الاثنين ، 21 ذو القعدة ، 1446
section banner

المؤثرات السياسية على واقع مسلمي الهند (5) حاضر المسلمين

المؤثرات السياسية على واقع مسلمي الهند (5) حاضر المسلمين

لم يرد على حكم الهند بعد التقسيم أي حكومة رفعت من شأن المسلمين أو وضعتهم على قدر حجمهم ونسبتهم الحقيقية، أو سمحت بوجود حقيقي لهم في الجيش والاستخبارات وأجهزة الأمن والقضاء، ولم يزل المسلمون مهمشين منذ ما يُسمى بالاستقلال في الهند، التي ظلت تحكم بنظام يشابه النظام البريطاني من حيث كون نظامها السياسي برلمانياً كبريطانيا. يقول محمد أديب، العضو السابق في مجلس الشيوخ، أن "الأحزاب السياسية الرئيسة في الهند، بما في ذلك حزب الشعب الهندي المتشدد (بهارتيا جاناتا) والمؤتمر، بالإضافة إلى الأحزاب العلمانية واليسارية، لا تقوم بترشيح مرشحين مسلمين بشكل يتناسب مع حصتهم السكانية في المناطق التي يكون لها تأثيرها (...) من المثالي أن يكون للمسلمين على الأقل 100 ممثل في البرلمان، ولكن ذلك لم يتحقق"[1] . معلوم أن المسلمين لم يحصلوا إلا على 29 مقعداً بالكاد في الانتخابات الماضية (يونيو 2024م).

المسلمون في الهند ليسوا أرقاماً، لكن من المهم أن يُقال هنا، دون مزيد من الاسترسال في إيراد تمحيص البيانات الخاصة بهم لضيق المساحة، أن تعداد المسلمين في الهند يتراوح فعلياً ما بين 250- 300 مليون وفقاً لمعطيات استندنا إليها من كبار قادة المسلمين في الهند، كالداعية الشهير د. ذاكر نايك، والسياسي البارز أسد الدين عويسي زعيم اتحاد مسلمي عموم الهند، وعارف مسعود عضو المجلس التشريعي عن حزب المؤتمر الوطني الهندي من بوبال، وتقديرات أمريكية دبلوماسية مسربة من السفارة الأمريكية بنيودلهي، وتحليل بيانات الإحصاءات الرسمية للكاتب الباكستاني شاكر لقاني، وغير ذلك، ما يرفع نسبة المسلمين في الهند من 14% إلى 20% من تعداد سكان الهند.

على أن هذه الكتلة الإسلامية الضخمة التي جعلت مسلمي الهند يمثلون اليوم أكبر تكتل إسلامي في العالم، يفوقون أكبر دولة إسلامية من حيث تعداد مسلميها في العالم، هي إندونيسيا، لم تزل ضعيفة واهنة، مجسدة للحالة الغثائية التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان رضي الله عنه، الشهير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"[2].

وهذا الوهن، للإنصاف، ليس مسؤولاً عنه هذا الجيل من المسلمين بالكلية – مثلما تقدم توضيحه من قبل – غير أن ما ورثه هذا الجيل هو ما يلي:

اتفاق الأحزاب الهندوسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على تهميش المسلمين، وإبعادهم عن مراكز التأثير، بكل تفاصيل ذلك من التهميش الكمي، والكيفي. ومنه الإفقار الاقتصادي والتجهيل، وإغلاق المؤسسات الإعلامية، ومصادرة وهدم المساجد ونحو ذلك.

طبيعة التوزيع السكاني للمسلمين، بما لا يجعلهم يتركزون في ولايات دون أخرى، حيث لا يمثلون أغلبية إلا فيما ندر من الولايات (على اختلاف في التقديرات بين من يبخسهم حقهم العددي أو ينصفهم). وهذا لا يجعلهم يمثلون قوة سياسية مرهوبة، سوى ما يتمتعون به من قدر من الحرية والاحترام في بعض الولايات الأكثر "تحضراً" في الهند، إن جاز التعبير، كولاية كيرالا بالجنوب الغربي للهند. وهذا لا علاقة لهم بنسبتهم بالضرورة، إذ إن بعض الولايات التي يمثل فيها المسلمون كتلة كبيرة يعانون أكثر من غيرهم كما في آسام والبنغال الغربية وأوتار براديش وبيهار بالشمال (القريب من كل من بنغلاديش وباكستان).

ثمة قاعدة عامة بالنسبة للأقليات المسلمة في العالم، وهي أنها كلما توافرت لها الأسباب التي تمكنها من الانفصال أو الاستقلال لوقوعها في جغرافيا واحدة، بعيدة عن المركز كلما ازداد قمع الأكثرية لها، وهذا حاصل في الولايات المتقدمة المتاخمة لدول إسلامية (بنغلاديش – باكستان). وتتحسن الأوضاع نسبياً في بعض المناطق الأخرى، لاسيما في الجنوب.

وهذا التوزيع المبعثر قد أضعف شوكة المسلمين كثيراً، وألجأهم إلى التحرك في حدود واقع الأقلية، ولم يمكنهم من بناء موقف سياسي قوي. لاسيما مع تشتت الأفكار، وتعثر المبادرات والمشاريع السياسية.

لعبت بريطانيا ومن بعدها النظم المتعاقبة بذكاء شديد في جعل إفادة المسلمين من قوتهم العددية محدوداً جداً في عالم السياسة. كيف؟ ذاك عبر نظام التصويت من خلال الولايات وليس التصويت الكلي للأحزاب، بمعنى أن على المسلمين أن يحظوا بالأغلبية العددية في الولاية حتى يكون لهم تمثيل مناسب في البرلمان، وليس من خلال البلاد كلها؛ فإذا كانت نسبة المسلمين تبلغ على سبيل المثال 20% من السكان، فهذا لا يعني أنهم يمكنهم أن يمثلوا حزباً يحصد خُمس مقاعد البرلمان. وقد وضع هذا النظام ليحرم المسلمين وغيرهم من الأقليات من حقوقهم السياسية، ما لم تمنحهم الأحزاب الكبرى حصصاً وفقاً لتوازنات التصويت لا غيرها. وهذا نظام لا يحقق العدالة بكل تأكيد، حتى داخل الحيز الهندوسي نفسه، لكنه يضمن دوران الحكم داخل هذا الحيز باختلاف أحزابه.

مثلاً: في انتخابات عام 2014م، فاز حزب بهاراتيا جاناتا بحصة 31% من الأصوات بـ 282 مقعدًا، فشكل الحكومة منفرداً لحصوله على 51% من المقاعد الكلية (545 مقعداً)، بينما فاز حزب المؤتمر بحصة 20% بـ 44 مقعدًا فقط. وفي الوقت نفسه، فاز حزب آي إيه دي إم كي بحصة 3% فقط من الأصوات بـ 37 مقعدًا. هذا يجعل تكوين المسلمين لكتلة برلمانية مكافئة لحجمهم مهمة شبه مستحيلة.

وجود طوائف منحرفة تنتسب إلى الكتلة الإسلامية كالبرلوية الصوفية، أو الشيعة الإمامية والإسماعيلية، وتعمل الفرق الشيعية تحديداً ضد المسلمين، وتتحالف مع أكثر جماعات الهندوتفا تطرفاً وإرهاباً لاسيما حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الآن. وهذا يُعد خصماً من رصيد المسلمين، وإضعافاً لشوكتهم، واستهلاكاً لجهودهم الدعوية والسياسية.

....

هذا بعض مما ورثه الأبناء المسلمون عن واقع أجدادهم الأقربين، أما ما باتوا يلاقونه اليوم؛ فهو حاضر بالغ الخطورة، تعدد سهامه وآلامه، وتتنوع أساليبه، مع فشو الشعبوية الهندوسية في العقدين الأخيرين، والتي حكمت بالفعل، وتغلغلت في كل مفاصل الدولة الهندية..

 

(وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى)



[1] سهيل أختر، مسلمو الهند يعبّرون عن مخاوف كبيرة من نتائج الانتخابات المقبلة - الجزيرة مباشر - 3/4/2024م

[2] الألباني، صحيح أبي داود (4297).