"طوفان الأقصى" إيران.. الربح في كلا المعسكرين
حين اشتد العدوان على غزة، كان مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي يستقبل إبراهيم الزكزكي زعيم ما يُسمى بـ"الحركة الإسلامية في نيجيريا" الشيعية المتطرفة.
الزكزكي، كان قد اعتقل لصلته بالإرهاب والعنف في نيجيريا، ومنعه الرئيس السابق محمد بخاري من السفر إلا أنه تمكن مؤخراً من السفر بداعي العلاج، فقادته قدماه إلى تلقي تعليماته من مرشد الثورة الإيرانية، والحلول ضيفاً على عدد من وسائل الإعلام الموالية لإيران، والتي سعت لتقديمه كمناضل إسلامي من أجل غزة!
(خامنئي يستقبل الزكزكي في طهران)
إنه نموذج من النماذج التي ستخرج بيضاء الجبين من أحداث غزة بعد تلطخ أيديها بدماء مسلمين، وتلك هي واحدة من عمليات التعويم، وغسيل السمعة، التي يقوم بها النظام الإيراني له، ولأعوانه في العالم الإسلامي.
الزكزكي هو أحد أطراف مروحة عملية غسيل السمعة هذه، التي تطال بالأصل "حزب الله"، أكبر الميليشيات التي ارتكبت جرائم مروعة ضد المسلمين في شمال وغرب سوريا، وفرض هيمنته على سائر التراب اللبناني، وأقام سياجاً حامياً يحمي الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، ونفذ عمليات كلامية ومناوشات محدودة جداً في الجنوب اللبناني، قال إنها أسفرت عن مقتل 50 من عناصره، فيما لم يستهدف هو إلا عدة كاميرات مراقبة وأبراج اتصالات للكيان الصهيوني، فيما أطلق عليه سخرية من بعض النشطاء بـ"معركة ذات العواميد".
وتطال كذلك، جماعة الحوثي، التي أعلنت عن إطلاق "سرب من المسيرات" والصواريخ الباليستية، لكنها للمفارقة لم تصل إلى حدود فلسطين، وقيل إن إحداها ضلت طريقها لتقصف ميناء نويبع المصري بدلاً من استهداف الكيان الصهيوني، وأيضاً ميليشيات شيعة العراق التي استعذبت تقتيل وتذبيح المسلمين في العراق، لتلقي بعض الصواريخ الهشة على قواعد أمريكية في العراق من دون أي تأثير.
المظاهرات متاحة في كل دول محور الشر الإيراني، بما فيها سوريا، الدولة الأكثر استبداداً في المنطقة، بخلاف كثير من الدول العربية الرئيسة. وفي حين تتبارى دول عربية كالإمارات ومصر في إبداء تفهمها لـ"سياسة الدفاع عن النفس" التي تنتهجها "إسرائيل" حيال غزة، رافضة التجاوز فيها فحسب؛ فإن الفلك الإيراني يزخر بالمظاهر الحنجورية لمساندة الجهد المقاومة في غزة، والتضامن الشكلي مع أهالي غزة، وفي هذا وذاك يكسب أرضاً، ويغسل جرائمه ومذابحه المليونية في كل من سوريا والعراق واليمن أمام البسطاء والمخدوعين، ويمنح المأجورين هامشاً لتجميل صورة المشروع الشيعي الإيراني الدموي، ويمد المغفلين من قادة بعض الفصائل الإسلامية و"دعاة" و"مفكرين" بأوهام مردوا على الغرق فيها كلما تكررت مثل هذه المسرحية "النضالية" من "حزب الله" وأترابه من ميليشيات العدوان والتشيع والكبتاغون! هؤلاء المغفلون الذين جاوزوا الإيرانيين أنفسهم، الذين انصرفوا في معظمهم عن تأييد القضية الفلسطينية نفسها كرها للحلف الذي تقوده إيران ويضم حركة حماس بين أعضائه، مثلما تؤكد على ذلك صحيفة "هم ميهن" الإيرانية التي رأت في مقال تحليلي أن قضية فلسطين أصبحت قضية حكومية في إيران، والكثير من المواطنين العاديين وحتى الشخصيات المشهورة أصبحت تتحاشى الحديث عن هذه القضية خوفا من اتهامها بموالاة الحكومة ودعم النظام. وذكرت الصحيفة أن ربط هذه القضية بالسلطة الحاكمة أدى إلى أن يتحاشى المواطنون في إيران الحديث عن الموضوع، وأحيانا يغضون الطرف عن الجرائم التي ترتكب بحق الفلسطينيين، ومقتل المدنيين الأبرياء وفي أحيان أخرى يصل الأمر إلى التضامن مع "إسرائيل"، وفقاً للصحيفة، وأيضاً تصديقاً لما حصل في ملعب ورزشكاه آزادي، الذي سب المشجعون رفيقاً لهم لحمله العلم الفلسطيني وطاردوه، في واحدة من تجليات الرفض الشعبي المتزايد ضد الملالي وأي حليف لهم، خصوصاً مع انتشار الإلحاد والعلمانية بين الشباب الإيراني الشيعي المناهض لحكم خامنئي.
بالفعل، اكتسب المجرمون شعبية محدودة، وهم "يساندون وحدهم"، رغم أن هذه المساندة لم تتعد الحدود الدنيا من قواعد الاشتباك بين "حزب الله" و"إسرائيل"، ووفقاً للمتفق عليه، والمعلن من أكثر من جهة أمريكية، أفادت بأن رسائل وصلت من واشنطن لإيران تحذرها من توسيع نطاق الحرب، ووفقاً لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، فإنه "منذ بداية الصراع بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، أرسلت الولايات المتحدة رسالتين إلى الحكومة الإيرانية". وأضاف: "لقد أعلنوا أنهم لا يرغبون في توسيع نطاق الحرب وطلبوا منا ضبط النفس ودعوة الأطراف الأخرى إلى ضبط النفس أيضا".
إيران التزمت، مثلما التزمت ميليشياتها بهذا التفاهم، ولم يكن ذلك بعيد أبداً عن سلوك الإيرانيين دوماً؛ فحتى المعونات الإنسانية التي لم تكن لتخدش تفاهماتها مع الولايات المتحدة شبه المعلنة، لم تخفّ إليها طهران، وسبقتها إليها دول تلعن هجمات حماس في أروقة الأمم المتحدة!
التقية ليست غريبة على السياسة الإيرانية، ومن يطالع بعض الصحف الإيران كصحيفة "همشهري"، المقربة من الحكومة التي تحدثت بادئ الأمر عن إرسال مقاتلين لحماس، يلحظ أنها عادت واختزلت مهمة إيران الرئيسية في هذه المرحلة في "تقوية خطاب محور المقاومة"، وزعمت أن سبب عدم انخراط "حزب الله" بجدية في الحرب إلى أن "السبب الرئيسي وراء ذلك هو أن حماس قالت بأنه لا ضرورة الآن لتدخل حزب الله في هذه الحرب"، وصحيفة "جوان" التي تجاهلت عنترية إيران كحامية أولى للحق الفلسطيني، وأكدت بدلاً من ذلك أن "الشعوب أصبحت هي من يتولى الدفاع عن القضية الفلسطينية". أما وزير الخارجية الإيرانية؛ فقد هدد في أعقاب قصف المستشفى المعمداني بأن إيران ستتدخل خلال ساعات، لكن مندوب إيران سارع إلى القول في بيان له: "إذا لم تهاجم إسرائيل إيران، فلن تتدخل طهران في هذا الصراع"، مضيفا: "جبهة المقاومة لديها القدرة على الدفاع عن نفسها"، ومن يراقب الوضع جيداً يجد أن الإيرانيين أقرب في تلك المرحلة إلى اليهود منهم إلى الفلسطينيين.
أما المقاومة الفلسطينية؛ فلم يزل قادتها السياسيون يساهمون في تجميل صورة الإيرانيين عبر سلسلة من الاجتماعات التي يجرونها مع مسؤولين إيرانيين بغية تنسيق لا تبدو أي آثار له في الميدان.
ستخرج إيران منتصرة إذا انتصرت المقاومة الفلسطينية، وستحاول إعادة الساعة إلى الوراء، يوم كان شباب بعض الجماعات الإسلامية مبهورين بـ"حزب الله" إبان حرب 2006م، وسيعيد المغفلون إنتاج غفلتهم، لكنها ستصطدم بوعي انتشر منذ زمن، في قطاع عريض من الجماهير و"العوام" في سوريا والعراق ولبنان واليمن، الذين رأوا جرائم طهران في بلادهم عياناً دون أي تزييف، وسوف لن يغفروا لإيران وعصاباتها جرائمهم المريعة ضد شعوبهم.
في الصعيد المقابل؛ فإن إيران قد التزمت بما يمليه عليها الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، و"إسرائيل"، وسيكون لها يدٌ عند هؤلاء حين تنتهي الحرب لصالحهم – لا قدر الله – بل، ستكون قد تخلصت من آخر "جيش سني" حقيقي في المنطقة، وخلا لها الطريق مثلما أخلي لها في العراق ولبنان وسوريا واليمن من قبل عبر خيانات وتفاهمات من قادة جيوش وحكام وقادة أحزاب وفصائل.
ستحصد طهران ثمن عدم انخراطها في الحرب، وتسليم حماس للصهاينة مثلما حصدت ثمن دورها في الإطاحة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين وتفكيك جيشه القوي، وسيكون ضمن الثمن الإفراج عن أصول مجمدة للإيرانيين، وإعطاء الضوء الأخضر لإتمام المرحلة الأخيرة من مشروع إيران النووي الحربي. إذ إنه لا يعقل أبداً أن الاتفاق بين إيران وحماس، كان يقضي بألا تشارك إيران بجدية في معركة حماس الحاسمة أو ربما الأخيرة، والتي تهدف هذه المرة إلى إنهاء المقاومة تماماً وإخلاء غزة من سكانها، فسلوك إيران هذا لم يحصل منها من قبل حيال حلفائها الحقيقيين في المنطقة؛ فهي هبت لإنقاذ نظام بشار الأسد حين بدا أن كفته تطيش في ميزان الثورة السورية، وقبل أن يصل سكين الثورة إلى رقبة بشار في دمشق بزمن، وهي فعلت الشيء نفسه حين كانت المقاومة العراقية تحقق نجاحات ضد الاحتلال وحلفائه من أجنحة ميليشيات الحكيم والصدر والسيستاني، وهبت مسرعة تتحرك في كل اتجاه لإنقاذ الحوثي حين كانت قوات عبدالله صالح تحاصر ميليشياته في صعدة، وأقامت جسوراً للدعم العسكري لنصر الله يوم كان يخوض حرباً تكتيكية وليست صفرية في الجنوب اللبناني.
بالمساحة الممنوحة للإيرانيين في المنطقة؛ فإنهم نظرياً الجهة الوحيدة القادرة على إشعال كل الجبهات، وإجبار الأمريكيين والأوروبيين على الضغط على الكيان الصهيوني من أجل وقف الحرب، لكن من الناحية العملية؛ فإن أصل ذلك التمدد كان مرهوناً بضمان أمن الكيان الصهيوني، والمصالح الكبرى للأمريكيين في المنطقة، ولم تزل طهران ملتزمة بذلك.
ونظرياً؛ فإن ما يكبح جماح الإيرانيين هو الرغبة في الإفراج عن أصولها في البنوك القطرية والأمريكية والأوروبية، وسعيها لإنهاء العقوبات الهشة المفروضة عليها، وعدم التورط في أزمة عسكرية تفاقم أزمتها الاقتصادية، وتمرير مشروعها النووي، لكن عملياً هي تملك تحقيق ذلك كله، وهي مندفعة لدعم حليفتها حماس في غزة، وفرض كلمتها أكثر في المنطقة لكن ما يمنعها ليست السياسة وحدها، وإنما العقيدة بالأساس.
إن علاقة إيران بحماس يحكمها محددان اثنان:
الرغبة في التحكم في قرار حماس، بعد انفضاض العرب عن القضية الفلسطينية، وشح الدعم عنها، ورغبة كتائب القسام في تطوير قدراتها العسكرية لتواكب التطور العسكري الصهيوني، وهذا يجعل حماس أكثر حاجة لطهران، وأقل قدرة على ممانعة توجيهاتها، وأكبر استعداداً لمشاركة طهران في قراراتها المصيرية، أو ربما الخضوع لبعض إملاءاتها.
إجراء عمليات غسيل سمعة لها ولحلفائها، وتجميل صورة ميليشياتها التي نفذت جرائم مروعة في كل من العراق وسوريا واليمن، وقتلت الملايين في كل تلك البلدان بما يفوق ما اقترفته "إسرائيل" بأضعاف مضاعفة، وهجرت أعداداً في عقدين تفوق أعداد المهجرين من فلسطين في أكثر من ثمانين عاماً، وهذه العملية تحتاجها إيران بصفة دورية لنشر مذهبها ثم نفوذها في بلدان العالم الإسلامي كله، وهي إذ تخفق في بلاد ذاق سنتها مرارتها؛ فإنها لا تعدم وجود جماهير مسلمة في بلاد إفريقية وأسيوية يمكن أن ينطلي عليهم خبثها ودهائها لبعد تفاصيل الأحداث عنها، ولين دين كثير من أبنائها.
ولعل البعض لا يدرك أن إيران في خضم تلك الأحداث لم تزل تمارس جرائمها ليس في الشمال السوري وحده الآن، بل في إيران ذاتها؛ ففيما كانت النيران مشتعلة في ربوع غزة، والدماء سائلة، كانت إيران تعيد اعتقال أحد أئمة أهل السنة البارزين في إيران، وهو الداعية السني البلوشي الإيراني الشيخ فضل الرحمن كوهي، إمام وخطيب الجمعة ومدير معهد أنوار الحرمين في منطقة بشامك بمدينة سرباز، والذي كان قد قضى 4 سنوات معتقلاً لدفاعه عن الثورة السورية.
(طفل بلوشي أصيب في الاحتجاجات السنية)
(الشيخ كوهي)
والشيخ اعتقل على إثر عودته من زيارة دعاة آخرين، وفي أعقاب تضييق ومحاصرة شديدة لمقر إمام أهل السنة في إيران مولوي عبد الحميد، متجاوزة الخط الأحمر الذي ظل يتعلق بإمام أهل السنة في إيران، حيث طاله التضييق والمحاصرة، واعتقل العديد من رفقائه، كما اعتقل العشرات من المحتجين البلوش على الطغيان الإيراني والتضييق على أهل السنة في بلوشستان السنية، ولم تزل الأوضاع مشتعلة في محافظة بلوشستان سيستان السنية حتى الآن.
وحين كان "طوفان الأقصى" يفيض شجاعة وفداء، كانت الأوامر قد صدرت بتخريب وإغلاق أشهر وأكبر مصلى لأهل السنة في طهران، إذ إن نظام الملالي لم يسمح بإقامة صلاة الجمعة في مصلى نبي الرحمة بحي پونك بالعاصمة بعد أن هدمت غرفه وأغلق ما تبقى منه (ولم يبق مسجد واحد لإقامة الصلاة الصحيحة في طهران).
إن إيران تحاول الخروج بأعلى مكسب في أي مصير تؤول إليه الحرب في فلسطين، ولذلك؛ فإن موقفها الحالي لا يمكن تحديد معالمه بشكل كامل؛ فمعلوم موقف إيران في إطاره العريض، لكنها قد تلجأ إلى قدر من التصعيد المحسوب أو تواصل تراجعها وتحد أكثر من ردات أفعال ميليشياتها، متى مالت الجهة إلى هذا السبيل أو ذاك، والمؤشر الأوضح سيتمثل في أداء "حزب الله"، الذي لم يجاوز قنطرة استهداف الأبراج الكهربائية في شمال فلسطين.
وموقف إيران هذا ليس جديداً عليها ولا على سلفها من قبل؛ فأجداد ملاليها اليوم مردوا على مر التاريخ على هذا النفاق، الذي أوضحته الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 141]
جاهة لا يمكن التغاضي عنها، ولكن سواء أكانت المقاومة قد وضعت حساباتها جيداً، وتوقن بأن الصهاينة لا يمكنهم في النهاية إلا الخضوع لشروط التفاوض حول هذا العدد الكبير من الأسرى، أو أنها لم تكن تقدر هذا الثمن الكبير لطوفان الأقصى؛ فإننا أمام واقع مؤلم في ظاهره وباطنه: ثمة صمود أسطوري، من جانب يستحق التقدير والمساندة بكل ما يستطيعه المسلم، في مقابله مشهد شديد الإيلام والقسوة، ومعطيات لا يمكن تجاهلها سبق أن أشير إليها في هذه الحلقات، وهي أن النصر لا يمكن تحقيقه تماماً إذا كان العدو يملك القدرة على النكاية وارتكاب المجازر الخسيسة، وأنه يمكن للمقاومة أن تبذل جهداً هائلاً وتقدم على جهاد أسطوري، لكن حاضنتها الشعبية مكشوفة تماماً للعدو، يقتل منها ما شاء متى شاء، ومتى توفرت له الذخيرة والتأييد العالمي. وهو هنا يملك هذا وذاك، خصوصاً أن العالم قد ازداد توحشاً، وكفراً بمبادئه الأساسية، وتنكراً للحريات والحقوق والإنسانية، وقد تقدم في الحلقة الثانية من هذه السلسلة تساؤل: "هل يمكن أن تقود إحدى هذه السيناريوهات إلى جعل الأهداف العظيمة للهجوم (الفلسطيني) الكاسح أقل أهمية مما هو قادم بالنسبة لقطاع غزة نفسه؟ هل تحاول "إسرائيل" استغلال الاحتشاد العالمي معها لتنفيذ "ترانسفير" عبر إجبار أهالي غزة على النزوح لمصر، وبالتالي كسب المعركة في النهاية بعد دفع ثمنها الطبيعي بسقوط هذا العدد من القتلى والجرحى والأسرى من شراذم الكيان الصهيوني فحسب أم أن الحركة قد استدرجت لتنفيذه من قبل طرف ما؟".
هذا السيناريو لم يتحقق بعد، ولن نتجادل طويلاً حول كوننا نقترب منه يوماً بعد يوم أم لا، إذ إن الإجابة على ذلك لا تقود إلى الفهم تحديداً للظروف الضاغطة على شعبنا في غزة، الأهم من السؤال حول ما إذا كان سيناريو الإبادة، والأرض المحروقة، والتهجير كنتيجة، يصار إليه الآن أم لا؟ هو السؤال حول إمكانية ذلك، حول "واقعية" هذا السيناريو.. كواضع لحسابات المخاطرة كما يقول مهندسو الأمان، ومخططو الحروب، لابد أن تدرك ما إذا كانت هذه المخاطر واقعية أم لا.. لابد أن تدرس المحيط جيداً، وقدرات العدو، وقدرات صفك، وحدود المناورات الممكنة. إذا كان هذا قد تم بالفعل؛ فنعمت ما هي هذه العملية وهذا الاجتياح، وإن كان قد استند إلى معطيات خاطئة أو تطمينات إقليمية خادعة، فيا لبؤس النتيجة.
أما ما نراه؛ فمحيط مواتٍ لكل جريمة، وتوحش صهيوني، وغطاء غربي فسيح، في مقابله صمود رائع من أبطال عظماء، نعني أهالي غزة الأشراف، ورباط وجهاد عظيم من مجاهدين انبعثوا مؤمنين بقضية سامية، وقرار ساستهم الذين يثقون بهم. ومن ثم، نرى في الأفق هروباً للأمام من الصهاينة إمام لتحقيق انتقام مريع ثم مبادلة أو السير باتجاه التهجير الجزئي وتدمير الأنفاق عبر مجازر مهولة.. ونكرر ليس المحيط هو من يمنع حصول ذلك، ولكن – بعد إرادة الله – ما يؤجله أو يمنعه كماة مرابطون، وحاضنة شعبية مؤمنة بموعود الله.
ولا شك أن قرار التهجير تؤثر في اتخاذه عوامل أخرى، منها قدرة الأهالي على الصمود، وصلابة المقاومة، وارتفاع وتيرة الرفض الشعبية في دول العالم مع ازدياد تفاعلات التواصل الاجتماعي وخرقه لجدر التعتيم الإعلامية الغربية، وبعض الضغوط الشعبية الداخلية في أكثر من دولة عربية ستتهم أنظمتها بالخيانة مباشرة إن هي تعاطت إيجابياً مع مخطط التهجير.
ولا جرم أن "إسرائيل" تعاني، وأن قادتها في وضع لا يحسدون عليه، واتخاذهم قرار الاجتياح البري مكلف جداً، وقد لا يتحملون أثمانه، ولا ريب أن الولايات المتحدة ليست جاهزة لتعويض النقص في قدرات "إسرائيل" البشرية المدربة، مثلما أكد على ذلك العقيد دوغلاس ماكغريغور مستشار البنتاغون السابق في حوار مع المذيع الشهير تيكر كارلسون، حين أكد أن قوات نخبة أمريكية اقتحمت مع قوات "إسرائيلية" قطاع غزة من أجل تحرير الرهائن، وقعت في كمين فانهزمت مخلفة وراءها أشلاء قتلاها، وقال في تغريدة سابقة إن "القوات المسلحة الأمريكية التي كانت في عام 1991 لم تعد موجودة في الوقت الحالي. لدينا احتياطي ضعيف من الأفراد والكوادر. ولا يستطيع الجيش تجنيد الناس في صفوفه".
ولا شك أن عامل الوقت ليس في صالح الصهاينة ومشروعهم، لا من جانب الاستنفار العسكري الصهيوني أو الغربي المساند، ولا من جانب الاقتصاد وضغوطه، ولا من جانب أهالي الأسرى الغاضبين من قلة اكتراث الحكومة بمصائر ذويهم، ولا من جانب اتساع نطاق الانتقادات الداخلية التي ستتحرر شيئاً فشيئاً من قيود "وحدة الجبهة الداخلية أثناء الحرب" إذا ما طالت الحرب دون تحقيق نتائج حاسمة. وأن الفضائح الإجرامية الصهيو غربية تتكشف يوماً بعد يوم أمام الرأي العام الغربي، وأن ضغوطاً شعبية باتت تمارس على صنّاع القرار الغربي رغم اندفاعهم الأهوج في تأييد الكيان الصهيوني، ولا جدال في أن المقاومة تجسد حالة فريدة من الثبات والصلابة، وتقوم مجموعاتها الفدائية بعمليات تفوق الخيال أحياناً.. وثقة المسلمين فيهم عالية، وروح جهادهم تبلغ عنان السماء.
لاشك في كل هذا، لكن حجم الجريمة بالغ البشاعة؛ فالشهداء حتى الآن تجاوزوا 7 آلاف بينهم 3 آلاف طفل، وحجم تدمير أطنان القنابل الملقاة على غزة جاوز حجم تدمير قنبلة هيروشيما، وثمة حدوداً لممانعة تلك الظروف، وقدرات مهما بلغ مستوى صبرها ستظل مقيدة باحتياجات معيشية ضرورية لا يمكن تجاهلها.
ولربما طالت مرحلة عض الأكباد هذه بين الطرفين حتى ينقشع الغبار عن درس نتعلمه للتاريخ في دقة الحسابات أو طيشها، وفي صحة الإعداد للمعارك المصيرية أو إخفاقه.. نسأل الله العلي القدير ألا تكون الأخيرة، وأن يمنح الله المؤمنين أكتاف الكافرين، وأن تزول تلك المخاوف التي تراودنا منذ بداية الحرب، فإن ما نعاينه بأعيننا مقلق كثيراً. ولا يزعم أحد الآن القدرة على إدراك مغبته، فالحرب غير متوازية، والمفاوضات شاقة ومتعددة، والضغوط هائلة على كلا الطرفين، والحلول ليست جاهزة تماماً، ودونها ميادين صعبة المراس.