"طوفان الأقصى" المحيط الخانق والظرف الضاغط
قبل 51 عاماً، وفي دورة الألعاب الأولمبية الصيفية كانت وحدة كوماندوز تنتمي لمنظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية على بعد خطوات من تنفيذ واحدة من أشهر عمليات الخطف في العالم بهدف مبادلة لاعبين "إسرائيليين" بمائتي أسير فلسطيني.. قُتل 5 من الخاطفين و11 "إسرائيلياً" وألقت الشرطة الألمانية القبض على 3 مهاجمين.
ورغم أن العملية قد وقعت في أرض أجنبية تماماً، وضد "مدنيين" بالمصطلح الدولي الآن؛ فإن الإعلام العربي كان يطلق على المجموعة المهاجمة، اسماً من ثلاثة: الفدائيين، أو المهاجمين، .. أو الخاطفين كأعلى سقف من "التشويه" حينها للعملية، ولم يكد يجرؤ أحد على نعتهم حينئذ بالإرهابيين.
الآن، تغير الوضع كثيراً، ولم يعد ترى العواصم العربية أن نعتها للتحرير بالإرهاب، والأسرى بالرهائن، والمغتصبين الصهاينة من جنود الاحتياط الذين يرتدون ملابس مدنية بالمدنيين. وفي الجانب الآخر؛ فإن تدمير مستشفى كامل بأطبائه ومرضاه وزواره ولاجئيه، واغتيال عائلات أشهر المراسلين، واغتيال الصحفيين، وقتل آلاف النساء والأطفال الفلسطينيين، لا يعدو أن يكون في التعبيرات السياسية والإعلامية، مجرد "تجاوز في الانتقام"، و"سقوط ضحايا مدنيين من الطرفين" و"إفراط في دفاع إسرائيل عن نفسها"، مثلما صدر من مسؤولين "صغار" في دول عربية. بل قد صار تهجير الغزاويين من أرضهم مباحاً ما دام مؤقتاً، وفي اتجاه تسمح به لعبة الشطرنج التي يحرك فيها الشعوب كأحجارها!
وعلى صعيد آخر؛ فإن ما صدر عن طهران من مواقف، لا يخالف نهجها التقليدي في عدم نجدة حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين حين تتعرض لضربات عنيفة، وهي الآن لم تخالف إلا في بعض التصريحات الحنجورية من وزير خارجيتها، والتي سرعان ما ابتلعها وغيره مشددين على أن الشعوب هي المعنية بالتحرير، وأن حركات المقاومة لم تطلب منهم مساعدة.
وحتى في الصعيد العالمي؛ فإن العالم مندفع تماماً لتأييد "إسرائيل" في كل جرائمها، ومستعد لمساندتها عسكرياً كذلك، وهو يمارس أقصى درجات ممكنة من أحادية الرأي الإعلامي، وشيطنة المدافعين عن فلسطين، بل وملاحقتهم أحياناً في مظاهرات أوروبا القليلة.
المناخ قد تغير كثيراً، ولم يعد أبداً يسمح بهامش مناورات للمقاومة، وحرية تحرك كانت ممكنة بالأمس، والأخطر أن دولاً عربية وغير عربية فتحت يديها مرحبة "عملياً" باستقبال مهجرين قسرياً إليها، وإن خالفت ذلك في خطابها المحلي المستهلك.
والمؤيدون لعملية "طوفان الأقصى" مهما آلت نتائجها، ينافحون عن حسابات العملية بأن كل ما تقدم تدركه حماس جيداً، وهي تراقب إعدادات خطط التهجير في مصر والأردن، وتعلم عن يقين تحول المواقف الخليجية ضد المقاومة بدرجات عالية، وتوقن بأن معظم العواصم العربية إن لم تكن ضالعة في جريمة الإبادة الجماعية والتهجير القسري؛ فهي على الأقل ليست في معسكر المقاومة، ولديها استعدادات لقبول أي حلول صهيونية أو غربية. المؤيدون يدافعون بأن حماس لم تتفاجأ بردود فعل الإيرانيين كذلك، ولديها خبرة في التعامل معهم، وقبل سبع سنوات أذيع تسجيل مسرب منسوب لمدير مكتب حركة حماس الأسبق موسى مرزوق، وهو يلعن باطنية إيران ونفاقها، وأحياناً يلمح مدير مكتبها السابق خالد مشعل إلى أن دعم إيران دون المأمول منها، لكنها مع ذلك تقبل بذلك القدر الذي تمنحه لها إيران، وتبني عليه وعلى غيره من أدوات القوة. وكذلك ثمة من يقول أن المقاومة على دراية كاملة بالمحيطين الإقليمي والدولي، وهي تعلم جيداً حجم ردود الأفعال الصهيونية المتوقعة، وأن كل ما يحصل لم يكن بعيداً عن حساباتها وتقديراتها لتداعيات عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الحالي، وأنها وجدت أن بقاءها صامتة في ملفات التطبيع والأقصى والأسرى والمغتصبات، بل وملف التهجير نفسه، لن يمنح العدو إلا مزيداً من كسب النقاط في معركة تحتاج إلى ضربات موجعة إن لم يكن متاحاً أن تكون قاضية ضد الكيان الغاصب لعرقلة كل مساعيه في قتل القضية الفلسطينية بالسم البطيء.
(صور تظهر حجم الدمار في حي الكرامة بمدينة غزة قبل وبعد العدوان الصهيوني)
لكن في المقابل؛ فإن ثمن العملية قد صار اليوم باهظاً جداً في نظر آخرين، ليسوا بالضرورة ممن ينتمون إلى خانة الأعداء أو "القاعدين" أو "المتخاذلين" مثلما يوصفون من قبل أنصار المقاومة في كل ما تتخذه من قرارات؛ فتدمير 25% من منازل غزة، بحسب وزير الأشغال والإسكان الفلسطيني محمد زيارة الذي قال (26 أكتوبر الحالي) إن الكيان الصهيوني قد دمر نحو 200 ألف وحدة سكنية في غاراتها العنيفة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الجاري، في عدوان مستمر قد يفوق ذلك الرقم، قد يدفع الغزاويين للهجرة اضطراراً بالفعل، أو الخضوع لحلول قاسية كنزع السلاح والخضوع لسلطة موالية للكيان الصهيوني تماماً، ولهذا فالمعارضون لاندفاع حماس في تلك العملية، يعتبرون أنها إما قد استدرجت من قبل الإيرانيين للوقوع في فخ صراع كل محيطه لا يناصرها، بل ربما يحفر بعضها قبرها إلى جوار الصهاينة، داعمين العدو بالمواقف والمال أيضاً، أو أنها قد أساءت التقدير كلياً، وفي كل شر.
وقد لا يكون عادلاً إهمال حيثيات كلا الفريقين، ففي بعض جوانبها وجاهة لا يمكن التغاضي عنها، ولكن سواء أكانت المقاومة قد وضعت حساباتها جيداً، وتوقن بأن الصهاينة لا يمكنهم في النهاية إلا الخضوع لشروط التفاوض حول هذا العدد الكبير من الأسرى، أو أنها لم تكن تقدر هذا الثمن الكبير لطوفان الأقصى؛ فإننا أمام واقع مؤلم في ظاهره وباطنه: ثمة صمود أسطوري، من جانب يستحق التقدير والمساندة بكل ما يستطيعه المسلم، في مقابله مشهد شديد الإيلام والقسوة، ومعطيات لا يمكن تجاهلها سبق أن أشير إليها في هذه الحلقات، وهي أن النصر لا يمكن تحقيقه تماماً إذا كان العدو يملك القدرة على النكاية وارتكاب المجازر الخسيسة، وأنه يمكن للمقاومة أن تبذل جهداً هائلاً وتقدم على جهاد أسطوري، لكن حاضنتها الشعبية مكشوفة تماماً للعدو، يقتل منها ما شاء متى شاء، ومتى توفرت له الذخيرة والتأييد العالمي. وهو هنا يملك هذا وذاك، خصوصاً أن العالم قد ازداد توحشاً، وكفراً بمبادئه الأساسية، وتنكراً للحريات والحقوق والإنسانية، وقد تقدم في الحلقة الثانية من هذه السلسلة تساؤل: "هل يمكن أن تقود إحدى هذه السيناريوهات إلى جعل الأهداف العظيمة للهجوم (الفلسطيني) الكاسح أقل أهمية مما هو قادم بالنسبة لقطاع غزة نفسه؟ هل تحاول "إسرائيل" استغلال الاحتشاد العالمي معها لتنفيذ "ترانسفير" عبر إجبار أهالي غزة على النزوح لمصر، وبالتالي كسب المعركة في النهاية بعد دفع ثمنها الطبيعي بسقوط هذا العدد من القتلى والجرحى والأسرى من شراذم الكيان الصهيوني فحسب أم أن الحركة قد استدرجت لتنفيذه من قبل طرف ما؟".
هذا السيناريو لم يتحقق بعد، ولن نتجادل طويلاً حول كوننا نقترب منه يوماً بعد يوم أم لا، إذ إن الإجابة على ذلك لا تقود إلى الفهم تحديداً للظروف الضاغطة على شعبنا في غزة، الأهم من السؤال حول ما إذا كان سيناريو الإبادة، والأرض المحروقة، والتهجير كنتيجة، يصار إليه الآن أم لا؟ هو السؤال حول إمكانية ذلك، حول "واقعية" هذا السيناريو.. كواضع لحسابات المخاطرة كما يقول مهندسو الأمان، ومخططو الحروب، لابد أن تدرك ما إذا كانت هذه المخاطر واقعية أم لا.. لابد أن تدرس المحيط جيداً، وقدرات العدو، وقدرات صفك، وحدود المناورات الممكنة. إذا كان هذا قد تم بالفعل؛ فنعمت ما هي هذه العملية وهذا الاجتياح، وإن كان قد استند إلى معطيات خاطئة أو تطمينات إقليمية خادعة، فيا لبؤس النتيجة.
أما ما نراه؛ فمحيط مواتٍ لكل جريمة، وتوحش صهيوني، وغطاء غربي فسيح، في مقابله صمود رائع من أبطال عظماء، نعني أهالي غزة الأشراف، ورباط وجهاد عظيم من مجاهدين انبعثوا مؤمنين بقضية سامية، وقرار ساستهم الذين يثقون بهم. ومن ثم، نرى في الأفق هروباً للأمام من الصهاينة إمام لتحقيق انتقام مريع ثم مبادلة أو السير باتجاه التهجير الجزئي وتدمير الأنفاق عبر مجازر مهولة.. ونكرر ليس المحيط هو من يمنع حصول ذلك، ولكن – بعد إرادة الله – ما يؤجله أو يمنعه كماة مرابطون، وحاضنة شعبية مؤمنة بموعود الله.
ولا شك أن قرار التهجير تؤثر في اتخاذه عوامل أخرى، منها قدرة الأهالي على الصمود، وصلابة المقاومة، وارتفاع وتيرة الرفض الشعبية في دول العالم مع ازدياد تفاعلات التواصل الاجتماعي وخرقه لجدر التعتيم الإعلامية الغربية، وبعض الضغوط الشعبية الداخلية في أكثر من دولة عربية ستتهم أنظمتها بالخيانة مباشرة إن هي تعاطت إيجابياً مع مخطط التهجير.
ولا جرم أن "إسرائيل" تعاني، وأن قادتها في وضع لا يحسدون عليه، واتخاذهم قرار الاجتياح البري مكلف جداً، وقد لا يتحملون أثمانه، ولا ريب أن الولايات المتحدة ليست جاهزة لتعويض النقص في قدرات "إسرائيل" البشرية المدربة، مثلما أكد على ذلك العقيد دوغلاس ماكغريغور مستشار البنتاغون السابق في حوار مع المذيع الشهير تيكر كارلسون، حين أكد أن قوات نخبة أمريكية اقتحمت مع قوات "إسرائيلية" قطاع غزة من أجل تحرير الرهائن، وقعت في كمين فانهزمت مخلفة وراءها أشلاء قتلاها، وقال في تغريدة سابقة إن "القوات المسلحة الأمريكية التي كانت في عام 1991 لم تعد موجودة في الوقت الحالي. لدينا احتياطي ضعيف من الأفراد والكوادر. ولا يستطيع الجيش تجنيد الناس في صفوفه".
ولا شك أن عامل الوقت ليس في صالح الصهاينة ومشروعهم، لا من جانب الاستنفار العسكري الصهيوني أو الغربي المساند، ولا من جانب الاقتصاد وضغوطه، ولا من جانب أهالي الأسرى الغاضبين من قلة اكتراث الحكومة بمصائر ذويهم، ولا من جانب اتساع نطاق الانتقادات الداخلية التي ستتحرر شيئاً فشيئاً من قيود "وحدة الجبهة الداخلية أثناء الحرب" إذا ما طالت الحرب دون تحقيق نتائج حاسمة. وأن الفضائح الإجرامية الصهيو غربية تتكشف يوماً بعد يوم أمام الرأي العام الغربي، وأن ضغوطاً شعبية باتت تمارس على صنّاع القرار الغربي رغم اندفاعهم الأهوج في تأييد الكيان الصهيوني، ولا جدال في أن المقاومة تجسد حالة فريدة من الثبات والصلابة، وتقوم مجموعاتها الفدائية بعمليات تفوق الخيال أحياناً.. وثقة المسلمين فيهم عالية، وروح جهادهم تبلغ عنان السماء.
لاشك في كل هذا، لكن حجم الجريمة بالغ البشاعة؛ فالشهداء حتى الآن تجاوزوا 7 آلاف بينهم 3 آلاف طفل، وحجم تدمير أطنان القنابل الملقاة على غزة جاوز حجم تدمير قنبلة هيروشيما، وثمة حدوداً لممانعة تلك الظروف، وقدرات مهما بلغ مستوى صبرها ستظل مقيدة باحتياجات معيشية ضرورية لا يمكن تجاهلها.
ولربما طالت مرحلة عض الأكباد هذه بين الطرفين حتى ينقشع الغبار عن درس نتعلمه للتاريخ في دقة الحسابات أو طيشها، وفي صحة الإعداد للمعارك المصيرية أو إخفاقه.. نسأل الله العلي القدير ألا تكون الأخيرة، وأن يمنح الله المؤمنين أكتاف الكافرين، وأن تزول تلك المخاوف التي تراودنا منذ بداية الحرب، فإن ما نعاينه بأعيننا مقلق كثيراً. ولا يزعم أحد الآن القدرة على إدراك مغبته، فالحرب غير متوازية، والمفاوضات شاقة ومتعددة، والضغوط هائلة على كلا الطرفين، والحلول ليست جاهزة تماماً، ودونها ميادين صعبة المراس.