حظر العباءة في فرنسا.. خطوة على صعيد زلق (1/2)
يقف جنود على أبواب المدارس الثانوية، يمنعون التصوير، يحدقون في ملابس الفتيات بحدة.. لقد أنيط بهم مهمة فريدة: تنفيذ القرار الوزاري بمنع دخول مرتدية العباءة لاعتبارها تحمل دعاية دينية.
وكأنها دعاية عسكرية تسبق الحرب: "الجمهورية تحت الاختبار" هكذا يجيش وزير التربية الوطنية الرأي العام حول ارتداء "العباءات" في المدارس. أعلن الوزير غابرييل أتال قراره الحاسم "لن يسمح للفتيات أن يذهبن إلى مدراسهن مرتديات العباءة"، مقراً على قناة RTL، بأن "513 مؤسسة ستتأثر بشكل خاص بحظر العباءة". ليس أتال وحده من يتولى كبر هذه الجريمة ضد الإسلام والإنسانية بصفة عامة، ففرنسا الرسمية كلها اصطفت خلف القرار، وقال الرئيس إيمانويل ماكرون إنه "عنيد" بشأن هذا الإجراء ووعد بأن الحكومة "لن تسمح بأي شيء يمر" . "هناك مبدأ، إنه العلمانية. وهناك قانون يحظر ارتداء أي علامة أو زي يظهر من خلاله انتماء الطالب إلى دين ما. إنه القانون الذي يجب أن يطبق على الجميع وسنحرص على تطبيقه بشكل جيد. أيضاً أصرت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن على ذلك، حتى وزير الاقتصاد برونو لومير الذي لا علاقة لوزارته بالتعليم، عند سؤاله حول الموضوع، رحب بهذا القرار، معتبرا أن ارتداء العباءة هو "اختبار جديد للإسلام السياسي في مواجهة الجمهورية" والذي "لا مكان له في مدرسة الجمهورية".
وحين انطلق 12 مليون طالب وطالبة إلى المدارس والجامعات، وجدوا أنهم مقبلون على لجان تفتيش للنظر فيما يرتدونه، يقول أحدهم: "أشعر أنني ذاهب إلى المطار وليس إلى المدرسة"، وتستهجن طالبة أخرى (غير مسلمة) فيما نقله عنها موقع منظمة "الثورة الدائمة"، الذي شارك بقوة في الاحتجاجات الفرنسية قبل شهور: "الحظر الذي فرضوه على القمصان القصيرة، أجده أيضًا أمرًا سخيفًا. ليس مسموحًا لنا أن نرتدي ملابس فضفاضة، ولا يُسمح لنا أن نرتدي ملابس قصيرة، فكيف يفترض بنا أن نرتدي؟"، تشير الطالبة إلى الزي الموحد الذي قررته السلطات لتجنب الإسلام والتحرش معاً!
الفرنجة (الفرنسيون) يواصلون خوض حملتهم الصليبية الجديدة، و"إذا كانت دولة كفرنسا مثلاً تريد سن قوانين تتعارض مع الحجاب؛ فهذا حقهم، هذا حقهم، هذا حقهم"، احتاج وزير الداخلية الفرنسي الأسبق حينها (ورئيسها الأسبق بعد ذلك) نيكولاي ساركوزي إلى أن يحزم حقيبته مسافراً إلى الأزهر في العام 2003، كي ينتزع هذه العبارة البائسة من "شيخ الأزهر" السابق د.محمد سيد طنطاوي، تعليقاً على قرار فرنسي بمنع الحجاب في الأماكن العامة، فتح الطريق من بعدها لسلسة لم تنته في فرنسا ومعظم الدول الأوروبية لتقصد الشعائر الدينية الإسلامية وحدها لاسيما حجاب المرأة المسلمة، وفي العام التالي أقر قانون منع الرموز الدينية البغيض، والذي منع النقاب ثم الحجاب ثم الآن يحظر العباءة (2023م)، تلك العباءة التي دافع عنها مسؤولو "المسجد الكبير" في باريس بخجل بأنها ليست لباساً ولا رمزاً إسلامياً. يقول عبدالله ذكري نائب رئيس المجلس الفرنسي للعبادة الإسلامية: "بالنسبة لي، العباءة ليست لباساً دينياً، إنها شكل من أشكال الموضة ". وفي يونيو، اعتبرت هذه الهيئة أن العباءة ليست علامة دينية إسلامية. فبالنسبة لهم؛ فإن العباءة في الخليج – على سبيل المثال – تأخذ طابع التقاليد، وفي كل بلد له تفسيره لها. على أية حال، لقد هان مسؤولو المسجد السابقين على أنفسهم فهانوا على غيرهم، ولم يعد أحد يبالي بما يصرحون.
مضى الفرنسيون في حملتهم بقوة، لكنهم ما زالوا عاجزين عن تحقيق انتصار حقيقي فيها، فالتحدي القائم أكبر مما يتصوره واضعو السياسة الفرنسية المعادية للإسلام. يجادل ماكرون ومسؤولون فرنسيون آخرون بأن القرار سينفذ، وأن الأصوات الرافضة ستخفت تدريجياً مع صرامة تنفيذ القرار، لكن صراعاً كهذا لا يخاض بالشرطة وحدها؛ فثمة ما يمور في براكين تبدو لأول وهلة خامدة. تلك قضية أثارت عديداً من عناصر التفكير والتفكر، يلزمنا طرقها:
* متى هي اللحظة المفصلية التي سيتعين فيها على علماء المسلمين جميعاً التنادي إلى إصدار الفتاوى الجماعية بتحريم البقاء في فرنسا أو غير فرنسا مع هذا الذل والرضا بهتك أستار المسلمات هناك على هذا النحو؟
*عطفاً على ما سبقها؛ فإن الأصوات الصاعدة الآن التي تدعو إلى هجرة جماعية عكسية من فرنسا ربما سيكون لها صدى في المستقبل القريب والمتوسط. فالنقاش يدور الآن في أوساط إسلامية متدينة في فرنسا وغيرها حول ضرورة هذه المغادرة، وقد يمتد يوماً ما أثرها إلى خارج الحيز المتدين المحدود وسط جالية مسلمة تقدر بنحو 8 ملايين مسلم، معظمهم من غير المتدينين، ومعظمهم اندمج في حياة فرنسية علمانية إلى حد ما، لكنه مع ذلك لم يزل يعاني من التهميش والقهر اللذين حديا به إلى الانخراط في موجات الاحتجاجات الممتدة من الضواحي الفقيرة للعاصمة والمدن الكبرى إلى قلبها،
وعليه؛ فسينظر إلى قرار كهذا على أنه نوع من الاضطهاد للمهمشين عموماً بغض النظر عن مدى تدينهم، وسيزيد من حنق يمور في الضواحي يوماً بعد يوم.
* هناك مأزق حقيقي تعيشه فرنسا مع هذا القرار، وإن لم يبدُ ظاهراً بدرجة كبيرة؛ فرغم أن القرار قد حظي بتأييد شعبي كاسح، يبلغ في بعض الاستطلاعات إلى 81% من الشعب الفرنسي، ويبلغ معه الرفض للقرار في أوساط "البالغين" من
غير الطلاب لنحو 26% فقط مثلما يؤكد على ذلك استطلاع لـ موقع Ifop الفرنسي قبل عامين، إلا أن أوساط الطلاب لها رأي آخر يكشفه الاستطلاع ذاته:
فلقد كشفت الدراسة التي أجراها موقع Ifop في مارس 2021 أن 52% من طلاب المدارس الثانوية يؤيدون ارتداء الرموز الدينية في المدارس الثانوية وأن 43% منهم يعتبرون قوانين العلمانية تمييزية تجاه دين واحد على الأقل. فيما أن نسبة من يؤيد ارتداء الرموز الدينية هو نصف هذا العدد تقريباً (25-26%) ممن تجاوزوا مرحلة المدارس والجامعات.
كذلك فإن 37% من الطلاب يؤكدون أن تلك الإجراءات تمييزية ضد المسلمين تحديداً دون غيرهم، مثلما يتضح في هذا الرسم البياني:
ولعل استطلاعات جديدة ستكشف أن نسبة الـ52% ستزيد أكثر بين الطلاب الذين شعروا بأنهم مقيدون حتى لو لم يكونوا مسلمين، وحتى لو لم يكونوا يرتدون العباءات والملابس الفضفاضة.
هذا يعني أن أعداداً متزايدة من الطلاب بعكس جمهرة الفرنسيين، غدت تنظر إلى هذا القرار كمظلمة اجترحت ضد المسلمين بسبب عقيدتهم، وعدواناً سافراً على حرية الفتيات في ارتداء ما ترتاح إليه أنفسهن سواء أكان لأسباب دينية أو غير ذلك مما يتعلق بالأناقة والراحة وغيرها، ويرونه تدخلاً في خصوصيات الطالبات بغض النظر عن ديانتهن، هذا فيما يرى غير الطلاب ممن هم أكبر سناً أن القرار يحفظ علمانية فرنسا، أو كما يقول أحدهم في تعليقه على تفنيد آصف عارف، وهو محامٍ مسلم دان ازدواجية القوانين الحاكمة لتلك المسألة على موقع إكس (تويتر سابقاً)، يقول أحدهم، وهو يمثل اتجاهاً سائداً: "الإسلام هو اليوم الدين الوحيد المرئي في الفضاء العام، علاوة على ذلك، في بلد ذو ثقافة مسيحية. ومن الواضح أن هذه مشكلة لم يكن من الممكن توقعها في عام 1905، في الوقت الذي كان فيه هذا الدين شبه معدوم في فرنسا".
(الإسلام أكثر العقائد مناهضة للإلحاد في فرنسا مثلما تكشف عنه دراسة موقع Ifop السابقة)
الدين لم يعد شبه معدوم في فرنسا الآن في وجود نحو ثمانية مليون مسلم، فيما تضرب موجة إلحاد عاتية، على تهافتها، عقيدته الثالوثية المتناقضة، لا يقف ممانعاً لها، ومقاوماً لكل محاربيه إلا الإسلام وحده. (وللحديث بقية إن شاء الله)