الأحد ، 11 ذو القعدة ، 1445
section banner

العدوان الإيراني على باكستان.. النقاط والحروف

العدوان الإيراني على باكستان..  النقاط والحروف

اتجهت أصابع الاتهام في مقتل العميد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني راضي موسوي في غارة جوية خارج دمشق في سوريا في أواخر ديسمبر، على نطاق واسع إلى "إسرائيل". كما أن تفجيرات كرمان في وقت سابق من هذا الشهر في عند ضريح قاسم سليماني وفي ذكرى وفاته، والذي كان أعنف هجوم مسلح في البلاد منذ قيام دولة الملالي في عام 1979م، كانت تومئ بوضوح إلى "إسرائيل" أو الولايات المتحدة التي تبنت في الأصل مقتل سليماني، بيد أن إيران فضلت أن ترد في اتجاهات أخرى تماماً. 

لا غرابة فيما فعلته طهران، فطالما تفتقت عقلية الملالي عن تفسير "سني" لكل عدوان أو إهانة تقوم بها دولة غير مسلمة، وبالتالي "تصالحت" مع نفسها الأمارة بتفريغ شحنتها الانتقامية من أعداء المسلمين في المسلمين أنفسهم، ففعلت! فلقد مر الطريق إلى القدس، عبر أدوات إيران وميليشياتها خلال سني حكم الملالي العجاف على المنطقة، بحمص وحلب وبيروت والرياض وإدلب وأربيل وصنعاء والحديدة... إلخ، لكنه كان دوماً يخطئ طريقه إلى القدس، أو تل أبيب، أو ما تُسمى بالمصالح الأمريكية المباشرة في المنطقة. ولم تتخلف طهران عن هذه المسارات؛ فردت على مقتل موسوي، وهجوم كرمان، بعدوان مباشر على ثلاث مناطق سنية؛ فاستهدفت الأطفال في باكستان، ومركزاً طبياً في إدلب السورية، وهدفاً مجهولاً في أربيل الكردية العراقية، تحت لافتات استهداف مقرات لـ"جيش العدل" البلوشي السني المناوئ لحكم الملالي، وأهداف لـ"داعش" في إدلب (أو مقراً للحزب الإسلامي التركستاني بحسب وسائل إعلام قريبة من الحرس الثوري)، ومقر لـ"الموساد" في أربيل. 

وبطبيعة الحال، لم ترد إدلب المحررة التي لا توجد مقرات معروفة لداعش بها، بل في جيوب بشرق سوريا تعرفها إيران جيداً، وذلك لأسباب عديدة منها فرق القوة بين الطرفين، الإيراني، والفصائلي السوري، وعدم الرغبة في استفزاز الإيرانيين، ولم ترد كردستان، ولا الحكومة العراقية المركزية في بغداد، والتي تخضع لتأثيرات إيرانية معروفة أيضاً. وقد ضربت القوات الإيرانية الجوية في إدلب لأن داعش قد رفعت عن طهران الحرج، فتبنت عملية كرمان، وبالتالي برأت "إسرائيل" من العملية فارتاحت إيران إلى رد لا يمس "إسرائيل"، وكذلك فعلت بضرب الأكراد مثلما مردت على ذلك منذ قصفت حلبجة في العام 1988م بغاز الخردل، وحتى الآن. وبهذا كان قصف إدلب وأربيل أقل كلفة كثيراً من توجيه السلاح إلى المتهم الرئيس/"إسرائيل".  

وبطبيعة الحال أيضاً ردت باكستان بنفس المستوى من القصف، وتدثرت هي الأخرى باستهداف هدف لحركة بلوشستان المعارضة لها، والتي تنشط في إيران، ويتردد على نطاق واسع أن الاستخبارات الهندية تدعمها، لمنع خروج رد الفعل عن حدود المناوشات، ودخوله في حيز الاستهداف المباشر لإيران رغم انتهاكه هو الآخر للسيادة الإيرانية.

ولكي نضع نقاطاً على الحروف السابقات، يحسن أن نذكر جملة من الأسباب قد دفعت إيران إلى توجيه هذه الضربة إلى باكستان ثم جملة من دوافع باكستان للرد، ثم استنتاجات وملاحظات حول الأحداث: 

فإيران كان لديها مبرراتها وأسبابها لتوجيه هذه الضربة في جنوب غرب باكستان:

أولها: هو الرغبة في توجيه رسالة للداخل الإيراني بأن نظامهم وقواتهم ليست عيية على الرد على الأمريكيين و"الإسرائيليين" اللذين زادا من إهانة إيران بضرباتهما التي استهدفت قادة في فيلق "القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، وفي هذا السياق يقول حميد رضا ترغي، المسؤول الإيراني المقرب من نظام الملالي لصحيفة "فايننشال تايمز" (20 يناير): "الهجمات في باكستان وأربيل تحمل رسالة مباشرة إلى الإسرائيليين والأميركيين مفادها أنه لا تقتربوا من إيران وأوقفوا الحرب في غزة"، مضيفًا: "إيران لا تريد حربًا مباشرة مع إسرائيل وأميركا، لكننا نريد أن يرى الأميركيون كم باستطاعتنا أن نكون شديدين". وقال جواد هيرانيا، مدير دراسات الخليج الفارسي في مركز الأبحاث العلمية ودراسات الشرق الأوسط الاستراتيجية في طهران: "لقد طالب مشجعو الجمهورية الإسلامية الإيرانية برد قوي على هذه التصرفات من خلال عقد تجمعات مختلفة وكذلك على شبكات التواصل الاجتماعي".

ثانيها: هي رسالة للإقليم كله، بأن إيران لديها القدرة على مناوشة كل جيرانها في وقت واحد، وأن يدها يمكنها أن تطال دول الإقليم دفعة واحدة، وتنتهك سيادة الدول المجاورة إذا ما استشعرت خطراً خلف الحدود، وهذه الرسالة تصل إلى باكستان وأفغانستان والعراق وتركيا ودول الخليج أيضاً، وإلى تركيا أيضاً، فطهران التي تقيم علاقات وثيقة جداً مع العراق لن تستنكف عن ضرب أي هدف داخله متى شاءت، وهي حين أرادت الرد في إدلب؛ فإنها اختارت مركزاً طبياً تابعاً للحزب الإسلامي التركستاني – بحسب وكالة تسنيم الإيرانية القريبة من الحرس الثوري – (في إشارة تهديدية أرادت توجيهها إلى تركيا، الحاضنة المفترضة للحزب ولكل الحساسيات التركمانية في الشمال السوري، وإشارة تضامنية مع الصين التي يمثل الحزب فرعاً لأصل في تركستان الشرقية المحتلة). وإذ تضرب دولة نووية كباكستان، ولا تبالي بالرد، رغم أن باكستان هي من ترعى المصالح الإيرانية في الولايات المتحدة الأمريكية دبلوماسياً؛ فإن تطبيع طهران لعلاقاتها مع دول الخليج سوف لن يكبحها عن توجيه ضرباتها في عمق أراضيهم متى أرادت، فهي المنفلتة من كل عقال، المطلقة اليد في المنطقة دون حسيب إلا رادع القوة، كذاك الذي بادرت إليه باكستان على الفور للرد على انتهاك سيادتها واستباحة أراضيها بالقصف. 

ثالثها: هي الرغبة الحقيقية في تحريك المياه الراكدة بينها وبين باكستان عبر الضغط، للتنسيق بشأن تصفية القضية البلوشية تماماً؛ فرغم أنها تشجع "جيش تحرير بلوشستان" الانفصالي ذا التوجه اليساري، و"جبهة تحرير بلوشستان"، على إثارة الاضطرابات في باكستان المجاورة، إلا أن ضربات "جيش العدل" البلوشي السني الذي تتهم طهران، إسلام أباد بدعمه واحتضانه، قد صارت موجعة جداً للإيرانيين، خصوصاً أن آخر عملياته التي أدت لمقتل 11 ضابطاً إيرانياً لم يكن قد مر عليها أكثر من شهر، وخصوصاً أن الجيش يطور نفسه، وقد بدأ يظهر كتحدٍ حقيقي للملالي في المنطقة الجبلية، التي ينطلق منها لشن هجمات قوية على القوات الإيرانية ويوقعها في كمائن ناجحة. 

رابعها: زعزعة الاستقرار وإثارة الاضطرابات في هذا البلد المسلم الكبير، هو أحد أهداف إيران غير المعلنة، وهو هدف يتسق مع كامل استراتيجية إيران لمحيطها السني، الذي لم توفر فيه بلداً لم تستهدفه ببث الفتنة فيه أو استهدافه عسكرياً بصورة جزئية أو شاملة. وهو كذلك يتماهى مع الاستراتيجية الهندية المعادية لباكستان، وفي الواقع، كانت الهند من بين الدول القليلة التي أعربت عن دعمها للهجوم الإيراني، الذي رنا إلى الإشارة إلى وجود صلة لباكستان بالإرهاب وإيوائه، وهي اتهامات أصرت نيودلهي طويلاً على اتهام إسلام أباد بها، وأصر الباكستانيون على نفيه بشدة، وقد حدثت الضربة الإيرانية في باكستان بينما كان وزير الشؤون الخارجية الهندي سوبرامانيام جيشانكار في طهران.

خامسها: أن الغارة الإيرانية على مناطق لا تبعد سوى نحو 250 كلم عن ميناء جوادار الباكستاني، قد ترسل رسالة واضحة للمستثمرين في هذا المشروع الضخم تفيد بأن إقليم بلوشستان (الباكستاني) الذي يقع فيه الميناء ليس آمناً تماماً، وهو نوع من التغول الإيراني الذي ترغب طهران في اختبار قدرة باكستان على ممانعته، لتطويره لاحقاً عبر عمليات تنفذها إيران داخل الأراضي الباكستانية. وهو تحول من الفعل الاستخباري إلى العسكري، فقد سبق أن نفذ جيش تحرير بلوشستان الانفصالي الواقع في جنوب غرب باكستان، والذي يتخذ من إيران مقراً تنطلق منه عملياته ضد باكستان، على القنصلية الصينية في كراتشي وفندق فخم في مدينة جوادار الساحلية.

ومفهوم أن باكستان كانت مدفوعة دفعاً نحو الرد، لأكثر من سبب: 

أولاً: معلوم عن باكستان أنها لا تقبل مطلقاً بعدم الرد على الاعتداءات عبر الحدود، وهي دائماً ما ترد على الاستفزازات الجارة الأقوى من إيران، وهي الهند، العدو التقليدي لباكستان، ولم يكن الرد الباكستاني مستبعداً، فباكستان قد وجدت نفسها مضطرة إلى الرد، لكنها خفضت سقفه إلى استهداف البلوش وحدهم، وإن رفعت من مستوى تقنية الضربة. 

ثانياً: باكستان غارقة أيضًا في الإحباط المتزايد بسبب تأجيل الانتخابات بشكل متكرر في وقت يقبع فيه رئيس الوزراء المقال عمران خان، صاحب الشعبية الأكبر في باكستان خلف القضبان، ووجود قضية قومية تحشد الجماهير خلف الجيش والحكومة الباكستانية، هو عين ما يساعد النظام الباكستاني على الخروج من مأزقه الداخلي ولو ظرفياً، ويمثل درباً من دروب الهروب إلى الأمام بتصدير الأزمة للخارج، وباكستان شأنها كإيران، تقترب من استحقاق انتخابي مهم، لا يسمح للحكومة، ولا الجيش، بإظهار الضعف أمام قضية حساسة كانتهاك السيادة الوطنية، لاسيما، وكلاهما يرمق، حزب الإنصاف، وزعيمه عمران خان، القابع في السجن بسبب تهم وجهت إليه بسبب موقفه الرافض لخضوع بلاده للإملاءات الأمريكية، وهو المعروف بمواقفه القوية تجاه مثل هذه التجاوزات، وهو بدا أكثر تحدياً للهند أثناء حكمه، لاسيما فيما يخص قضية كشمير، حيث نجح في إعادة البريق لهذه القضية في المحافل الدولية، وعلى المستوى الشعبي والعسكري، واستحث الجيش لاتخاذ مواقف أكثر شجاعة لتسليح ودعم الحركات المسلحة في كشمير. وتلك السياسة التي انتهجها عمران في مثل هذه المواقف، تفرض على خلفائه اتخاذ موقف قوي شجاع مكافئ، كانت الضربة العسكرية ثانية خطواته، بعد الإجراء الدبلوماسي  الذي اتخذته إسلام أباد باستدعاء السفير الباكستاني، وكلاهما كان يمثل الحد الأدنى المقبول شعبياً، وهو دون السقف المرتجى سياسياً بطبيعة الحال، والذي انخفض مع تراجع إسلام أباد السريع باتصال وزير خارجيتها بنظيره الإيراني لامتصاص آثار الرد الباكستاني، وعرض التعاون في مجال مكافحة الإرهاب عليها!

ثالثاً: لم يكن هناك مناص أمام باكستان سوى الرد على الإيرانيين، وإلا شجعت الضربة الإيرانية الهند على توجيه ضربات داخل الأراضي الباكستانية إذا ما لمست من الباكستانيين ضعفاً حيال الضربة الإيرانية. ولهذا كان الرد السريع رسالة مباشرة للهند، وكذلك للصين أن تقدر مستوى "الاستقلال السياسي" الباكستاني، وألا تمضي في مسعاها لململة الأزمة من دون نيل إسلام أباد لقصاصها العادل، إذ بدت بكين بمسارعتها لامتصاص الغضب الباكستاني قبل الانتقام، أقرب نوعاً ما للإيرانيين رغم تحالفها الوثيق مع إسلام أباد، حيث رجت باكستان ألا ترد مباشرة، على النحو الذي فعله الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون حين هرع في مايو 1998م لإقناع رئيس وزراء باكستان السابق نواز شريف بعدم الرد على تفجيرات الهند النووية، لكن الجيش والحكومة الباكستانية ارتأت حينها ألا تعلو قدم الهند عليها. 

رابعاً: هناك أطراف نافذة في الجيش والاستخبارات والحكومة الحالية لا تحمل وداً للنظام الإيراني، وتراه تهديداً حقيقياً لوحدة باكستان، لاسيما مع تواصل الملالي الإيرانيين مع "المرجعيات الشيعية" الباكستانية، وكذلك الأقليات القاديانية والإسماعيلية. وقد وجدت هذه الأطراف الفرصة سانحة لرد الصفعة للإيرانيين، وتوجيه رسائل لبعض مراكز القوة الشيعية في الجيش والاقتصاد الباكستانيين بأن تلك المراكز لن تفرض إرادتها على القرار الباكستاني الاستراتيجي. 

 

(وللحديث بقية)