السودان.. الفرصة الأخيرة لم تزل سانحة
بعد سلسلة من الهزائم مُني بها الجيش السوداني، كان أخطرها سقوط مدينة "ود مدني" ثاني أكبر مدن السودان بعد العاصمة المثلثة، قبل شهرين تماماً، في يد ميليشيات الدعم السريع، ما مثل صدمة حينها امتد رجع صداها في المنطقة كلها، التي نظرت إليه على أنه أحد أكبر الدلائل على ضعف قدرات الجيش السوداني، وقابليته للهزيمة.
على أن ما اقترفته ميليشيات حميدتي من جرائم بلغت حد اغتصاب حرائر سودانيات قد أشعل غضباً عارماً في ربوع السودان، ما أوجد حالة من الغليان أفضت إلى استنفار متطوعين كثر، أُطلق على مجموعاتهم اسم "المستنفرين" أو "المقاومة الشعبية"، والتي تنحدر من قبائل وأهالي، يغلب عليهم الطابع الإسلامي المعروف عن شعب السودان الأصيل، حركتهم الحماسة الدينية، والحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم (وهي كذلك من مقاصد الشريعة الغراء)، وحدبهم على بلادهم أن تفشل وتتفكك بعد أن تداعت عليها دول الجوار وبعض الدول العربية القائمة بالدور الصهيوني بالإنابة.
انتاب الأهالي، بمن فيهم الإسلاميون، قلق شديد من فلتان الأمور، ودخول البلاد في حالة الفوضى؛ فانعكس مؤشر الانتصار فجأة، وسرت الحماسة في ألوية الجيش نفسه كذلك، وبدأت الانتصارات تتوالى، إلا أن جاء الأهم فيها، وهو التقاء جيش كرري، مع سلاح المهندسين المحاصر في أم درمان، فانفك الحصار، وتحرر سوق المدينة وأجزاء شاسعة منها، تقول مصادر الجيش السوداني و"المستنفرين" أنها بلغت نحو 90% من المدينة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العاصمة المثلثة.
نصر كبير، ولا شك، لكنه الصراع لم يزل في أوجه، والحرب ما فتئت تمزق أوصال هذا البلد المحوري في إفريقيا؛ فتحديات الداخل والخارج لم تنزو بعد.
ميليشيات حميدتي أو ما يُطلق عليها مجازاً "الجنجويد"، هي مجموعات فوضوية، ناهبة، عاثت فساداً في البلاد، فجذبت إليها غضبات المقهورين من الشعب السوداني؛ فكانوا مادة ثرية لتشكيل المقاومة الشعبية. ورغم أن حميدتي وقادة ميليشياته لا يرغبون في استقطاب الشعب السوداني ضدهم، إلا أن طبيعة تكوين عصابات الجنجويد والمرتزقة، لا تقوم إلا على النهب والسلب؛ لأنها إنما اندفعت للظفر بالغنائم والمسروقات، ولم تنبعث بسبب قضية ما عادلة أو غير عادلة. كما أن حميدتي الذي يعتمد كلياً على الخارج، سواء في دولة الإمارات أم دول الجوار كإثيوبيا وكينيا وتشاد، أم روسيا، وغيرها، لا يأبه كثيراً بتطلعات السودانيين أو آراءهم حياله وعدوانه، بقدر ما يهتم بالرعاة والداعمين (يلحظ سودانيون أن بيانات حميدتي تنشر بالإنجليزية أولاً قبل العربية، بسبب اهتمامه بالداعمين عن الشعب السوداني).
ولأن طبيعة العدوان الميليشياوي الجنجويدي اعتمد على اغتصاب الدور، والحلول مكان سكانها، ونهب ما فيها؛ فإن التنادي إلى تشكيل "المقاومة الشعبية" قد وجد صدى، ثم وجد سبيلاً للنجاح، كون المواجهة كانت بشرية التحامية أكثر منها عسكرية متطورة في داخل المدن، وعليه؛ فقد أحدثت المقاومة الشعبية الفرق، إضافة إلى القوى العسكرية المنظمة الموازية من مكونات النظام السابق المدربة جيداً، أو كذلك المنخرطة في الجيش السوداني نفسه، القريبة من الحركة الإسلامية، ، ككتيبة البراء بن مالك، التي تنتمي إلى "الدفاع الشعبي" الذي نشأ 1989م على يد البشير، وتم حله، وتحويله إلى "قوات الاحتياط" عام 2920م بعد انقلاب البرهان.
خليط من قوات الدفاع الشعبي السابقة، و"المستنفرين"، ومقاتلي القبائل، والحركة الإسلامية، يصطفون اليوم إلى جانب الجيش السوداني، ونقلوه من حال الهزيمة إلى النصر الجزئي الكبير، لكن ثمة مخاوف من القادم يصعب تجاهلها اليوم.
الحلفاء العسكريون، وهذا الخليط، يحققون تقدماً الآن على أصعدة عسكرية مختلفة، غير أنهم يواجهون التحديات التالية:
نجاح ميليشيات حميدتي في استعادة توازنها، بعد مزيد من الضخ المالي الخليجي، والبشري، القادم من غرب السودان، من قبائل عربية وإفريقية تصطف إلى جانب حميدتي.
تزايد الضغوط على نظام البرهان، المعروف بانتهازيته، وباستعداده للتضحية برفقاء السلاح حال زادت الضغوط الغربية والإقليمية عليه، وحينها ستكون هذه الفئات مجرد ورقة للتفاوض.
نجاح الجيش في حسم المعركة، لكن في غياب أي رؤية تحكم عمل المستنفرين من المقاومة الشعبية وتلك القريبة من نظام البشير السابق؛ فإن نظام البرهان سيخشى من تزايد نفوذها، وعليه فقد يجد نفسه متصالحاً من حل يقصي هؤلاء، وربما يعرضهم لقدر من التضييق والبطش.
ولحسن القدر؛ فإن أي من هذه التحديات لا يشتت الخيارات أمام "الإسلاميين" في تحديد بوصلتهم، واختيار الحل الأنجع لمسيرتهم في تلك المرحلة الدقيقة. سبق أن طُرحت ورقة سابقة بعنوان "طالبان السودان"، وتطور الأحداث جاءت لتبرهن على أهمية التمسك بهذا الحل.
إن من شأن بناء قوة حقيقية، قوامها متدينون من هذا الخليط الآنف الذكر، يملكون مشروعاً سياسياً مستقلاً عن النظام السوداني الحالي، مهما كانوا في الميدان حلفاء مخلصون لأخلاقيات الحرب وفروضها، ويطرحون رؤيتهم المتفردة، أن يحقق لهؤلاء حصانة حقيقية من تقلبات القادم، أكان خذلاناً عسكرياً، بصفقات سلمية مريبة، أم انتصاراً يتيح أكل شركاء القيامة الأخيرة على غرار ما يحصل في أعقاب الثورات وفقاً للمقولة الشهيرة "الثورة تأكل أبناءها". ومن شأن بذل الجهد والتضحية من دون وحدة حقيقية لأصحاب الهم الواحد، وبتلك الحالة المتشتتة أن يقود إلى الفشل وذهاب الريح.
المطلوب باختصار، لكل المتدينين المنخرطين أن يساندوا الجيش السوداني، نعم، لكن عبر قوة قائمة بذاتها، وليست مجموعات تسير في ركاب الجيش، يذهب بها يميناً أو يساراً حيثما أراد، ثم يلقي بها في آخر المطاف، هملاً أو قرباناً.
وشركاء الميدان، بل من أحدثوا الفرق فيه حقيقة بعد انهزام الفرق العسكرية النظامية، الواحدة تلو الأخرى قبل وأثناء نكبة "ود مدني" والعاصمة المخربة من قبلها، ودارفور، جديرون بأن يكونوا شركاء الحل، وشركاء السلطة، لا أن يكونوا مجرد أدوات لها. وإنه ليتعين عليهم أن يطرحوا حلهم لحكم السودان الجديد، الذي يحقق إرادة الشعب السوداني، ويضع حميدتي وقحت وغيرهم في أحجامهم الحقيقية، وإلا؛ فالأخطاء التي وقعت فيها الحركة الإسلامية في السودان في مرحلة ما بعد البشير كانت فادحة، وأفسحت الطريق لشيوعيين ومرتزقة وعملاء أن يشكلوا الحكومات ويضعوا الدساتير ويغيروا كثيراً من واقع أصيل لم ينفك يوماً عن السودان المسلم في شهور قليلة.
آن للمتدينين أن يعيوا طبيعة الفرصة السانحة، وألا يتماهوا مع شعارات سيقت لاستلابهم حجمهم الحقيقي في الجسد الشعبي السوداني، كـ"يرحل وبس"، أو "الجنجويد يتبل وبس"، (أي: المهم أن يرحل البشير وليكن بعد ذلك ما يكون، والآن: ليندحر الجنجويد وكفى)، وذلك من دون أي رؤية للمستقبل.. أو بالأحرى: دون رؤية لوقود الثورات والحروب، أما أباطرتهما فيدركون ماذا يفعلون، وكيف ستسقط الثمار في أيديهم في نهاية المطاف. لقد أضاع المتدينون فرصاً كثيرة سنحت لهم في غير ما بلد إسلامي، وتسببت غفلتهم في تفوق أعداء الأمة المسلمة عليهم وعليها. والمؤلم أن الفرص لم تعد تسنح كثيراً في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها الأمة المسلمة؛ لذا فإن ضياعها يصبح مصيبة كبيرة، وجرحاً لا يندمل بسهولة.
ليكفي هذا القدر من "السماحة"، وليَصُغْ أهل الحق مشروعهم، وليرسموا طريقهم، وليُعدّوا للمستقبل عدته الواجبة.