باكستان وبنغلاديش تفقدان البوصلة: "عداء" أفغانستان و"صداقة" الهند
فيما تنعم الهند بقدر من الاستقرار، وتسير بخطى واعدة نحو مركز أكثر تقدماً من وضعها الحالي، كخامس اقتصاد في العالم، بمعدل نمو محلي سنوي هو الأعلى بين تلك الدول (6.8%)، وباستراتيجية واضحة ترنو إلى تحقيق دولة الهندوس الكبرى على رقعة جغرافية واسعة، تزداد الدولتان المسلمتان اللتان انفصلتا عن الهند في واحدة من أكبر المؤامرات البريطانية على المسلمين في العالم، انحطاطاً وتخلفاً واستبداداً وانهزاماً في توازنهما مع الهند.
وفي وقت تخطو فيه نيودلهي نحو الضم التام لإقليم كشمير المحتل من قبلها، واستبعاد وطرد كثير من مسلمي آسام الهندية، وتحطيم قوة المسلمين في سائر الولايات الهندية عبر سلسلة من الإجراءات المتسارعة لوضع المسلمين في أكثر الأوضاع ازدراءً وانحطاطاً، تنشغل إسلام آباد ودكا بمحاربة شعبيهما المسلمين، والسعي حثيثاً نحو تقسيم دولتيهما اللتين تحكمهما نظم عسكرية شمولية استبدادية متخلفة. وحيث تحارب باكستان طواحينها الهوائية، تتهمها نيودلهي بدعم الإرهاب في جامو وكشمير، فتنزوي باكستان وتلتحف بالدفاع اللفظي والتراجع في الدعم المستحق لفصائل الاستقلال والنضال الكشميرية، وتسلمها الدولة الباكستانية لمصير بائس.
في باكستان، يتفجر الغضب هنا وهناك؛ فالحكومة الهشة التي تنتقص من أطرافها بسبب الحكم التاريخي الأخير للمحكمة العليا الذي سيعيد حركة إنصاف لتصدر أحزاب البرلمان، بعد أن تسبب نزق العسكر وإرغامهم للقضاء على التآمر من أجل إزاحة المشروع النهضوي والاستقلالي لعمران خان – تلك الحكومة – باتت تواجه مصاعب جمة لا قبل لها بمواجهتها؛ فالمتظاهرون قد نزلوا إلى الشوارع، تارة من حركة إنصاف في العاصمة، وتارة من حركة تحفظ آين الباكستاني وحزب عوامي البشتوني في كويتا للإفراج عن رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، الذي تتوالى أحكام البراءة له من التهم التي لُفقت له لمنعه من حكم باكستان انصياعاً لأوامر لم تعد خافية للسفارة الأمريكية في إسلام آباد، وبسبب تلويح الحكومة بمحاكمة خان بتهمة الخيانة العظمى ومن ثم طلب إعدامه! وتارة من الجماعة الإسلامية التي تدفق أنصارها للشوارع في إسلام آباد وروالبندي لكبح غلواء الحكومة الرعناء في فرض الضرائب، ووقف الزيادة الرهيبة في أسعار فواتير الكهرباء التي شلت الاقتصاد بسبب خضوع الحكومة لإرادات شركات الكهرباء الأجنبية الخاصة، ومن أجل منع انتخابات جديدة تسعى إليها قوى نافذة من أجل سلب انتصار حركة الإنصاف وبعض نجاحات الجماعة الإسلامية المحدودة أيضاً، وهي المظاهرات التي قابلتها الحكومة بالقمع والاعتقالات، وتارة من البلوش في إقليمي خيبر بختونخوا وبلوشستان بسبب التهميش والتمييز.
وبدلاً من أن تعيد إسلام آباد توجيه بوصلتها في الاتجاه الصحيح، نحو ترتيب البيت الداخلي، ومنح الإرادة الحقيقية للشعب الباكستاني في اختيار حكامه، ومنحهم صلاحيتهم الكاملة دون التدخل النزق من الجنرالات الفاسدين، ونحو الدفاع عن حقوق المسلمين في كشمير، وتحويل أنظار العالم نحو الجرائم التي يرتكبها الهندوتفا في سائر ولايات الهند؛ فإنها تشرع بحفر قبر تماسكها الداخلي بإغضاب البلوش والبشتون، وتغيير عقيدة الجيش شيئاً فشيئاً نحو أفغانستان، التي صيرتها الآلة الإعلامية الرسمية "عدواً متربصاً"، وآوياً لـ"إرهاب طالبان باكستان"، و"محرضاً للبشتون على جانبي الحدود والبلوش"! ذاك أن مسار الجنرالات الآن لا يقود إلا إلى مزيد من الانقسام والاضطراب والتردي، وإشعال النعرات القومية والصراعات السياسية، كما يؤكد على ذلك الصحفي الباكستاني عادل راجا في تغريدة له مؤخراً: "إن الحل لكل المشاكل يكمن في تلبية المطالب المشروعة للقبائل المنقسمة بين باكستان وأفغانستان، بالحديث عبر المفاوضات وليس بالرصاص، فمحاولة الفصل بين شقيقين بسياج من الأسلاك الشائكة لن تنجح أبدًا. وعندما يسود السلام، فإن الصراع سوف يموت من تلقاء نفسه. والتنمية الاقتصادية والسلام هما رغبة كل إنسان، وهو أمر غير ممكن بدون الاستقرار السياسي. فلماذا قد يحمل أي شخص السلاح إذا كانت الفرص الاقتصادية متاحة؟"، مستنكراً تحويل الجنرالات غضبهم نحو أفغانستان، قائلاً: "ليس كل مشكلة يمكن حلها عن طريق التنمر. وعلى الجنرالات أن يفهموا هذا. لا يمكن حل المشكلات السياسية إلا عن طريق السياسيين، ولكن أولئك السياسيين الذين لديهم تفويض وطني، وهو ما لا يتمتع به حاليًا غير عمران خان. نشأت معظم مشاكل باكستان، بما في ذلك الخلاف مع أفغانستان، بعد عملية تغيير النظام عندما أطاح جنرالات الجيش بحكومة عمران خان بناءً على إشارات خارجية وجشع شخصي، وتم جلب الأصول الهندية إلى الحكومة، وأصبحت أفغانستان العدو البديل للهند حتى لا تتوقف ميزانية الدفاع".
ما يومئ إليه راجا صحيح تماماً، فعقيدة الجيش الباكستاني تتحول شيئاً فشيئاً باتجاه جعل أفغانستان عدواً استراتيجياً بدلاً أن يكون حليفاً لمدة نصف قرن أو يزيد، ولربما ثمة أطراف عاقلة في الجيش الباكستاني تمانع مثل هذا التحول، مثلما قاومته إبان حكم الخائن برفيز مشرف حين وضع "الإرهاب" بديلاً للهند، العدو التقليدي المتربص بباكستان، ثم صحيح أن ثمة خونة أو حمقى يحاولون تسيير الأمور في البلاد نحو فوضى وتمييز يفضيان إلى التقسيم والانقسام معاً.
وما يحصل في باكستان، تقوم بمثله الدكتاتورة حسينة واجد، واجهة العسكر المتحالفين مع الولايات المتحدة، حيث الميليشيات الهندوسية حليفة لنظام بنغلاديش، تمارس البلطجة على الثائرين من الشباب، جنباً إلى جنب مع القوات العسكرية والأمنية، وبلطجية حزب عوامي الذي ترأسه واجد؛ فعسكر بنغلاديش الذين يساندهم الغرب والهند يمارسون عملية إضعاف هذا البلد المسلم الفقير أكثر وأكثر، تكريساً لتفوق الهندوس في شبه القارة الهندية، ومسانداً لسيادتهم، ومدجناً لهذا الشعب المسلم المهيض. إذ لا يفوت أي مشاهد هذا التخادم الغربي الهندي في طمس الجرائم التي يمارسها النظام ضد شعبه لأنها تصب في النهاية في صالح الاستراتيجية "الاستعمارية" بتنوعاتها الإقليمية والدولية.
إن ما يحصل في الدولتين المسلمتين الشقيقتين، لهي جرائم مركبة ومتنوعة تهدف في النهاية إلى مزيد من التقسم والانقسام، يقوم بها نظامان عسكريان يعملان لصالح الغرب يقيناً، ولصالح الهند بقصد أو بدون، مستلهمان تجارب مريرة لملوك طوائف الأندلس أو حكام الشام إبان الحملات الصليبية المتعاقبة، حين كان حكام المدن المسلمة يتناحرون فيما بينهم، مظاهرين على بعضهم البعض بحكام قشتالة وأرغون في الأندلس، أو حكام الإمارات الصليبية في الشام. حكام إسلام أباد ودكا يفعلون ما هو أفدح من ذلك حقيقة، حين يوجهون البوصلة بعيداً عن العدو الحقيقي، محاولين قمع انتفاضة الشباب في بنغلاديش الساعية نحو الحرية والاستقلال الحقيقي وتحقيق الإرادة الشعبية، وساعين نحو تأطير "الإمارة الإسلامية" في أفغانستان في حيز الأعداء، ربما لتحقيق غاية خبيثة غربية في استنزافها في صراع مع الجيران المسلمين، ومن ثم وأد تجربتها الفتية.