حظر العباءة في فرنسا.. خطوة على صعيد زلق (2/2)
الإدارة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر: "إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري بملكاته المقاومة، فعلينا أولاً أن ننتصر على النساء؛ فيجب علينا أن نبحث عنهم خلف الحجاب الذي يختبئون فيه". [فرانز فانون/"دراسات في كولونيالية محتضرة – السنة الخامسة من الثورة الجزائرية"]
تشهد لوسي، وهي طالبة في مدرسة ثانوية في تولوز، على تشديد مؤسستها بشأن تقييم الملابس التي تعتبر "من المحتمل" إظهار الانتماء الديني: "المدير يوقف الفتيات، حتى صديقتي التي كانت ترتدي طوقاً فوق شعرها المكشوف أوقفها المدير. إنها ليست محجبة قط، وقد أجبرها على خلعه، وقال لها إنها متدينة، رغم أنها لا علاقة لها بالدين، […] إنه مجرد إكسسوار". (وفقاً لشهادات أوردها موقع "الثورة الدائمة" اليساري الفرنسي). إن هذه المضايقات ستخلف ضيقاً وإزعاجاً لغير المسلمات، وسيشعرن أنهن مقيدات في بلاد تفتخر بـ"الحرية".
إن الحظر ينكأ جروحاً فكرية في جدار العلمانية نفسها، الأيديولوجية التي تستند عليها "شرعية الحكم" في فرنسا، ودول أوروبا، نفسها، وأخطر ما تثيره هذه المشكلة التي لم تعد تتعلق لا بنقاب ولا بحجاب (أو غطاء الرأس فقط على الأقل)، هو أن تعريف "العباءة" نفسه أصبح مضطرباً، ولم يعد يمكن تأطيره مثلما هو الحال مع "الطوق" أعلاه، ولقد أبقى القرار الجميع في حيرة، الطلاب، المدرسون، المديرون، تقول طالبة أخرى: "الحظر الذي فرضوه على القمصان القصيرة، أجده أيضًا أمرًا سخيفًا. ليس مسموحًا لنا أن نرتدي ملابس فضفاضة، ولا يُسمح لنا أن نرتدي ملابس قصيرة، فكيف يفترض بنا أن نرتدي؟". تشير تلك الفتاة إلى قرار بضرورة ارتداء زي مدرسي موحد، كان الدافع إليه، الحد من التحرش بأنواعه الذي تفشى في المدارس الفرنسية أيضاً، حيث يتعرض له 48% من الأطفال في المدارس، وفقاً لاستطلاع فرنسي نشر مؤخراً، وقد حاولت السلطات التقليل من تلك المضايقات عبر الزي الموحد. لقد أصبح من الضروري على الطالبة ألا تلبس قصيراً لتتجنب التحرش، أو طويلاً لتتجنب الإبعاد عن المدرسة أصلاً!
(أفاد ما يقرب من نصف أولياء الأمور (48 %) في دراسة لموقع Ifop المتخصص أن واحدًا على الأقل من أطفالهم وقع ضحية أحد أشكال الاعتداء الجسدي أو اللفظي أو الجنسي خلال العام الدراسي 2022-2023. ويصل هذا المعدل إلى 68٪ في بعض مراحل وأماكن التعليم)
بيد أن الحيرة التي تقع فيها الطالبات، وشعورهن بانتقاص حقوقهن في مجرد اختيار ما يرتدينه، على ضرره في استهداف "الحرية الاجتماعية" التي يفخر بها الشعب الفرنسي، ليست أخطر ما في المسألة؛ فلقد جر القرار سجالاً قضائياً، وجدالاً فكرياً لعله الأخطر على فرنسا من حيث اهتزاز ليبراليتها شيئاً فشيئاً. إن تداخل المسلمين في المجتمع الفرنسي قد جعل من الصعوبة اقتلاعهم منه دون أن يأخذوا في طريقهم ديمقراطية وليبرالية وعلمانية فرنسا نفسها.
بصورة أدق: لن يكون بوسع النظم الفرنسية المتعاقبة انتقاص حقوق المسلمين في فرنسا دون أن تعمل معاول الهدم في صنم العلمانية نفسه، وهذا هو أكثر ما قد صار يزعج مفكرو فرنسا ومنظروها. لقد تابعنا جدلاً محتدماً في فرنسا خلال الأسبوع الماضي يدور حول تعريف العباءة، هاكم بعض أخطر ما قد خلص إليه في محافل التفكير والإعلام. يقول د. سنيغير، المحاضر في جامعة العلوم بو ليون والمتخصص في "الإسلاموية" لوكالة فرانس برس أنه "في السياق العربي أو في دول الخليج، فإن العباءة ليست في الأساس أو في البداية لباسا دينيا". ويختتم قائلاً: "إن أفضل طريقة لمعرفة ما إذا كان دينياً أم لا هو معرفة المعنى الذي يعطيه هذا الثوب لمن يرتديه". وقد اضطر مديرو المدارس إلى التحكيم بشأن الملابس التي يتم ارتداؤها على أساس كل حالة على حدة لتطبيق قانون عام 2004 بشأن ارتداء الرموز الدينية في المدرسة. ولذلك كان الأمر متروكًا لهم لتقييم ما إذا كان الثوب قد تم ارتداؤه لسبب ديني أم لا. وفي هذه الأيام، تقول بعض الطالبات على تيك توك: "لقد تم طردنا من الفصل بالفعل لأننا كنا نرتدي فساتين طويلة"، وهي - حسب رأيهن - ليست عباءة"، وفقاً لصحيفة لي فيجارو الفرنسي 1سبتمبر الحالي. سألت إحداهن: ما هي العباءة؟ فلم يتفق أحد على التعريف. أخيرًا، قيل لي "ستعرفين على أي حال"، مما يعني أنه "إذا كان الفستان يرتديه عربي، فهو عباءة". بحسب المصدر ذاته.
بسبب كون القرار "ينتهك حقوق الطفل، لأنه يستهدف بشكل أساسي الأطفال المسلمين المفترضين، مما يخلق خطر التنميط العرقي في المدرسة"، طلبت جمعية "عمل حقوق المسلمين" (ADM) من مجلس الدولة رفع الحظر على العباءة في المدارس بشكل عاجل.
صرنا أمام انقسام قانوني، مدفوع بجعل قانون 1905م أمام قانون 2004م، يقول الأول في مادته رقم 27، كما يقول المحامي آصف عارف في صفحته على موقع اكس 4 سبتمبر: "إن إظهار العضوية في طائفة دينية ليس محظورًا في الأماكن العامة طالما لا يوجد تبشير عدواني". ولا أحد يمكنه إثبات طابع العدوانية على فتاة ربما تريد إخفاء بدانتها بثوب فضفاض، مثلما تجادل بعض الفرنسيات من غير المسلمات أيضاً. فيما يحظر قانون 2004م الحجاب، ثم يعززه قرار 2023م بمنع الملابس الطويلة الفضفاضة!
صرنا أمام تناقض بين ما وقعت عليه فرنسا من العهدة الدولية لحقوق الإنسان، وبين ما تمارسه. وتناقض ما بين العلمانية كمظلة حيادية، وبين اليمينية الدينية التي تمارس ضد المسلمات الآن. صرنا أمام تقييد سافر لملابس متوافرة في كبريات المتاجر الفرنسية، مثلما يوصي صاحب حساب "unjourunhadit" الذي يديره أحد الطلاب الشباب بشراء
الفساتين الفضفاضة بأكمام طويلة، والتي سيتم بيعها في سلاسل المتاجر مثل H&M أو Zara أو C&A. وينصح "تعالي مع الإيصال إلى الفصل لتظهري للمدرسين أن هذا فستان وليس عباءة". [نقلاً عن ماتيلد غوانيك/"ارتداء العباءة: (ضربة ذقن) أتال في وجه الحقائق على الأرض" – موقع "الثورة الدائمة" 5 سبتمبر الحالي]. هذا التقييد دفع مسلمات ومسلمين إلى البحث عن حلول للتحايل، "فالشابة صاحبة حساب "muslimabook"، على سبيل المثال، توصي بالتنانير الطويلة ذات الثنيات، والتي تعتبرها عصرية للغاية. وتقول: "بالإضافة إلى كونها جميلة، فإنها تخفي تفاصيل جسدك". ويوصي مستخدم آخر للإنترنت، في التعليقات، بـ"التنانير الطويلة مع الجزء العلوي الفضفاض". وتنصح "أخيرة" بارتداء " بنطلون واسع مع جلباب واسع جداً من قطعتين " أو "سترة واسعة جداً". وتقول: "لدينا دائمًا حل". [طبقاً للموقع السابق].
المقصد أن تلك الحلول تعكس ثغرات في القرار نفسه، لا يمكن ملؤها إلا بمزيد من القرارات والتشدد، ما يطال غير المسلمات، ويضع قيوداً على كل مفردات الحرية، من حرية المعتقد، والتعبير، وغيرها مما يعده الليبراليون مكاسب شعبية عامة، فكيف لعملية جراحية دقيقة أن تنجح في استئصال الإسلام وحده من فرنسا دون أن يصيب مشرطها علمانية فرنسا وليبراليتها؟! ثم، هب أن تلك العملية نجحت، ألن تنجح بمزيد من الاضطهاد والقهر للمسلمين في فرنسا؟ بلى. سيحصل هذا، لكن أمام المسلمين خيارات لم يعدموها بعد. رئيس رابطة علماء المغرب الدكتور الحسن الكتاني يجيب على سؤال مسلمي فرنسا حول حقيقة تشجيع طالبات المدارس الثانوية على التوجه بشكل مكثف مع بداية العام الدراسي إلى الفصول الدراسية في العباءة لجعل النهي غير قابل للتطبيق؛ فيدعو مسلمي فرنسا إلى "الوقوف صفاً واحداً أمام التغول الفرنسي، وإلى مقاومة هذا العدوان لاسيما من جانب المسلمين الفرنسيين الأصليين أو المجنسين، أسوة بما فعله اللوبي الصهيوني من فرض إرادته على دول بأكملها، ناصحاً المسلمين بالتكاتف وبناء موقف موحد حيال هذا العدوان، والإصرار على أخذ حقوقهم، ولا يخذلوا بعضهم بعضاً".
وفي تصريح آخر انتقد الشيخ الكتاني موقف مسلمي فرنسا الذين قبلوا برأيه "الإذلال والعار لقرارات ماكرون العلماني"، مشدداً على أن هذا "الكفر والذل والعار يجعل من الصعب عليك البقاء في هذا البلد الظالم". والرأي نفسه يذهب إليه الشيخ عادل الشرقاوي خطيب مسجد الصحابة بمونتريال ومنسق التجمع الكندي ضد الإسلاموفبيا، فيهيب بالمسلمين ألا يستسلموا لـ"الحملة الصليبية الجديدة ضد العباءة وأي ملابس محتشمة؛ فعندما يتعلق الأمر بالإسلام، لا تقدم أي تنازلات. المجابهة أو الانسحاب! قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون} [القلم :9].
من قبلهما، كان الناشط الداعي إلى الهجرة صراحة من فرنسا، والتي قام بها بنفسه بالفعل، إدريس سي حميدي، قد زاد من وتيرة دعوته، التي باتت تجد لها أنصاراً في ظل هذا الصلف الفرنسي الرسمي، وشبه الإجماع الشعبي على محاربة الإسلام. وقد شبه حميدي ممارسات فرنسا الآن بممارسات أمريكا قبل ستين عاماً، فقال في تغريدة لها أرفق بها تلكما الصورتين:
"قبل 60 عامًا، جرمت الولايات المتحدة السود في الحافلات والأماكن العامة والمدارس على حقيقتهم: سود. وبعد مرور 60 عامًا، تجرم فرنسا المسلمين على هويتهم وتحرمهم من الالتحاق بالمدارس. فرنسا 2023 الولايات المتحدة 1960".
في الواقع، لم يكن الدعاة بفرنسا وما حولها بهذه الصراحة في الدعوة لذلك، وخاصة في ظل قمع واضح للدعوة الإسلامية في البلاد الإسلامية وعدم توفر البديل بسهولة، ولم يكن المتدينون بهذا القدر من الاستجابة، التي باتت هجرتهم ملحوظة من فرنسا والسويد وغيرها، إلى بلاد أكثر أماناً في تحقيق قدر أكبر من حرية العبادة ضد ممانعة رسمية، مثل تركيا وبريطانيا وغيرهما. هذا يعني أن مجرد التفكير في حصول هجرة معاكسة من فرنسا لم يعد مجرد خيال أو تصور نظري. بأقل تقدير، يستنتج أن فرنسا لم تعد تلك الأرض الموعودة بالنسبة للمسلمين في شمال إفريقيا أو وسطها، وأن زيادة في معدلات الاضطهاد قد تفضي إلى تشققات في بنية المجتمع الفرنسي:
أحدها بين اليمين واليسار الفرنسي، والذي تزداد الشُّقة بينهما يوماً بعد يوم، حيث يصطف مع اليسار طبقات من المهمشين بمن فيهم مسلمون، وتحاول بعض القوى اليسارية دغدغة مشاعر المسلمين لكسبهم في صفهم، وقد بدا ذلك واضحاً في قضية العباءة التي رفضتها أوساط يسارية، وعدتها من طرائق الاضطهاد الديني، واستهداف الأقليات.
وثانيها بين الفرنسيين كنصارى ومسلمين، حيث يصطف هؤلاء الأولين مع دعاة NON à l’islamisation de la France أو: لا لأسلمة فرنسا، وهؤلاء – كما لاحظنا بشكل واضح على مواقع التواصل الاجتماعي – يدعون كل محتج على القرار إلى حزم حقائبه إلى أفغانستان أو السعودية، فيما قد ظهر اتجاه فكري في الجانب الآخر (المسلم)، يقول: ولِمَ لا؟!.
وثالثها بين الشعب الفرنسي، بطبقاته الاقتصادية، حيث تزداد الأزمة الاقتصادية مع تراجع سرقات البلاد من الدول الإفريقية، للحد الذي قرأنا فيه بوضوح أقلاماً ورموزاً سياسية، من البرلمان نفسه تقرأ القرار الحكومي على أنه نوع من التشويش على الأزمات الحقيقية، فبالنسبة لكليمنتين أوتان النائبة بالبرلمان الفرنسي، فإن وزير التربية الوطنية "قرر عمدا خلق ستار من الدخان" من خلال حظر العباءة. وفي مقابلة "هذا الصباح" مع قناة فرانس إنتر، لا يزال النائبة المتمردة تحكم على هذا السؤال حول العباءة بالقول: بأنه "يخفي بعض المواضيع" مثل أسعار اللوازم المدرسية التي ارتفعت بنسبة 11٪ أو صعوبات وجود "مدرس أمام كل طالب". إنها محاولة للهروب إلى الأمام في ظل غياب رؤية لحل
مشكلات اقتصادية واجتماعية، وتجييش شعبي حول قضية تُحدث إجماعاً عليها، نظراً للكراهية التقليدية التي يُكنها "الفرنجة" تقليدياً للإسلام، والعشى الذي يصيب عيونهم عن كل آبدة سوى بغضهم لهذا الدين وأهله، مثلما تكشف عن ذلك إحصاءات كاسحة لمضامين الكراهية بما لا يوجد نظائرها عند المنافسة السياسية بين الأحزاب والقوى السياسية المتنافسة.
بوسعنا أن نستنتج أن ما يحصل في فرنسا من عدوان على أبسط حقوق المرأة المسلمة هو برهان على ضعف المسلمين، واجتراء أعدائهم عليهم بمستويات تفوق سابقاتها منذ بدأت الحرب على الحجاب الإسلامي وتوابعه. ونستنتج أن العمل على بناء موقف موحد لهذه القضية أيضاً هو أمر حتمي، بل ومناقشة الوجود الإسلامي بين ظهراني محاربي الإسلام مسألة تحتاج لاستفاضة بيان بين جماهير المسلمين. ونستنتج في مقابل ذلك أن فرنسا مأزومة، وهي ترى أن المسلمين يحققون زيادة مضطردة في البلاد، ويزدادون يوماً بعد يوم، وهم الأكثر تديناً بين الكتل الدينية أو الأخرى، وهي وإن بدت منتصرة في حربها تلك إلا أنها في الحقيقة تطلق الرصاص على قدميها؛ لأنها تنتحر "علمانياً"، "ليبرالياً": أيديولوجياً وأخلاقياً، وتخطو خطوات إلى الأمام في حربها لكن من دون أن تجس موضع قدمها الزالق.