الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1446
section banner

العام والخاص في حل البرلمان الكويتي

العام والخاص في حل البرلمان الكويتي

(الدستور) و(مجلس الأمة) يشكلان سداً منيعاً أمام التطبيع مع "إسرائيل". فكر فيها جيداً. 

هل الإجراءات الأخيرة في الكويت خطوة تحضيرية لركوب قطار التطبيع مع "إسرائيل" أسوة بدول الخليج الأخرى؟

د. عبد الله النفيسي

المفكر الكويتي المخضرم لم يكن بحاجة إلى أن يكون أكثر وضوحاً من ذلك، وهو يغرد "خارج السرب" هكذا - مخالفاً صمتاً نخبوياً سائداً - على موقع X يومي 17و15مايو، مشيراً إلى مغزى الإجراءات التي اتخذها الأمير الكويتي بـ"تعطيل العمل ببعض بنود الدستور"، و"حل مجلس الأمة"، فالإمارة الخليجية كانت دوماً تنفرد عن لداتها الخليجيات بالتجربة شبه الديمقراطية التي كانت تمارسها على مدى ستين عاماً تقريباً، وصارت مؤخراً أبعد كثيراً عن شقيقاتها باتخاذها سياسات خارجية مستقلة عنهن. وفي حين هرولت دول خليجية تجاه التطبيع، اتخذت الكويت موقفاً مغايراً، استدعى من "الشركاء" الإقليميين والدوليين وقفة ومراجعة مواقف و"نصائح"

الأزمة لها جذور، لم تبدأ مع إلقاء أمير الكويت، مشعل الصباح خطابه المتلفز في 10مايو الحالي، معلناً: "أمرنا بحل مجلس الأمة، ووقف بعض مواد الدستور لمدة لا تزيد عن أربع سنوات، يتم خلالها دراسة جميع جوانب المسيرة الديمقراطية". وناصّا على أن الأمير ومجلس الوزراء سيتوليان اختصاصات مجلس الأمة (السلطة التشريعية) في هذه الأثناء. ومحذراً في خطابه: "يجب أن يعلم الجميع أن لا أحد فوق القانون فمن نال من المال العام من دون وجه حق سوف ينال عقابه أيا كان موقعه أو صفته. لن أسمح على الإطلاق أن تستغل الديموقراطية لتحطيم الدولة (...) هناك إساءة بالغة في استخدام الوسائل الدستورية وأسلوب الخطاب الذي لا يتفق مع عادات أهل الكويت الطيبين الأصليين (...) لقد أصبحت قاعة عبدالله السالم مسرحاً لكل ما هو غير مألوف وغير مستحب".

جذور الأزمة، منها ما لا يمكن فصله عن النطاقات الدولية والإقليمية، بل والتاريخية كذلك، وهو ما يمكن أن نصفه بأنه حالة عامة، لم يكن انحدار الحالية السياسية إليها بدعاً من الزمان. 

ففي قلب الحالة العامة، ما باح به د. النفيسي، في الداخل منفرداً به (تقريباً)، لما يملكه من "حصانة" معنوية (ربما لم تَحل دون تردد "شائعة" عن استدعائه لجهاز أمن الدولة بعد تغريدتيه هاتين رغم نفسه الصريح لها)، كقامة أكاديمية وفكرية تفتخر بها الكويت، نخبة وشعباً، وما سبقه إليه الأكاديمي الاستخباري، اليهودي الصهيوني، إيدي كوهين، أحد منافذ تسريب الموساد للمعلومات الحساسة العربية، وذلك خلال تلك التغريدة المثيرة للجدل، والتي "بشرت" قبل خمسة أشهر، بما حصل قبل أيام في الحالة السياسية الداخلية الكويتية. 

بصفة عامة، وكقاعدة مضطردة، ينبغي أن يُعلم أن ثمة علاقة طردية بين دفء العلاقة بين الدول العربية والإسلامية والكيان الصهيوني من جهة، والنزوع نحو السلطوية، وتشديد القبضة الأمنية من جهة أخرى؛ فكلما نحت الدول باتجاه التطبيع، كلما صودرت الدساتير والإرادات الشعبية وفتحت السجون أبوابها للمعارضين، وفي قلبهم المتدينون. بل زِد أن شؤم العلاقة مع الكيان الصهيوني واللوبي الصهيوني لا يقتصر تأثيره على الدول المسلمة وحدها؛ ففي تبعات "طوفان الأقصى" ما يبرهن على ذلك حتى في أعرق الديمقراطيات وأبرز الليبراليات، فلأول مرة تتعامل السلطات الأمنية في الولايات المتحدة وألمانيا، وبدرجة أقل بريطانيا مع شعوبها، لا بل مع نخبتها الأثيرة بمثل هذه القسوة، وذاك القمع، الذي طال مرشحي رئاسة وأبناء السيناتورز ونخبة المجتمع في هارفارد العريقة وأخواتها. 

وفي التاريخ الحديث، يمكن أن تقرأ العبارات ذاتها – بـ"تصرف يسير" -، في خطاب الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات الأخير، حينما بدأ التطبيع يخرج نبتته الخبيثة في مصر، واشتعلت المعارضة ضد التطبيع؛ فكانت تلك كلمات السادات: "لن يقع إنسان في غلطة واحدة من دون أن يُحاسب بالقانون، أنا قلت قبل كده إن الديمقراطية لها أنياب أشرس من الديكتاتورية" [محمد أنور السادات في خطابه الأخير سبتمبر 1981م]. وهكذا يسبق التطبيع مثل هذه الكلمات أو يعقبها دوماً.. محاسبة بلا هوادة، تعطيل لبعض أحكام الدستور، أحكام استثنائية، فتح أبواب السجون!

وفي الإقليم، ثمة من رحّب وشجع على مثل هذه الإجراءات، أما في العالم؛ فلا تخطئ العين نزوعه باتجاه الأحكام الاستثنائية، والقرارات الدراماتيكية، والممارسات القاسية، والسياسات الاستبدادية.. إنها مرحلة استثنائية برمتها، لن تكون الكويت بمعزل عنها، ولم يكن متوقعاً أن تسبح طويلاً ضد تيارها الجارف. 

لكن من زاوية محلية خاصة، هناك من يحصر هذه الإجراءات في ظروف داخلية محضة؛ فالانسداد سائد في الحياة السياسية؛ فالحكومة قبل تشكيلها مهددة بالمسائلة، والنواب متحفزون لحجب الثقة عن بعض وزرائها، ولا نائب واحداً يريد المشاركة فيها مما يقوضها بنص الدستور، وثمة معارضة مبطنة لاختيار الأمير لولي عهده قبل أن يسميه، وما من شك في أن كثيراً من النواب ما زالوا أسرى الماضي بممارساته البرلمانية والسياسية الداخلية، ظانين أن عقارب الساعة لم تتحرك إلى الأمام إلى ظرف طارئ، ومرحلة لم تعد فيها "محرمات" كثيرة سياسية (ديقراطية)، واجتماعية (ليبرالية)، وحقوقية. وعليه؛ فإن أصواتاً كويتية قريبة من الحكم أو "مسالمة" ترى هذه الأحكام شديدة المنطقية، لأن البلاد لابد أن تتحرك، تنموياً وسياساً، وفيما تموج الأحداث والحروب والتغيرات من حول هذه الإمارة الصغيرة؛ فإنه يقع لزاماً على القيادة أن تحسم، وتمسك بزمام الأمور، وليكن د. وليد الطبطبائي وأنور الفكر في السجن قرباناً لمرحلة الحزم، وليصبح نزع الجنسية أداة يلوح بها أو تُستخدم، لا ضير، ما دام الوطن قد تشوق إلى الحزم والقوة. 

والحق أن وجهة النظر تلك تتجاهل عمداً أن أيا من النواب، الذين أشير إليهم بـ"البعض" لم يقبل بأن ينضم إلى تلك الحكومة، وأن هذا قد كان ليستدعي إعادة النظر في تشكيلها لا إزالة البرلمان والدستور من طريقها؛ فلا يمكن لنواب الشعب المنتخبين أن يجمعوا على عدم الانضمام لتلك الحكومة ما لم يكن خلفهم مبررات منطقية وجيهة إلى حد ما، وهذا قد كان ليحتاج إلى مناقشة سياسية على أعلى مستوى، لا أن يحاصر البرلمان بالعربات المصفحة والأطواق الأمنية. 

 

الحال أن الكويت لن تكون بعيدة عن تونس، والأردن لن يتأخر طويلاً عنهما، وما يتعين أن يُستنتج في الآن أن الأيام القادمات لن يُصبر فيها طويلاً على الأصوات المعارضة والمناهضة للتوجهات السائدة من المحيط إلى الخليج، لاسيما المتدينة منها، وأصحابها لابد أن يقرؤوا المشهد على هذا النحو؛ فإما انكماش مدروس، أو هروب إلى الأمام في طريق مجهولة، ومعالجة الواقع الجديد بآليات رتيبة لا تصلح لهذا الظرف الاستثنائي.