الصومال: الشراكة التركية والاختراق الإثيوبي
على مفترق طرق تجد عربة الساسة الصومالية نفسها قيد الاختيار ما بين المسار النهضوي أو التفكيكي؛ فإذا ما تُرك الأمر للشعب الصومالي، أو لحكمائه، فالأمر لا يحتاج إلى تردد، إذ الطريق واضحة لكل ذي عينين.
ليس في المسألة سر. الكل يعلم أن الصومال عائم على بحيرة نفطية وغازية في بحره وبره، بما يجعله يحتل المركز السادس على مستوى العالم من حيث الاحتياطي النفطي الذي يملكه في ثلاث مناطق حيوية في البحر داخل حدوده البحرية ومناطق نفوذه الدولية، وفي اليابسة أيضاً. تقدر الإحصاءات الغربية هذه الثروة النفطية بنحو 30 مليار برميل، بقيمة تزيد عن 500 مليار دولار.
تأرجح القرار الصومالي الرسمي في كيفية الإفادة من هذه الثروة من دون أن تتعرض السيادة الصومالية لمزيد من الانتهاك؛ حيث إنها بالفعل مجروحة في غير ما إقليم، وغير ما صعيد. حسمت إثيوبيا لمقديشو قرارها بسرعة؛ فالجارة العدوة التقليدية أبرمت اتفاقاً مع الإقليم الانفصالي "أرض الصومال" أو "صوماليلاند" الذي أعلن نفسه جمهورية مستقلة منذ العام 1991م، ولم تعترف به سوى دولة الإمارات، وتشجعه "إسرائيل" على الانفصال من دون اعتراف رسمي. يقضى الاتفاق الذي أعلن عنه في الأول من يناير الفائت، بأن "تؤجر" بموجبه أديس أبابا، شريطاً ساحلياً للإقليم على خليج عدن، بمساحة 20 كيلو متراً مربعاً لمدة خمسين عاماً، تقيم عليه إثيوبيا ميناء تجارياً، وقاعدة عسكرية بحرية، يصل ما بين ميناء زيلع الصومالية (بأرض الصومال) ومدينة هرر الحبشية، اللتين كانتا متصلتين تاريخياً في ظل حكم إسلامي طويل، ويعتبر الشريط الرئةَ البحرية لهذا البلد الكبير الذي لا يتمتع بأي إطلالة بحرية، ويعتمد على جيبوتي في تصدير 95% من تجارته البحرية ثم إريتريا، مقابل اعتراف الحكومة الإثيوبية بـ"أرض الصومال" كدولة مستقلة، وحصول "أرض الصومال" على حصة قدرها 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية التي بلغت إيراداتها نحو 6.9 مليار دولار وفقًا لإحصاءات عام 2022.
ولم يكن ثمة مناص أمام مقديشو سوى الارتكان إلى قوة إقليمية قوية؛ فبعد سلسلة من الاحتجاجات الدبلوماسية في سائر المحافل والمنظمات الدولية، حزم الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود حقائبه، وسافر على رأس وفد رفيع إلى القاهرة بعد ثلاثة أسابيع من الاتفاق الإثيوبي، واستمع إلى نظيره المصري، وهو يقول: "مصر لن تسمح لأحد بتهديد الصومال أو يمس أمنها (...) محدش يجرب مصر ويحاول يهدد أشقاءها خاصة لو أشقاءها طلبوا منها التدخل". بيد أن صرامة التصريح لم يُترجم إلى قرارات وإجراءات يمكنها أن تردع أديس أبابا على الأرض، وتكبحها من التمدد إلى شاطئ الصومال، وبالتالي؛ فإن الصومال اتجهت إلى أنقرة مباشرة، وهناك كان المسؤولون الأتراك جاهزين لمنح الصوماليين ما يرغبون به حقيقة.
بعد أسبوعين من زيارة شيخ محمود لمصر، كانت اللمسات الأخيرة توضع في أنقرة بين المسؤولين الأتراك والصوماليين لاتفاق وصفه رئيس الوزراء الصومالي بـ"التاريخي"، لم تمضِ سوى خمسة أيام فقط على مغادرة الرئيس الصومالي للقاهرة حتى أوصل إلى الرئيس التركي رغبته في عقد اتفاق عاجل لتأمين الحدود البحرية للصومال والتنقيب عن نفطه وغازه. أعدت الاتفاقية في 10 أيام فقط، وسافر وزير الدفاع الصومالي لإبرام الاتفاق، ومن ثم وقعه الرئيس بعد أسبوعين. وينص الاتفاق على أن تقوم البحرية التركية بمساعدة مقديشو على إنشاء قواتها البحرية من الصفر، وتتكفل تركيا بتوفير الحماية للحدود البحرية التي تزيد عن 3000 كلم (وهي الأطول في إفريقيا) ريثما يتم ذلك، ومنع الصيد غير القانوني، والقرصنة، وتطوير الجيش الصومالي، وتزويده بالأسلحة الحديثة التي تنتجها تركيا، والتنقيب عن النفط والغاز الصومالي واستخراجهما، وتقاسم الإنتاج بنسبة 30% لتركيا والباقي للصومال، وتسري الاتفاقية لمدة 10 سنوات من يوم توقيعها.
ولو سرت الاتفاقية على هذا النحو، لتحقق قدر عالٍ من الرفاهية للشعب الصومالي، ليس من جهة النفط وحده، لكن يُتصور أن تستعاد القيمة الاقتصادية والاستراتيجية للصومال، كبلد يطل على ساحل كبير جداً يؤهله للاستثمار في قطاعات الصيد، والسياحة، إضافة إلى تطوير قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية، والتعدين، لاسيما استخراج اليورانيوم من جنوب الصومال، وقد يترتب عليها ما ألمح إليه الإعلام التركي الذي أبدى قدراً مبالغاً فيه من الطموح في إمكانية قيام الأتراك بعملية لإعادة إقليم أرض الصومال للوطن الأم، مع البدء في إرسال سفينة "السلطان عبد الحميد" للحفر واستخراج النفط.
كل هذا كان يمكن أن يحصل لو كانت أنقرة هي الحليف الأوحد للصومال، بخلاف ما يعارضه الواقع؛ فالرئيس شيخ محمود نفسه قد جاء إلى سدة الحكم الصومالي عبر تسهيلات ودعم مالي واضح من دولة الإمارات، وهو قد وقّع في يناير 2023 اتفاقية مذلة للصومال، تشمل نقاطاً تنتهك السيادة الصومالية، إذ تتضمن الاتفاقية (13) مادة، تمنح الإمارات "الحقّ في استخدام المرافق الإقليمية، واستيراد المعدات العسكرية، والتحقيق وجمع المعلومات، وإنشاء مراكز تدريب للعسكريين وتوفير وتمويل قوات مكافحة الإرهاب". والإمارات انطلاقاً من قاعدة غوردون التابعة لها في الصومال، تؤسس للعديد من القواعد العسكرية، وتقوم بتدريب قطاع من الجيش الصومالي، وتدفع رواتب ضباط وجنود، بحيث تضمن ولاءهم وانحيازهم إليها في أي معادلة للقوى قد يعمل طرفها الآخر على محاولة استقلال الصومال. الإمارات التي تقف خلف اتفاق إثيوبيا/أرض الصومال على الأرجح، هي التي تبني وتوسع ميناء بربرة في أرض الصومال ضاربة عرض الحائط بسيادة الصومال، وهي التي تمول تدريب كتيبة "أبو دجانة" التابعة للجيش الصومالي في أوغندا، لمحاربة تنظيم شباب المجاهدين، ويفترض أن هذه الكتيبة مكلفة بالدفاع عن سيادة البلاد! وما يقال عن الإمارات، يقال مثله عن الولايات المتحدة الأمريكية التي تدرب هي الأخرى قطاعات من الجيش الصومالي، وتحتفظ بخمس قواعد للتدريب والمراقبة في جنوب الصومال.
وهذه القوى الإقليمية والدولية، لم تدخل بلداً لتمنحه الرفاه والاستقلال، بل لتمارس عليه لعبة الاستقطاب، ودعم بعض القوى، وإبقاء البلاد في حال الفوضى والضعف دون حسم حتى لصالح حلفائها.
كان الرئيس السابق فرماجو الذي قيل إنه قد جاء وفق إرادة قطرية، أكثر حرصاً على الاستقلال من خلفه، لكن الأخير قد حُشر في زاوية ضيقة، ومن حشرته هي حليفته الإماراتية؛ فهل تُراه قد غير وجهته وسياسته، أو أن ما يناور به الآن محض مزايدة في سوق خاسرة؟ ثم هل يمكن للحكومة التركية أن تكون منقذاً مناسباً في هذا التوقيت، وهي العالقة في سياسة مترددة في كل سوريا وليبيا، والمضطرة أصلاً إلى استثمارات سخية من الإمارات، ضُخت إليها قبل انتخابات الرئاسة، ولم تزل هي بحاجة إليها وإلى شراكة "أبو ظبي" الاقتصادية الاستراتيجية؟
جوهر الحل، يدور حول سؤال الاستقلال الصومالي، وما إذا كان لساسة الصومال الحاليين الرغبة في تغليب مصلحة بلادهم على حظوظهم الشخصية.