الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1446
section banner

"طوفان الأقصى" ذبول الليبرالية وانكسار الديمقراطية

"طوفان الأقصى" ذبول الليبرالية وانكسار الديمقراطية

"I am professor"، كانت أستاذة الاقتصاد بجامعة إيموري، كارولين فوهلين، تستغيث وتصرخ، غير مصدقة أثناء سحلها ورطم رأسها بالأرض من قبل سلطات إنفاذ القانون في ولاية جورجيا، وقبلها زميلتها رئيسة قسم الفلسفة بالكلية، نويل مكافي، في واحدة من عمليات اقتحام وفض مظاهرات واعتصامات الطلاب وأساتذتهم في أكثر من 75 جامعة أمريكية وكندية وأسترالية، بسبب رفضهم للإبادة الجماعية في غزة، ورفضهم خضوع حسابات جامعاتهم الوقفية للوبي الصهيوني، وبالتالي وقف دعمهم وتعاملاتهم مع الكيان الصهيوني، ولوبي الصناعات العسكرية التي تدعم هذا الكيان. (حسابات أكبر 10 جامعات أمريكية الوقفية مجتمعة تمثل أكثر من 250 مليار دولار، تستأثر هارفارد بأكبر حظ فيها بمبلغ يفوق 50 مليار دولار).

مشهد القمع الأمريكي، كواجهة للتعامل الغربي، ثم الألماني والفرنسي وغيرهما كتابع، آسر، وذو معانٍ حضارية واستشرافية بالغة الأهمية، دعونا نسلط ضوءً كاشفاً لعدد منها:

أن ما كان يتحدث عنه مفكرون مسلمون بصوت خافت عن "أفول الليبرالية"، ووجود شواهد قليلة متناثرة عن هذا الأفول، أضحى اليوم  جهورياً جداً، فالمشاهد تتلاحق بشكل مريع، وجنون اللوبي الصهيوني في أمريكا قد صيره وحشاً ضارياً يبطش بكل طالب وأستاذ وصحفي لا يسير على هواه، بصورة فجة موغلة في الصراحة، إلى الحد الذي جعل حساب تعليقات الموساد الموثق على منصة X يكتب هذه العبارة التهديدية الصريحة: "(الذكاء الصناعي) يمكن أن يتعرف على وجهك إذا ما شاركت في الاحتجاجات المؤيدة لحماس في الجامعات. وظائفك وشهاداتك ستكون عديمة القيمة. فرص التوظيف الخاصة بك ستكون محدودة".

لقد بدأت عبارات من قبيل "أنقذوا الديمقراطية الأمريكية"، "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط (إسرائيل) تجرد الدولة الديمقراطية الأكبر (الولايات المتحدة) من ديمقراطيتها"، "نريد أن نحافظ على ديمقراطيتنا"، والعبارة الأخيرة لنائب بالكونغرس الأمريكي أثناء حديثه للمتظاهرين في جامعة تكساس، مؤيداً لمطالبهم، بدأت هذه العبارات تنتشر بشكل واسع، وكثير من الرسومات الرمزية تنتشر تعبيراً عن هذا الإفلاس في الليبرالية، والوحشية التي تتعامل به الشرطة الفيدرالية مع المتظاهرين، وقمعها لحرية التعبير. 

إن هذا الانسفال القيمي الأمريكي ليس هيناً أبداً في الحقيقة، ذاك أن ليس للأمريكيين من قيم يستمسكون بها بعد تراجع التمسك بالدين، والطبيعة المختلطة عرقياً التي تضعفها نوعاً ما، وأي رابطة جامعة تضمن تماسك بنية "الأمة الأمريكية" التي قامت على هذه القيمة الجامعة، أو هذه الليبرالية التي يسيل دمها الآن على مذبح الوحشية والقمع السلطوي المريع. فما معنى أن تنحدر الليبرالية في عقر دارها إلى هذا الوادي السحيق، وما مغزى أن يكفر بها أهلها تدريجياً أو يجد المنخدعون بها أنهم يتعلقون بطواحين الهواء! إنه إفلاس سيعقبه تفكك سياسي وتمزق اجتماعي. 

.............

في الحالة الأمريكية قد نرى تفككاً سياسياً، بدت نيوبه تبرز في نعرات كانت رماداً فظهر وميضها مع دعوات باستقلال تكساس وكاليفورنيا وغيرها، ولم تكن أحداث تكساس ببعيد عن ذلك، وهي أحداث نمت عن اختلافات قيمية تتمثل في التعامل مع الهجرة، ونمو العصبية الطبقية، والأنانية المادية، والهزة الليبرالية. وفي الحالة الأوروبية قد نشهد صراعات بينية مردها تزايد النزعة الاستبدادية الأمنية، وتقييد الحريات لأجل ضبط نمو الإسلام في أوروبا، وبروز المسلمين كأكبر فئة تمارس شعائرها الدينية علناً. والمقصد أن ما تُضطر الحكومات الغربية إلى ممارسته في التصدي لمظاهرات ودعوات الرافضين للإبادة الجماعية في غزة، مراعاة للعلاقات مع الكيان الصهيوني، ورؤوس الأموال اليهودية، واتساقاً مع السياسة الأمريكية والأوروبية التقليدية في ضمان الدور الوظيفي للكيان الصهيوني، يمثل رافداً آخر لتغذية هذا التفكك الداخلي الغربي، بإيجاد انقسام في الرؤى بين التيارات اليمينية المحافظة من جهة، والليبرالية واليسارية (التي انحاز بعضها إلى حقوق الفلسطينيين وإلى جماعات ضغطهم بالتبعية) من جهة أخرى. 

..............

ما يُقرأ في هذا الاضطراب القيمي الحاصل في الغرب على خلفية جرائم الإبادة الجماعية التي تقوم بها "إسرائيل" في غزة، والدفاع المستميت الذي تقوم به الحكومة الأمريكية عنها، معاندة رغبات كثير من الشباب الغربي، الذي عبرت عنه نتائج استطلاع أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفارد وشمل ألفي ناخب أميركي من فئات عمرية مختلفة، وبيّنت أن 51% من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو "إنهاء إسرائيل وتسليمها لحماس والفلسطينيين". وأظهرت أن غالبية الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما وبين 25 و34 عاما يعتقدون أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية في غزة. ويؤيدون بأكثرية كبيرة تبلغ 67% من المستجوبين من هذه الفئة العمرية اتجاهاً للرأي يقول إن "اليهود ظالمون" ويجب أن تتم معاملتهم كذلك – ما يُقرأ من كل هذا – لابد أن يفتح النقاش واسعاً لدى المسلمين، دعاتهم ومفكريهم، عن حاجة البشرية الحائرة لتوسيع دائرة الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين في الغرب، لكونه قد أوشك بالفعل على الوصول إلى نقطة الانحدار القيمي التام، ومن ثم ستخور "مناعته" الدينية، ثم الليبرالية أمام قوة منطق هذا الدين وحججه. هذا يشير بقوة إلى ضرورة إيلاء هذا المسار اهتماماً كبيراً، لاسيما في صعيد ترشيد الدعوة في الغرب، وتزويدها بمنصات دعوية، وأكاديميات متخصصة. 

...............

من جانب آخر، يمس الاشتباك الفكري داخل حياض العالم الإسلامي، بين التيارات الإسلامية والليبرالية، إذ يتعين على من يضطلعون بواجب مقارعة هؤلاء الحجة أن يفيدوا من تلك الأحداث التي كادت أن تبرهن على تهاوي الفكرة الليبرالية، وعدم واقعيتها، وإخفاقها في الموازنة ما بين حماية الحريات الأساسية، والاستجابة لرغبات الممولين الأساسيين للعملية الديمقراطية، وهي العملية التي باتت على قيد رمح من الانكشاف التام كأسلوب زائف يدعي التمثيل الحقيقي للإرادات الشعبية، لكنه في الواقع يقود الجماهير بسحر الإعلام وقوة النفوذ المالي لاختيار من يعبر عن الشركات الكبرى، لا عن الجماهير المخدوعة. إنها إذن واحدة من تجليات هذا المشهد تزداد وضوحاً وانفضاحاً. إن كثير من استطلاعات الرأي تظهر تفوقاً لمؤيدي وقف الإبادة لكن كبريات الديمقراطيات لا تستجيب للإرادة الشعبية، ثم يقود قمع المظاهرات إلى التأكيد على تهافت الليبرالية؛ فكان أن جمعت المصير البائس بين الليبرالية والديمقراطية معاً في مسار أحداث غزة وآلامها. 

..............

وإذا جاء العدوان الصهيوني بهذا التراجع القيمي الغربي في مجال الحقوق الإنسانية لأهله، ولغيره، وفي صعيد الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية السياسية؛ فإن قطاره المنفلت سيجر وراءه عربات كثيرة من الدول التابعة وغير التابعة، ليزداد العالم كله استبداداً وقمعاً، من دون أن يكون للمنظمات الحقوقية – على علاتها وتوجهاتها – أي صدى في العالم كله. وهل يمكن أن تُسأل الصين والهند وروسيا عن استبدادها، أو هل يمكن أن يقال للدول الإسلامية القمعية ماذا تفعلون بشعوبكم المهيضة؟ هل يمكن مثلاً أن يبقى لما يُسمى بالحرم الجامعي أي حرمة في بلاد العرب إذا ما دنسته الشرطة الفيدرالية الأمريكية ونظائرها في أوروبا؟!

....

إن العالم كله يتشكل اليوم من جديد، سواء أكان بمعدل متسارع أم بطيء، لا فرق، المهم أننا نشهد تبدلاً وانفلاتاً من عقال الضمير، ولو كان هذا الضمير صورياً، انكشافاً لقيم ظل زيفها خافياً، واضطراباً في قلب الليبرالية الغربية (أمريكا)، قرأته تل أبيب بصورة لافتة حين دعت إحدى حساباتها الاستخبارية (تعليقات الموساد)، لتطلب من اليهود في أمريكا الهجرة إلى "إسرائيل"، لأن الولايات المتحدة – نعم الولايات المتحدة – لم تعد آمنة لليهود! 

 

إنها ساعة الإسلام، لو كان المسلمون يقرؤونها..