"طوفان الأقصى" سيناريوهات الحرب
الإهانة التي تلقاها جيش الاحتلال الصهيوني، وما ترتب على إهانته من اهتزاز ثقة الصهاينة به، وتفكيرهم في الهجرة، وتحسبهم لانهيار الكيان الغاصب كله، والأسرى التي تمثل عنصراً ضاغطاً على الحكومة الصهيونية، نتائج توحي بأن "إسرائيل" لم تكن على علم كافٍ بالاجتياح، لكن مجرد طرح فكرة الترحيل الجماعي للفلسطينيين، ولو كانت كبالون اختبار بادئ الأمر أو تمهيداً لتنفيذ لاحق، تثير شكوكاً حول توظيف الاجتياح في تنفيذ مخطط شامل ضد غزة سواء أكان ذلك بعد مفاجأة 7 أكتوبر أو كان معلوماً لبعض أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية قبل حصوله.
المشككون لديهم مبرراتهم في كون وجود إيران التي لا يَصدُر منها خير تجاه الأمة الإسلامية في كل ربوعها من ميانمار وتركستان الشرقية، وبلاد الترك والقوقاز، وحتى أدغال إفريقيا، مروراً بقلب العالم الإسلامي، العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، كرقم فاعل في معادلة الحرب بين الفصائل الفلسطينية و"إسرائيل"، وكذا أدواتها كـ"حزب الله" لا يمكن أن تكون سنداً حقيقياً للمقاومة الفلسطينية، وأداة ذبح وحرق وتدمير في سوريا واليمن ولبنان في آن معاً، وأن حلفاً تقوده إيران لا يمكن أن يقود إلا إلى استدراج للفصائل الفلسطينية، وتوظيفها لتحقيق المشروع الإيراني، والمفاوضة بها لا لها، وأن التخادم الإيراني الصهيوني الذي قاد في النهاية إلى إحاطة الكيان الصهيوني بميليشيات شيعية حارسة على أجزاء واسعة من حدود فلسطين التاريخية، لا يمكن أن يقود إلى تحقيق آمال الفلسطينيين في تحرير بلادهم، وإنما إلى جعل الفصائل مجرد ورقة تفاوضية مع الغرب، كلما كبرت وازدادت قوتها كلما صار ثمن احتوائها أغلى ثمناً وأرفع قيمة.
وفي السياق، يقال أن لا مجال للظن بأن طهران لم تكن على علم بهذه العملية رغم نفيها ونفي واشنطن لذلك معاً بشكل مريب! فحركة حماس قد أكدت مراراً وتكراراً على التنسيق مع إيران قبل القيام بعمليات أقل قوة بكثير من هذه، ومن الغفلة الاعتقاد بأن الحركة قد عتمت على قرارها، أو أنها اتخذته باستقلالية تامة، وأن لا مصلحة لإيران في اتخاذ قرار كهذا.
ويترتب على ذلك استنتاج يتلخص في أن الحركة قد سقطت في فخ سيودي بها والقضية كلها لحتفها، وأن تنفيذ ترحيل قسري مدعوم بمجتمع دولي موتور، قد أتيح له التوقيع على بياض للصهاينة بارتكاب عملية إبادة جماعية، سبقها وصف عملية الاجتياح بـ"11 سبتمبر الإسرائيلية"، والتي أمكن لنظيرتها الأمريكية أن تطلق يد القوات الأمريكية لاجتياح بلدين مسلمين، تدميراً واحتلالاً تحت ذرائع وأكاذيب مناظرة لتلك التي سوقها بايدن، كما بوش من قبل، تنفيذ ذلك سيكون نكبة كبيرة جداً للقضية الفلسطينية، ولكل الملفات الفلسطينية لاسيما الأقصى الشريف.
المعترضون على ذلك، لرأيهم وجاهة كذلك، لأن النتائج المترتبة على عملية الاجتياح لا يمكن رأبها داخل المجتمع الصهيوني بسهولة، واحتمال تفجيرها هجرة عكسية واردة جداً، وخيبة أمل المغتصبين في حماية الجيش ستزداد جداً، وسيقود الرعب المستمر من تكرار مثل هذا الاجتياح إلى إحجام المغتصبين عن السكنى في مغتصبات في غلاف غزة، أو سيحتاجون إلى حوافز باهظة للتواجد على تخوم غزة، وربما الضفة، وستقرب فكرة
زوال "إسرائيل" إلى الأذهان أكثر وأكثر، تشجيعاً للفلسطينيين، وإرعاباً للصهاينة، كما أن صفقة تبادل الأسرى لا يمكن إلا أن تتم مهما كابر الأمريكان والصهاينة، وهذا سيفضي إلى تحقيق نصر في جزء من القضية رغم كل الآلام التي ستنجم عن تدمير غزة.
ما حققته مجموعات كوماندوز القسام كبير من دون شك، لكن المؤسف أن قياس النصر رهين بما تقوم به "إسرائيل" على الأرض لا بما تحققه حماس في هذا الخصوص.. علينا أن نعترف بذلك؛ فإذا ما قتلت "إسرائيل" مئات من الغزاويين ربما دمغنا الاقتحام بالنصر، وإن رضخت تل أبيب لصفقة مذلة سيمكننا وصف العملية بذلك، لكن إن قتلت "إسرائيل" عشرة آلاف مثلاً أو هجرت السكان الغزاويين قسراً (وهذا غير مستحيل بالمناسبة)؛ فإن ما حصل سيعد هزيمة كبيرة لحماس، وانكسار كبير للقضية برمتها. هذا لا يمثل في جوهره ردعاً حقيقياً للكيان الصهيوني.
لكن أكان على المقاومة الفلسطينية أن تترك ملف الأقصى الذي لم تعد يدافع عنه سواها، وبقية من المرابطين الصامدين على أعتابه، وقد سيقت البقرات الخمس للذبح إيذاناً بتدشين الهيكل، الذي وضع في نماذج لمدينة القدس بدلاً من الأقصى، في خضم عملية تهويد متسارعة للأقصى وللأحياء الفلسطينية (كحي سلوان) في القدس، تقودها حكومة توصف بأنها الأشد تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني كله؟ أكان لها أن تصمت على توسيع نطاق المغتصبات لتلتهم مزيداً من الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة؟ أم كان لها أن تترك الأسرى في سجون الكيان ليقضوا ما تبقى من حياتهم فيها؟ أم كان لها أن تنتظر مزيداً من خطوات "التطبيع" التي ستتلاشى معها القضية الفلسطينية تماماً؟ أم أن اختيار توقيت "عيد العرش"، وفترات الاسترخاء للقوات الصهيونية لم يكن اختياراً موفقاً؟
كل ذلك مُقدر، ومتفهم، وجدير بالتقدير، غير أن الرافضين لهذا التوسع في العمليات حد الاجتياح لا يعارضونه من حيث المبدأ، ولا أنهم لا يقدرون هذا الجهد الرائع والشجاعة البطولية التي قام بها الشباب المجاهد، ولا أنهم غير سعيدين بالمذلة التي لحقت بالكيان وزلزلت أركانه، إنما يرون أن الظرف غير مواتٍ في الحقيقة لتوسع كهذا، لماذا؟
لأن خطة التهجير جاهزة بالفعل، ويحضر لها منذ مدة طويلة، وقد تمهدت لها سيناء، إفراغاً، وبناءً جديداً، وقد وقعت القاهرة في طائلة "ضغوط" – أو هكذا لنسمها – تتمثل في التحكم في مياهها عبر سد النهضة، واقتصادها عبر صندوق النقد الدولي، والديون التي مثل نظيرتها ضغطاً هائلاً من قبل على السلطان عبد الحميد في اسطنبول قبل أكثر من قرن من الزمان للموافقة على إنشاء الكيان الصهيوني، واستحقاقات الانتخابات، وغير ذلك من الظروف التي تجعل مقاومة التهجير إلى سيناء رخوة بعض الشيء.
لأن ما تحفظت عليه "إسرائيل" من قبل لظروف دولية، شجع على مثله بشار الأسد، الذي مثّل تهجيره لملايين السوريين من بلادهم سابقة يمكن تكرارها دون معاندة جماهيرية كبيرة، وبالتالي؛ فلا توجد فاتورة باهظة ستدفعها "إسرائيل" إن هي أجلَت الغزاويين بالقوة، وتحت القصف السجادي الرعيب الذي لا يمكن بسهولة للأهالي إلا التفكير في النجاة بأرواحهم، وهذا لن يكون معيباً في حينه بالمناسبة إذا ما تقطعت بهم السبل، ومنعوا الماء والغذاء.
أن دول الطوق برمتها، ومن خلفها دول الخليج والمغرب العربي، ليست جاهزة لأي نوع من أنواع الممانعة أو المساندة، وقد بات بعضها قاب قوسين أو أدنى من الانحياز إلى "إسرائيل" علانية، وربما – كما تردد بقوة – تستخدم الطائرات الأمريكية بعض مطاراتها في تنفيذ بعض الهجمات الحارقة.
أن العالم الإسلامي في أشد لحظات وهنه، وضعفه، فحتى دوله البعيدة ذات الكثافة السكانية، كالهند، مسلموها مشغولون بمصائبهم المحلية الكبيرة، وبالاضطهاد الرهيب، وبممانعة الحكومة الهندية المتطرفة لأي شكل من أشكال المعارضة والتظاهر ضد "إسرائيل"، والسلوك ذاته ينسحب على بلاد الأقليات المسلمة في العالم، لاسيما أوروبا التي تناهض أي محاولة لمعارضة الإبادة الجماعية التي تقوم بها "إسرائيل" في غزة.
حماس قد بنت تصوراتها على عدم قدرة "إسرائيل" على القيام بجريمة كبرى كالإبادة الجماعية الكاملة المفضية إلى التهجير إلى سيناء، وبهذا صرح بعض قادتها، ومنهم حسام بدران، الذي أكد في مساحة حوارية في موقع اكس على أن "التهجير مستبعد"، واستند إلى الصمود المتوقع للشعب الفلسطيني وعدم استجابته لدعاوى التهجير. البعض كذلك يرى أن القاهرة ستقاوم ذلك بشدة لأنها لا تريد إيجاد مشكلة أمنية كبيرة في سيناء باستقدام الحمساويين، ربما تسللت روحهم إلى العمق المصري، وأن قبولاً بهذا سيجد معارضة شعبية
غير مسبوقة ربما تضاءل معها مكسب إسقاط الديون المصرية الذي تلوح به بعض الأطراف الصهيونية.
والمطمئنون إلى فشل هذا السيناريو يتداولون مقاطع وأقوالاً للغزاويين توضح وعيهم لذلك، ورفضهم له تماماً، واستعدادهم للموت فوق تراب غزة هاشم فداء لقناعاتهم، ويشددون على أن هؤلاء ليسوا قطيعاً ليساق هنا أو هناك، على أن وطأة القصف في الحقيقة ليست هينة، وثَمة حدود قصوى لتحملها لا ينبغي التعويل على أنها لا متناهية.
تبدو السيناريوهات معروفة في الحقيقة:
قصف شديد يتبعه تفاوض.
نتيجته المتوقعة: تحقيق بعض أهداف الفصائل الفلسطينية الحيوية، وانهيار حكومة نتنياهو، وتراجع اليمين الصهيوني مؤقتاً (ليس دائماً لأن الكفة السكانية تميل لصالحه نظراً لتراجع مواليد العلمانيين وازديادها لدى الحريديم المتدينين)، وازدياد الهجرة العكسية، وزيادة تفكك بُنى الكيان الصهيوني، وانزلاقه إلى طريق الزوال. وزيادة شعبية حركة حماس وتسيدها المشهد الفلسطيني.
قصف شديد يتبعه اجتياح بري.
نتيجته المتوقعة: إحداث نكاية في الطرفين، وتحقيق بعض الأهداف التكتيكية الصهيونية، وانهيار الحكومة الصهيونية. (مع بعض النتائج السابقة)
إبادة جماعية تفضي إلى تهجير: إما جزئي أو كلي: وفي الحالين سيُعد ذلك بمثابة نكبة للمسلمين، ولجم المقاومة الفلسطينية تماماً.
وفيما يُرى الآن: أن السيناريو الآن بات أبعد الاحتمالات، والثالث هدف سيُسعى إلى تحقيقه، وقد تمنع الظروف تحقيقه والاكتفاء بالسيناريو الثاني، إذ إن مسألة التهجير صارت تطرح نفسها بقوة، وهي بدت ككرة ثلج تكبر كل يوم، وقد صار التلويح بها رسمياً الآن من داخل الكيان، الذي بدأ بتوجيه الغزاويين عبر بياناته نحو جنوب غزة تمهيداً لسيناريو التهجير.
الفصائل، ومن خلفها الغزاويون جميعاً، واعون للمخطط الإجرامي الصهيوني، المدعوم من الولايات المتحدة وأوروبا، ودول عربية تستعد لتمويل الجريمة وتهيئة المناخ لاقترافها، ويتوقع أن يقاوم الفلسطينيون ذلك بكل ما يستطيعون، برغم الخذلان الأكبر من إيران التي حفزت ثم تخلت، ومن النظم العربية التي تخندق بعضها في خنادق وملاجئ الصهاينة.
هذا المكر الكبّار الذي يُدبر، وأمر الله كلمح البصر.