الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1446
section banner

المؤثرات السياسية على واقع مسلمي الهند (2) "التقسيم والقتل والتهجير"

المؤثرات السياسية على واقع مسلمي الهند  (2) "التقسيم والقتل والتهجير"

شأنهم كشأن البرتغاليين والفرنسيين، تعمد الانجليز تهميش المسلمين، بعد القضاء على دولتهم العريقة في الهند؛ فتلك كانت هي أبرز أهدافهم، علاوة على أهدافهم "الاستعمارية" التقليدية كاستنزاف ثروات الهند، والسيطرة على أهم طرق التجارة البحرية في العالم، وقد كان لهم ما أرادوا؛ فقد أغروا بين المسلمين والهندوس العداوة الشديدة والبغضاء بعد قرون من التعايش النسبي للحد الذي كان عنده معظم جنود جيوش المغول في أحوال كثيرة من الهندوس! ومضى قرن من الزمان سالت فيه مياه كثيرة في بحر السياسة الدولية، من حربين دوليتين عظيمتين أدتا إلى تراجع نفوذ البريطانيين في العالم، واضطراها إلى التخلي عن كثير من طموحاتها "الاستعمارية"؛ فآن للبريطانيين فتح أشرعة مراكب العودة بعد تنظيم الأمور في الهند، فأخذت على عاتقها ألا تقوم للإسلام قائمة في الهند، عبر استراتيجية قادت إلى تقسيم الهند، وتسليم البلاد للهندوس بعد قرون من حكم المسلمين.

وفي تقدير كثير من الساسة والمفكرين المسلمين في الهند وخارجها، لم يكن انفصال المسلمين في باكستان (شرقية وغربية) مفيداً لبقية المسلمين في جمهورية الهند، لكن تلك كانت إرادة بريطانية، ورغبة قادة للمسلمين بعضهم اختار ذلك عن سوء طوية، وبعضهم بحسن نية. وقبل ذلك بنحو ثلاثة قرون ونصف تضافرت أسباب كثيرة؛ فأضعفت الحكم الإسلامي في الهند، وسمحت للمحتل البريطاني أن يتسلل إلى شبه القارة الهندية شيئاً فشيئاً من بوابة الاقتصاد حتى تمكن من بسط سلطته العسكرية والسياسية على سائر التراب الهندي. 

ومنذ إعلان استقلال الهند في العام 1947م، وإثر عمليات إبادة طالت في معظمها ملايين المسلمين، وعملية تقسيم عجل إليها عمليات قتل مبرمجة بين الهندوس والمسلمين، أشعلها هندوس بتأجيج بريطاني، وأحوال المسلمين في تراجع وتدهور. فقبل إعلان استقلال الهند وتقسيمها، كان أبرز زعماء الاستقلال، أمثال أبو الكلام آزاد، (رئيس حزب المؤتمر الهندي لفترتين، ووزير المعارف لمدة 10 سنوات)، ومحمد علي جوهر زعيم حزب المؤتمر أيضاً، ويحيى زكريا المومني وآخرين، فكانت زعامة الهند يتشارك فيها المسلمون ولو ظاهرياً في بعض الأحيان، وتولى رئاسة الهند ثلاثة رؤساء "مسلمون"، وهم ذاكر حسين، وفخر الدين علي أحمد، وأبو بكر عبد الكلام (رغم كون المنصب شرفياً لكن له قيمته ودلالته)، والعديد من الوزراء البارزين، وعدد كبير نسبياً من النواب المسلمين، أما الآن فالانحدار متسارع جداً في كل هذا التمثيل السياسي للمسلمين. 

وفي التاريخ الحديث نستطيع أن نلمس هذا التراجع في وضع المسلمين منذ "الاستقلال"، وقبله بالطبع منذ أن سقطت دولة المغول المسلمين في الهند، ثم الاحتلال البريطاني الذي نفذ مذابح عديدة ضد المسلمين انتقصت من قوتهم، ثم ما أحدثته من تغييرات ديموغرافية بالتقسيم والتهجير والتقتيل. 

وفي التقتيل وحده تتحدث دراسة علمية، نشرت في يناير 2023م، عن أن الاحتلال البريطاني تسبب في مقتل ما يقرب من 165 مليون شخص في الهند من عام 1880 إلى عام 1920. ووفقاً للدراسة، التي نشرها عالم الأنثروبولوجيا الاقتصادية جيسون هيكيل، في المجلة الأكاديمية World Development، فإن "هذا الرقم لا يشمل عشرات الملايين من الهنود الذين ماتوا في مجاعات من صنع الإنسان تسببت فيها الإمبراطورية البريطانية. ففي مجاعة البنغال سيئة السمعة في عام 1943، مات ما يقدر بنحو 3 ملايين هندي جوعاً، بينما صدرت الحكومة البريطانية الطعام، وحظرت واردات الحبوب

وتنص الدراسة على أنه "خلال تلك الفترة، تسببت السياسة الاستعمارية البريطانية في حدوث مجاعات متتالية أدت إلى مقتل عشرات الملايين من الناس، مع انهيار متوسط العمر المتوقع بنسبة 20٪، وهو "تدهور في صحة الإنسان ربما لم يسبق له مثيل في تاريخ شبه القارة الهندية الطويل من الحرب والغزو" (ديفيس، 2002)، ص 312). وتحجب بيانات الناتج المحلي الإجمالي هذا الفقر وتدل بدلا من ذلك على تحسن كبير في الرفاهية الاجتماعية".

ولقد عمل التقسيم على إضعاف قوة المسلمين الهائلة في شبه الجزيرة الهندية، مثلما عمل التهجير لخارج الحدود وداخل حدود الهند الحالية أيضاً على ذلك. من جهة، حمل التقسيم ترخيصاً لفكرة الهندوتفا (اليمينية الهندوسية)، ومنحها وقوداً لإشعال المذابح والمواقف، حيث لم يؤد ذلك إلا إلى تحفيز الطائفية الهندوسية على إيذاء المسلمين في الهند. ومن جهة كانت طريقة التقسيم ذاتها، وما نجمت عنه من تقطيع مدروس للجسد المسلم خصوصاً، والهندي عموماً بحيث يخلف مشاكل جمة، من أبرزها، وجود دولة باكستان الشرقية والغربية المنفصلتين عن بعضهما البعض بما يؤدي لانفصالهما الحتمي بعضهما عن بعض، وعدم وجود أي أرض موصلة بينهما مع أن ذلك كان ممكناً، وكذلك إيجاد قضية كشمير المتنازع عليها، وهي المشكلة الحدودية التي فجرت 3 حروب بين الهند وباكستان، وغذّت الشعور القومي الهندوسي. وكذلك كانت طريقة الهجرة والتهجير الخارجي (نحو 14 مليون إثر التقسيم إلى باكستان شرقية وغربية، يمثلون نحو 04% من سكان الهند الجديدة حينها تقريباً).

....

العوامل المؤثرة على واقع المسلمين كثيرة، ما تقدم ليس سوى جذورها ومجرد إشارات إليها، ونؤجل حاضرها لحلقة أخرى. ومن المهم أن يستخلص منها الدروس؛ فمنها ما يمكن تداركه، ومنها ما قد يتعذر، ولا نعدم مع ذلك فائدة في تدارك صور أخرى من أحوال المسلمين؛ فمثل هذه التجارب كثيراً ما تتكرر بحذافيرها في مناطق أخرى من عالمنا الإسلامي، وقليلاً ما ينتبه إلى تكرارها هذا؛ فيلدغ البسطاء من الجحر الاحتلالي مرات ومرات، ويقعون في فتن النفس والمال والسلطات مرات أخرى. 

(وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى)