"طوفان الأقصى" إيران وتفاعلات غزة
ملف فُتح ثم أغلق سريعاً إعلامياً؛ فقد جاء التصريح مفاجئاً، من المتحدث الرسمي باسم الحرس الثوري الإيراني، بأن "عملية طوفان الأقصى كانت إحدى العمليات الانتقامية التي اتخذها محور المقاومة لاغتيال قاسم سليماني"، فلم تلبث حركة حماس أن نفت صحة تصريح العميد الإيراني رمضان شريف فيما يخص عملية طوفان الأقصى ودوافعها، فقالت في تصريح صحفي رسمي في اليوم نفسه (27/12) الذي أذيع فيه تصريح المسؤول الإيراني: "أكدنا مرارا دوافع وأسباب عملية طوفان الأقصى، وفي مقدمتها الأخطار التي تهدد المسجد الأقصى". وأكدت أن كل أعمال المقاومة الفلسطينية، تأتي رداً على وجود الاحتلال وعدوانه المتواصل على شعبنا ومقدساتنا.
على الفور، تراجع العميد شريف بتصريح لا يخلو هو الآخر من تقية فاقعة، قائلاً أن تصريحاته حول دوافع طوفـــان الأقصى أسيء فهمها، مؤكدًا أنه لم يصرح بأن دافع العملية كان الانتقام لاغتيال الجنرال قاسم سليماني. وقال شريف في تصريحات لصحيفة العربي الجديد: صرحت اليوم بأن أحد نتائج عملية طوفـــان الأقصى كان انتقاما لاغتيال الجنرال سليماني! ثم في اليوم التالي، تراجع حسين سلامي قائد الحرس الثوري دون أن يعتذر، وقال إن "عملية طوفان الأقصى لم تكن انتقاما لسليماني"، مضيفا: "إيران لم تنتقم بعد لمقتل سليماني وأبو مهدي المهندس، سنفعل ذلك في الوقت المناسب".
لم يزد الطرفان على قول ما قالاه، وإذ أغلق الملف إعلامياً؛ فإنه قد ألقى بظلاله على العلاقة بين الطرفين، وأجهد من حاول استكناه ما يستتر بأكمته؛ فالراجح أن حماس قد أرادت ألا يلوث الحرس الثوري ثوب مقاومتها، بمحاولته الخبيثة تجيير كل هذه التضحيات من أجل الانتقام لسفاح سفك دم مئات الآلاف من المسلمين من الخليج إلى المتوسط، وهي لم تشأ أن تلصق بنفسها تهمة العمل كبندقية مستأجرة للملالي وحرسها الثوري، ولم تُرد أن تقزم من حجم طموحاتها التي دفعتها لهجوم 7 أكتوبر، الذي يجادل خصومها وبعض أنصارها حول حسابات المكاسب والخسائر للعملية برمتها، وبالتالي؛ فمن الضروري إبراز الأهداف الكبرى كالدفاع عن الأقصى، وفكاك العناة، وتحريك راكد القضية، والنكاية في العدو وكسر إرادته وطموحاته ومشروعاته الداخلية والإقليمية.. إلى غير ذلك.
إن أسوأ ما كانت تنتظره حماس في هذا الوقت العصيب هو أن تأتيها تلك الطعنة الإيرانية، بعد طعناتها النافذة التي تلقتها من الإيرانيين بعدم تحريك ميليشياتهم بالشكل المناسب لتخفيف وطأة الهجوم على غزة، فلم يزل "حسن نصر الله" يواصل ما قيل بين جماهير السنة في لبنان تندراً، "معركة ذات العواميد"؛ فحتى اللحظة التي كتبت فيها هذه السطور توجه مدفعيته النار لأبراج اتصالات للعدو الصهيوني! ومثلها ما تُسمى بالمقاومة الإسلامية (ميليشيات الموت الشيعية) في العراق، التي تستهدف قاعدة أمريكية على نحو ما كشف عنه ترامب من قبل من كونه يشبه المسرحية المتفق عليها مع الإيرانيين.
والإيرانيون بدورهم كانوا يرغبون في تحقيق أكثر من هدف من تصريح ناطق الحرس: رفع الحرج أمام الإيرانيين بعد مقتل مسؤول ثانٍ بارز في الحرس الثوري بعد سليماني، من دون أي رد يذكر، فإظهار "طوفان الأقصى" كأحد الردود الإيرانية على الإهانة الأمريكية، يذهب عنها الملامة الشعبية، ولهذا كان الخطاب أكثر توجيهاً للداخل منه للخارج، كما أن إلصاق تلك المهمة بحماس يظهر الإيرانيين أكثر التصاقاً بالمقاومة أمام الشعوب الإسلامية، ويرفع من قيمة قادتها النافقين ورموزها الحية، ويساهم في إبرازهم، وهو كذلك يمثل محاولة لدس الأنف الإيرانية في مباحثات وقف إطلاق النار، كقوة لها تأثيرها على المقاومة، ولاعب لا يمكن تجاوزه، لاسيما أن إيران تريد استخدام ورقة المقاومة في مفاوضاتها النووية مع الأمريكيين، في وقت قالت فيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية إثر تصريح الناطق باسم الحرس الثوري، إن إيران تراجعت عن تباطؤ استمر لأشهر في معدل تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء تصل إلى 60% القريبة من المستوى المطلوب لتصنيع أسلحة، لتقترب في نهاية عام 2023م من إنتاج 3 قنابل نووية. إثر مضاعفة إنتاجها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 % ثلاث مرات".
لكن هذا الإحراج الذي سببته طهران لحماس، سرعان ما ارتد عليها حين نفت الحركة علاقة الانتقام لسليمان بطوفان الأقصى، ما تسبب في حرج بالغ لقادة إيران، وهو ما حدا بصحيفة "فرهیختكان" الإيرانية (30/12) إلى انتقاد تصريحات المتحدث باسم الحرس الثوري، رمضان شريف، وقالت، قائلة: "إن مثل هذه التصريحات غير المنضبطة تكلف البلاد خسائر باهظة (...) أحيانا تدربوا على الصمت أيضا لكيلا تحملوا البلاد أضرارا أكبر!"، داعية المتحدث إلى الاعتذار بوضوح، والحرس إلى عزله واختيار بديل "أكثر دقة وانضباطاً".
الاستنتاجات كلها واردة، من كون التصريح قد جاوز اتفاقاً ضمنياً بين طهران والحركة على عدم إحراجها في المحيط السني، وبالتالي جاء الرد سريعاً وتفهمته إيران. هذا وارد بالطبع؛ فليس ثمة شواهد قوية على وجود خلاف كبير بين الحركة وإيران. إنما المهم جداً أن تُرصد توابع هذا التصريح الحمساوي جيداً؛ فهي المرة الأولى التي تظهر الحركة موقفاً معاكساً لطهران، وبهذه القوة والسرعة، وقد يطيب للمتفائلين النظر إلى هذه الأزمة العارضة كما لو كانت تمثل تعبيراً عن شرخ حاصل بالفعل بين الحركة وطهران، ربما يغذيه شعور بخيبة أمل قادة الحركة من ردات فعل إيران وأدواتها الخجولة حد التواطؤ والتخاذل على العدوان في لحظة هي الأكثر حرجاً في حياة الحركة بل المقاومة الفلسطينية برمتها منذ تشكيل كتائب القسام بالترافق مع اندلاع انتفاضة الحجارة 1987م.
لقد عوّل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أول الأمر كثيراً على الشيعة منذ اندلاع الثورة الإيرانية، وكان من أوائل المهنئين بها، ثم تورط في تدريب عسكريي "حركة المحرومين" التي أنشأها موسى الصدر، التي آلت إلى "أفواج المقاومة اللبنانية" المعروفة اختصاراً باسم "أمل"، ثم اكتوى بنار خيانتها لاحقاً حين ارتكبت مذابح المخيمات الفلسطينية بلبنان فيما بعد، فاتخذ موقفاً حذراً في النهاية من إيران وأدواتها في المنطقة؛ فهل سيمثل "طوفان الأقصى" فرصة ربما تتاح لآخر مرة أو لا، لتحد فيها المقاومة الفلسطينية من تعاونها أو الاستناد إلى الإيرانيين بعد موقفها الهزيل في صد أو تشتيت العدو الصهيوني المستمر في تدمير غزة نهائياً؟ .. ربما، ولربما ستكون المقاومة بحاجة إلى إعادة النظر في ذلك إثر الحرب، وتكون الأصوات العاقلة من أنصارها مدعوة كذلك لترشيد مسيرتها في مرحلتها القادمة.