في تغير كبير في نتائج الانتخابات.
وقد ظهرت النتائج التي ظهرت على النحو التالي: فوز المستقلين بـ101 من أصل 264 مقعدا، وأغلبهم مدعومون من حزب الإنصاف. وجاء في المركز الثاني حزب الرابطة الإسلامية-جناح نواز" (رئيس الوزراء السابق نواز شريف) الذي حصد 75 مقعدا ليصبح الحزب الذي حصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان. وحل حزب الشعب في المرتبة الثالثة بفوزه بـ 54 مقعدا، وحصلت الحركة القومية المتحدة على 17 مقعدا، بينما فازت بقية القوى السياسية الأخرى بـ17 مقعدا.
لكن بحسب الإنصاف كانت النتيجة مغايرة تماماً؛ فقد فاز "مستقلو" الحزب بنحو 202 مقعداً، وفي أقل التقديرات، بـ173 مقعداً، إذ حصل الكثير من المستقلين على مستند ٤٥ الذي يثبت فوزهم على منافسيهم إلا أنه لم يتم الإعلان عن نتائجهم، ثم تم تغيير نتائج كثير منهم لاحقاً! وهذه الأغلبية التي حصل عليها منسوبو الإنصاف، هي في الحقيقة أغلبية مطلقة، يدرك ذلك الجميع في إسلام آباد، والعواصم الغربية أيضاً التي تابعت الانتخابات عن كثب، لكن القرار الخارجي كان هو تشكيل ائتلاف حاكم هش يمكن أن تسوقه المؤسسة العسكرية بسهولة.
دستورياً، يحق للإنصاف - لو أُعلنت النتائج الحقيقية - تشكيل الحكومة بمفرده، شريطة انضواء مستقلوه تحت مظلة حزب آخر، وقد وازن حزب الإنصاف في خياره ما بين الحزبين الهامشيين، مجلس الاتحاد السني، ووحدة المسلمين (الأول يتردد أنه ينتمي إلى الطائفة البريلوية الصوفية، والثاني شيعي جعفري)؛ فاختار الأول، وإليه انضم 292 عضواً مستقلاً، منهم 86 أعضاء في الجمعية الوطنية (البرلمان)، في البرلمانات المحلية، البنجاب 107، وخيبر 90، والسند 9، وتقدم الاتحاد السني من ثم بطلب إلى لجنة الانتخابات لتحديد حصته المحددة للنساء ومقاعد الأقليات في الجمعية الوطنية (البرلمان) والمحلية.
على أن ما تسير إليه الأمور حتى الآن، هو ما نجم عنه اتفاق رئيسي الحزبين الفائزين رسمياً، الرابطة والشعب، شهباز شريف وبيلاوال بوتو (نجل بنظير بوتو) والرئيس السابق آصف علي زرداري (زوج بوتو)، من تقاسم السلطة، عن طريق تشكيل حزب الرابطة للحكومة، وتولي آصف رئاسة الجمهورية، ومسؤول من الشعب رئاسة مجلس الشيوخ، وهو اتفاق يدفع إليه الجيش، وترضى عنه الولايات المتحدة، التي تعتبر أن نواز شريف رئيس الحكومة السابق هو الأقرب إليها، حيث يُنظر إلى شريف على أنه صديق للأعمال التجارية ومؤيد لأميركا، علاوة على أن وجود "الشعب" في الحكم والمعارضة معاً، يحقق ما تصبو إليه واشنطن، فطالما رغبت الولايات المتحدة في ارتفاع حظوظ حزب الشعب الباطني (يقوده إسماعيليون، أبرزهم عائلة بوتو التي دمرت باكستان خلال سني حكمها). يقول مايكل كوجلمان، مدير معهد جنوب آسيا في مركز ويلسون في واشنطن العاصمة: "من وجهة نظر واشنطن، أي شخص سيكون أفضل من خان".
.....
رغم أن كل الرياح كانت معاكسة لعمران خان، إلا أنه قد حقق نصراً معنوياً هائلاً، وأبدى شجاعة نادرة لم يألفها الشعب الباكستاني في قادة الأحزاب التقليدية الأخرى، الذين اعتادوا على القفز في السفينة أينما استشعروا الخطر؛ فهربوا إلى بريطانيا أو السعودية. ولعل انتصار عمران وحزبه، رغم كل أخطائهما الفادحة في السياسة والاقتصادية يوحي بأن الشعب الباكستاني راغب في الفكاك من الأسر الأمريكي، وأنه ماضٍ في ذلك متى وجد الفرصة مناسبة.
في المقابل، تبدو سفينة باكستان آيلة إلى الغرق في مزيد من مشاكلها، في ظل حكومة هشة مقيدة، فاسدة، ورئيس اشتهر بالفساد والرشى وتبييض الأموال، وحُكم عليه من قبل في باكستان وسويسرا، وتغلغل طائفي خبيث، واقتصاد واهٍ جعل باكستان المسلحة نووياً غارقة في ديون خارجية تبلغ 140 مليار دولار، في حين يعاني الشعب من أعلى معدلات التضخم في آسيا، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 38,5% على أساس سنوي.
فشلت حكومة الائتلاف، وستفشل ثم تسقط، غالباً، ولهذا عمد حزب الشعب إلى عدم المشاركة فيها، وإن تحالف مع الرابطة، وربما سيعاني الباكستانيون أكثر، مع نظام يحقق أهداف أعدائه البعيدين، ويتغافل عن عدوته اللدود القوية، التي تزداد قوة وتوحشاً يوماً بعد يوم.. تغرق باكستان، وتنهض الهند.. الأولى في ظل حكم عسكري علماني عنيد، يجافي كل تطلعات شعبه، ويمهد الطريق للهزيمة القادمة أمام أعدائه، في كشمير، وربما في أقاليم أخرى، والثاني في ظل حكم هندوسي طائفي وقومي حقيقي، يعمل لصالح مشروعه ويخلص له، ويقبل على انتخابات قادمة، وهو يملك أدوات القوتين الداخلية والخارجية، برغم كل تخاريفه "الدينية" وطقوسه الخرقاء.. لله الأمر من قبل ومن بعد.