طالبان السودان
ينتشر وسم تلو آخر: "السودان يستغيث، "احموا النساء من الاغتصاب"، "أنقذوا السودان". قليلٌ ما يرشح من الأنباء عما حصل في مدينة "ود مدني" ثاني أكبر مدن السودان بعد أن سُلمت إلى ميليشيات الدعم السريع التابعة لمحمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ فارتكبت فيها جرائم، قالت مصادر إعلامية سودانية إنها شملت عمليات قتل وتهجير واغتصاب وإذلال ونهب.
الإعلام في السودان هزيل إلى حد ما، ولهذا يصعب التحقق من كل ما يقال من طرفي الصراع، غير أن ما حصل في "ود مدني" عاصمة ولاية الجزيرة، والذي يمهد الطريق للوصول إلى ولايات سنار في عمق الوسط والقضارف وكسلا وبورتسودان في الشرق، يشي بأن الأوضاع قد صارت مزرية إلى حد انتشار الفوضى في ربوع كثيرة من معبر الإسلام الأبرز إلى إفريقيا.
صمود طويل، أعقبه سقوط مشبوه لثاني أهم مدينة في السودان، بعد انسحاب مفاجئ للفرقة الأولى في الجيش السوداني، استدعى فتح تحقيق من قيادة الجيش لمعرفة أسباب الانسحاب وسط أنباء متواترة عن حصول خيانة من قيادة الفرقة لقيادة الجيش، وتسليمها المدينة بسهولة لقوات الدعم السريع. كل هذا في واقع الأمر لا يحتاج إلى تفكير طويل لفهمه، إذ إن ما يجري اليوم في السودان متكرر، وينفذ بالسيناريو ذاته الذي تم تطبيقه من قبل في بلدان مسلمة تهشمت بناها بأيدي خونة.
وبوسع قيادة الجيش السوداني اليوم أن تضم ملف تحقيقها هذا إلى ملفات أخرى، اهترأت على أرفف حطام ما تبقى من جيوش عراقية ويمنية، شهدت انهياراً دراماتيكياً، تجلى في تسليم فرقها واحدة تلو الأخرى دون قتال، مسلمة بغداد وصنعاء للغزاة، بأيدي خونة أيضاً.
قبل 141 عاماً، كان الجيش المصري يواجه هزيمة قاسية في "التل الكبير" مؤذنة ببدء الاحتلال البريطاني لمصر، ومن ثم تحول حركة التاريخ.. كان هذا أيضاً نتاج خيانة تشارك فيها مسؤولون كبار سياسيون وعسكريون وبعض الوجهاء الذين باعوا "ضمائرهم" بالذهب.. بالذهب أيضاً تم شراء ذمم كبار عسكريين في السودان الآن، ما أدى إلى تآكل الولايات التي يسيطر عليها الجيش السوداني من 13 ولاية إلى 5 فقط حتى كتابة هذه السطور.
تدفق الذهب، فانهزم عرابي، وأطيح بصدام وصالح والبشير. الخيانة كانت متوقعة، ولهذا كانت الإشارة في "تقدير" سابق في اليوم الثالث لاندلاع الحرب إلى "وجود داعمين أسخياء لحميدتي، وامتلاكه هو نفسه المال باعتباره أغنى رجل في السودان بسبب استيلائه على معظم مناجم الذهب السودانية، وقدرته على توفير التمويل لتسليح متجدد وربما متطور، وقدرته كذلك على شراء ولاءات بعض القادة"، وكان متوقعاً أن يحقق قدراً من الانتصار أكبر من حجمه الطبيعي، الذي كان ضعيفاً بسبب عدم توفره على سلاح جوي أو سلاح مدرعات، لكن المعادلات العسكرين الآن لم تعد تعتمد على موازين التسلح وحدها. ولذلك كان القلق حينها، ولم يزل من "تصفية "الإسلاميين" من الجيش المهزوم، وحصول اعتقالات للدعاة ومناصري النظام السابق"، حال نجح حميدتي في كسر الجيش السوداني بـ"سيف المعز وذهبه".
لم ينكسر الجيش السوداني بعد، لكن يبدو أن السودان مقدم على واحد من تلك السيناريوهات:
تقاسم السلطة سياسياً لكن على أرضية جديدة يكون فيها حميدتي في المقدمة، واليساريون في الصدارة.
انهيار الجيش السوداني.
فوضى في وجود ميليشيات متفرقة تواصل ارتكاب الجرائم في جغرافيا واسعة.
وثمة سيناريو رابع، يبدو أن حظوظه تتضاءل يوماً بعد يوم، وهو انتصار الجيش السوداني وحسمه المعركة لصالحه.
وحيث إن الأنباء قد توالت عن انسحاب الفرقة 16 مشاة في مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور، بعد صمود أمام الدعم السريع لستة شهور، ثم الفرقة 21 مشاة زالنجي وسط دارفور بعد مدة مقاربة، ثم 15 مشاة الجنينة، والفرقة 20 بمدينة الضعين بدارفور؛ فإن احتمالات تساقط الفرق بمتوالية متصاعدة واردة بل ربما راجحة، على النحو الذي حصل في سقوط صنعاء وقبله بغداد.
وإذا حصل ذلك؛ فإن مصير "الاسلاميين" في السودان، الذين وضعوا أنفسهم، أو وُضعوا في صف الجيش السوداني لا يبدو جيداً، خصوصاً أن "الإسلاميين" عادة هم من يدفعون فواتير التحولات والتغييرات، ليس بالضرورة نتيجة لـ"رهانات خاسرة"، وإنما لأن التغييرات عادة لا تأتي بالأصلح، بل الأكثر التصاقاً بالخارج والتبعية له.
والذي يدعو إلى ترجيح كفة حميدتي، هو استناده إلى عصبية قبلية (حميدتي عربي جهني)، تقف خلفه بعض قبائل دارفور، وهي التي تشعر بقدر كبير من التهميش في السودان، وهو صحيح، أججه أكثر عدة أخطاء جسيمة وقعت فيها السلطة ومن كان فيها، فما مارسته الجنجويد ترك جرحاً غائراً، وكذلك إرادة الترابي في الإفادة من تهميش أهل دارفور وكردفان من أجل وضع منافسه البشير في الزاوية، وإلى فريقه ينسب إصدار "الكتاب الأسود" في العامين 2000-2002 على جزئين، الذي تحدث عن مظالم الأقاليم، وأثار نعرات قبلية وإثنية في الأقاليم غير المركزية، ثم تمددت تلك النعرات والإحساس بوحدة المصير وسط القبائل العربية (الرحل)، والإفريقية (التي تمارس الزراعة)، الممتدة من دارفور إلى تشاد ومالي والنيجر، والمدفوعة بالشعور بالمظلومية من حكم "الشمال" السوداني، والرغبة في الثراء من فقراء دارفور ودول مجاورة. بينما لا يستند كبار قادة الجيش السوداني إلى مثل البعد القبلي الداعم إلا قليل منهم (حتى العصبية الدينية لم تعد متوفرة على النحو السابق، وإلا في الرتب الدنيا، وعند قليل من القادة، الذين صار العديد منهم مجرد مرتزقة وبعضهم سكير، والبعض لا يجد غضاضة في "تطبيع" العلاقات مع الكيان الصهيوني).
وفيما يتوفر "الدعم السريع" على كميات من الذهب، ويستمر بنهب كثير من الثروات السودانية، ومنها البنوك وأرصدة الذهب، ويتلقى دعماً سخياً، عسكرياً ولوجستياً من الإمارات، فإن كثير من جنود الجيش السوداني يعانون الفقر الشديد، والكثير من العاملين لا يتلقون رواتبهم أو تتأخر كثيراً عليهم.
إن الحلفاء الدوليين الذي يقفون خلف حميدتي، هم الأقوى والأكثر تأثيراً من حلفاء البرهان، وإرادتهم في تغيير النظم، أو ممارسة الضغوط حتى على دول إقليمية كبيرة (لحد إلزامها الصمت تقريباً في فاجعة غزة الحالية)، يوحي بأن "الدعم السريع" ربما كان قريباً من حسم المعركة لصالحه أو على الأقل سيكون له النفوذ الأكبر في حكم السودان، إن مشاركة أو تقاسماً.
إن بنى "الإسلاميون" تصورهم على ترجيح حصول ذلك، فإنهم بالتالي يتحضرون لحملة قمع قد تصيبهم في حالين: انتصار الدعم السريع، أو تقديمهم كقربان من البرهان في حال التصالح وتقاسم السلطة (ذاك ما يسعى إليه الداعمون بكل تأكيد).
لكن إن استمرت الفوضى الحاصلة في عدد من المناطق الآن، ومنها قلب العاصمة؛ فإن السودانيين سيعانون وضعاً مزرياً من شيوع الفوضى، والتي تشبه نماذج كثيرة في أوقات الحروب، كمثل ما حصل في أفغانستان في أعقاب زحف الفصائل الأفغانية على كابول ودحرهم لنظام نجيب الله الموالي لروسيا في العام 1992م، حينها، تكاملت عوامل داخلية أسهمت في ظهور "لاعب جديد"، أبرزها:
1- الحروب البينية بين الفصائل: أسفر هذا الاحتراب بين الفصائل الأفغانية عن سقوط ضحايا قدروا بأكثر من 40 ألف شخص.
2- الفوضى وانعدام النظام: بسبب اقتسام الفصائل المتحاربة لولايات أفغانستان.
3- غياب الأمن والاستقرار: حيث كثر القتل والسلب والنهب بين الأهالي لانصراف المتحاربين إلى القتال أو استنزاف أموال الأهالي، وعدم اضطلاع أي جهة بدور الشرطة.
4- الفساد الأخلاقي: انتشر الفساد الأخلاقي بسرعة، وفشت حوادث الاغتصاب، لاسيما من قبل ميليشيات دوستم علاوة على زيادة معدلات شرب المخدرات ونحوها.
5- ابتزاز أموال الناس: عن طريق فرض الإتاوات في الحواجز المنتشرة في كافة ربوع المدن والقرى والطرق، وفرض المكوس على المحال والأهالي.
6- ظهور طبقة أثرياء الحرب: نهب أمراء الحرب ثروات البلاد, من المعادن والأحجار الكريمة وممتلكات الدولة من الأسلحة والذخيرة، وسرقوا كل ما حوته مخازن الدولة ومؤسساتها، استغلالاً لغياب الحكومة المركزية.
كانت تلك المظالم تحدو طلبة العلم الذين شارك بعضهم في "الجهاد الأفغاني" بنوايا طيبة أو هكذا ظهر منهم، إلى إيقافها، وقد تردد كثيراً أن الاستخبارات الباكستانية قد عولت على مجموعات الطلاب التي هبت لتحقيق مقاصد الشريعة الخمسة في البلاد عبر قوة السلاح، وتلاقت إرادتها مع إرادة باكستان – كما تؤكده مصادر عديدة حينها – التي كانت تريد قوة أفغانية موحدة فتية من أجل عدم ترك أفغانستان، معبرها التجاري إلى آسيا الوسطى، ودرعها الشمالي، نهباً لمطامع الهند وروسيا وإيران، حيث إن أي استغلال لهذا الفراغ في القوى حينها قد يستغل في تطويق باكستان من أعدائها.
الأمر نفسه، هو الذي حصل في أعقاب سقوط نظام سياد بري في الصومال في العام 1991م، حيث انتشرت كل المظاهر السابقة تقريباً، ودخلت البلاد في فوضى طويلة جداً، وخلالها شُكلت محاكم شرعية نفذت أحكامها بقوة السلاح في بعض القبائل الصومالية، اتحاداً بينها، عرف فيما بعد باسم "اتحاد المحاكم الشرعية" الذي التأم في العام 2004م وبدأ في الزحف على كافة المدن الرئيسة، منها العاصمة ليعلن عن نظام جديد، ما لبث أن سقط بعد عامين نتيجة للغزو الإثيوبي للصومال، وإن ظلت آثاره واضحة حتى اليوم في مناحي شتى.
وعبر التاريخ ظهرت حركات وقوى وفرق، استغلت حال الفوضى لصالح مشروعها وبنائه، وقد كانت من قبل الفوضى جاهزة ببعض الأسس التي أمكن عليها هذا التأسيس السريع، من "عصبية دينية أو قبلية" ونحوها (كما يصفها ابن خلدون)، من قادة علم ورأي وجماهيرية، استهداءً بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ، وهكذا يتحدث ابن خلدون في مقدمته عن العصبية ودورها في تأسيس الدول، حيث يقول: "الأمر لا يتم إلا لأهل العصبية، فتفطن أنت له، وافهم سر الله فيه" ويضيف: "أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرد الوجهة إلى الحق. فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء" ، ثم زاد إيضاحاً بقوله: "فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم" ، ومحذراً من عدم الالتفات إلى العصبية بقوله: "ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء. فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف، رجاء في الثواب عليه من الله؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليه، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه"
المقصود مما تقدم، أن أمام المتدينين في السودان مفترق طرق، بدا فيه أن الجيش قد لا يظل "رهاناً رابحاً" فيما سيأتي من أيام، وأنه قد يكون من الملائم التهيؤ لمرحلة قاسية، تحتاج إلى تصرف سريع، واتخاذ موقف تاريخي، إما بمزيد من الاصطفاف مع الجيش مثلما يجادل البعض بذلك مستندين إلى كونه أقرب الفريقين للحق، وأقلهم ضرراً على المسلمين، من حيث وجود حلفاء "إسلاميين" معه، وأقلهم ضرراً كذلك من جهة ابتعاده النسبي عن إيذاء المدنيين، سلباً ونهباً ونحوه.
وإما أن يتميز صف المتدينين بصورة أو بأخرى، سواء في حال القدرة على محاكاة نماذج سابقة استطاعت أن ترسم لها خطاً ثالثاً ذا شوكة، تقوم فيه بدور الشرطة وحفظ الأمن بعيداً عن التورط المباشر في الصراع في المناطق التي تلفها الفوضى، وتجسر علاقتها بالقبائل الأكثر محافظة وتديناً، أو بوضع نفسها في إطار مختلف عن الجيش، وتبدأ في البناء على مرحلة تظهر فيه على نحو أكثر استقلالية تمهيداً للانخراط في عملية سياسية موسعة، أو تعلن انصرافها عن الفتن وانحيازها بعيداً عن أتون الصراع برمته وإيلائها دوراً أكبر للدعوة والإصلاح الاجتماعي.
هذا نقاش يتعين أن يدور بين أهل الرأي من المسلمين سواء أكان في السودان أو خارجه، لأن همّ السودان لا يخص السودانيين وحدهم، بل همّ أمة تفقد كل يوم، واحداً من مكتسباتها وعناصر قوتها، وقدرتها على المقاومة.
﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.