"طوفان الأقصى" "لقطة" الحوثيين.. و"حارس الدمار"
كان المشهد الذي بثته قناة المسيرة الحوثية لعملية الاستيلاء على سفينة "غالاكسي ليدر" قبل شهر من الآن مثيراً للغرابة بعض الشيء؛ فقد ظهرت فيه فرقة كوماندوز محمولة جواً لميليشيات الحوثي، وهي تهبط على ظهر سفينة بملابس عسكرية أنيقة جداً، وبتصوير فائق الدقة، ومن كافة الزوايا من الجهات الأربع، والأعلى والأسفل ، وبأسلوب يبدو هيوليودياً أكثر منه عملية إنزال حقيقية، حيث لم يبدُ أيا من طاقم السفينة موجوداً على ظهر السفينة أو مختبئاً حين اقتحم المهاجمون قمرة القيادة.
اللافت ليس في هذا المشهد فحسب، بل في إعادة تكراره يومياً في الفضائيات العالمية والعربية، كلما أعيد الحديث عن "هجمات الحوثيين" ضد سفن تابعة للكيان الصهيوني أو لملاك يهود أو تمضي في الطريق إلى فلسطين المحتلة.
ما تقدم، لا يدفع باتجاه نفي حدوث عمليات قام بها الحوثيين ضد أهداف بحرية من الأساس؛ فلاشك أن تهديداً حاصل الآن للملاحة البحرية في البحر الأحمر، وإنما سِيق لمحاولة ملاحقة مغزى تدفق أنباء على النحو التالي:
موقع أكسيوس ذكر أن حركة التجارة في ميناء إيلات توقفت بشكل شبه كامل.
إذاعة جيش العدو عن مدير ميناء إيلات: نحو 85% من إيرادات الميناء تأتي من استيراد المركبات وتهديدات الحوثيين منعت وصول سفن تحمل 14 ألف مركبة منذ 15 نوفمبر.
صحيفة واشنطن بوست قالت إن بعض السفن المرتبطة بـ"إسرائيل" أصبحت تتخذ الطريق الأطول حول إفريقيا.
تايمز أوف إسرائيل قالت إن تكاليف التأمين لأصحاب السفن "الإسرائيلية" زادت بنسبة 250% وبعض شركات التأمين لن تغطيها على الإطلاق.
إسرائيل هيوم تقول إن شركة الشحن زيم التابعة للاحتلال تعلن رفع سعر نقل الحاوية من 100 إلى 400 دولار، بسبب تهديدات الحوثيين.
في لحظة كتابة هذه السطور لم تكن تمر في البحر الأحمر سوى سفينة واحدة فقط.
تمثل شركات شحن الحاويات التي أوقفت حتى الآن العبور مؤقتًا عبر المنطقة 95% من إجمالي قدرة النقل المنتشرة عبر قناة السويس، وفقًا لشركة كلاركسون لخدمات الأبحاث المحدودة، وهي وحدة تابعة لأكبر وسيط سفن في العالم.
12% من التجارة الدولية تمر من قناة السويس بحسب إيكونيميست.
في "طوفان الأقصى" حاولت "إسرائيل"، والولايات المتحدة، وإعلامهما المهيمن على مليارات البشر أن يخلص إلى نتيجة خارج المنطق: "منظمة إرهابية اختطفت مدنيين إسرائيليين آمنين؛ فلابد من الدفاع عن النفس! حسناً، وكيف يصير هذا؟ بتهجير مليوني إنسان، ودفن الأهالي تحت الرمال بعد دهسهم بالجرافات، وترك الأطفال الخدج دون هواء!".
في جنوب البحر الأحمر: ميليشيا تحكم بلداً لا يعترف العالم بها، تهدد تجارة "إسرائيل" البحرية، ثم تجارة العالم.. بدلاً من توجيه ضربات عسكرية لها، وإعلانها منظمة إرهابية، تعقد الولايات المتحدة سلسلة من المشاورات مع "الشركاء" من أجل وضع حد لهذا التهور الحوثي! وتمتنع "إسرائيل" حتى الآن عن توجيه رصاصة واحدة لتلك الميليشيا التي لا تتمتع بأي حصانة دولية. ثم تنحى الدول الكبرى ذات الأساطيل العملاقة للحل الأبعد: تشكيل تحالف للحراسة بدلاً من ردع الحوثي في خمس دقائق، وإجباره على الكف عن عملياته، وبالطبع بدلاً من الحل المنطقي: الحوثي أعلن حظره للسفن "الإسرائيلية" وفرضه الحصار على باب المندب وأنه لن يصل لميناء إيلات شيء ما لم تصل الإغاثة لغزة، والسؤال هو ما المانع في إرسال الغذاء للأهالي بدلاً من إنشاء تحالف من 43 دولة باسم "حراس الازدهار" لحماية السفن.
لكن دعونا من المنطق؛ فهو غائب الآن في صعيد السياسة العالمية الظالم وإعلامها الغوغائي، ولنلتفت إلى ما هو أخطر في هذه المسألة، فنحن أمام مشهد ذي دلالات خطيرة:
الحوثي يشن هجمات ويرغي ويزبد، والتصريحات الأمريكية والبريطانية تدور حول معانٍ ثلاث:
الأول" أن هجمات الحوثي "غير مقبولة"، و"متهورة"، و"غير مشروعة"، و"يجب أن تتوقف"، وتمثل "مشكلة"، و"تهدد التجارة الحرة"، "قد ترفع أسعار النفط"، هكذا وردت تلك التعبيرات على لسان الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي، ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، ووزير الدفاع البريطاني جرانت شابس. وهي تعبيرات تجنبت تهديد الحوثيين، أو الحديث عن عملية عسكرية تستهدف مقرات الحوثيين.
الثاني: ضرورة تشكيل تحالف دولي لحماية السفن من دون تعريف حقيقي لمهامه، واتخاذ مسمى غامض نسبياً له لا يشير إلى أي معنى عسكري، بل أمني/اقتصادي محض (حراس الازدهار).
الثالث: التغاضي عن وصم الحوثيين بالإرهاب رغم أن جميع الأهداف "مدنية"، وتجنب وصفهم بالتنظيم أو الميليشيا غير الشرعية، غير المعترف بها دولياً، وبالتالي البناء على ذلك من نعت ما تقوم به بالقرصنة ونحوه، وتمهيد الطريق لإطاحتها أو "تدميرها" مثلما يشدد عليه عند الحديث عن منظمة مماثلة تمارس "النوع نفسه من الإرهاب" (في التقويم الصهيوني والغربي)، وهي حركة حماس.
حسناً، وما الجديد في ذلك؟ أوليست الولايات المتحدة هي التي مهدت الطريق لحكم الحوثي لليمن، بمنع الجيش اليمني من المقاومة، ودفعه إلى الاستسلام في معركة كانت لصالحه يوم سقوط صنعاء في العام 2014م، وتساقطت فرق الجيش اليمني كأوراق الخريف في سبتمبر من هذا العام في واحدة من كبريات أحداث الخيانة في العالم العربي، التي تمت بإرادة أمريكية/إيرانية وتورطت فيها دول خليجية كذلك؟
أوليست هي الولايات المتحدة هي التي أجهضت عملية "عاصفة الحزم" في العام 2015م، وامتنعت عن تزويد التحالف العربي ضد الحوثيين بإحداثيات صحيحة، ولوحت بملاحقة الحكومة اليمنية وحلفائها بدلاً من مقاضاة الحوثيين لارتكابهم جرائم حرب، وأخرى ضد الإنسانية؟ أوليست هي من حالت دون تمكن التحالف العربي من السيطرة على ميناء الحديدة في العام 2018م، وأيدت إضفاء نوع من الشرعية على حكم الحوثيين، ثم إقامة سلام يمنح الحوثيين أكتاف اليمنيين فيما بعد؟
ثم..
أليس وزير الدفاع الأمريكي الجنرال أوستن، الذي عقد اجتماعاً افتراضياً مع وزراء وممثلي جيوش 43 دولة لإعلامهم بإنشاء تحالف لا يضم أحداً من الدول المشاطئة للبحر الأحمر، هو نفسه الذي سبق له في أن رفض تدخل السعودية ضد المليشيا الحوثية وانقلابها في العام 2015م، وكان آنذاك قائداً للقيادة المركزية الأمريكية، وأقر مساعدوه بأنه كان يدعم الحوثيين "بهدوء" في "الحرب على الارهاب"، بحسب فورين بوليسي؟
بلى، بيد أن الأهم لم يأتِ بعد:
إن ما يأتي تحديداً من الحوثي، وإيران، وردود الفعل الأمريكية و"الإسرائيلية"، ثم العالمية هو بعيد كل البعد عن التأثير في الحرب الدائرة في غزة وبعيدة عن لجم العدوان الصهيوني بشكل مباشر، ذاك أن ما قامت به قوات الحوثي لا يعدو كونه قد انحصر في هجمات صاروخية ومسيرات استهدفت الكيان الصهيوني، لكنها أخفقت في الوصول إلى أهدافها على النحو الذي كشف عن مثله ترامب في حملته الدعائية الحالية، حين علّق على قصف الإيرانيين لقاعدة أمريكية كرد على قتل قاسم سليماني، بقوله: "اتصل بنا الإيرانيون قالوا، وقالوا ليس لنا خيار، وعلينا أن نضربكم، لأننا نحترم أنفسنا، وفهمتهم لأننا ضربناهم، وقالوا سنضرب 18 صاروخاً على إحدى قواعدكم العسكرية، وأنتم تتذكرون تلك الليلة، كانت ليلة مثيرة للاهتمام، وكنت الوحيد الذي لم يكن متوتراً، لأنني كنت أعرف ماذا سيحصل، أخبرونا ألا نقلق: سنطلق 18 صاروخاً لكنها لن تصل إلى قواعدكم، إنها صواريخ دقيقة، صواريخ لا تخطئ الهدف". أما ما يتعلق بتهديدات الحوثي البحرية؛ فإنها مؤثرة بالفعل ظرفياً، لكن ليس على "الإسرائيليين" بصورة مباشرة.
اللافت حقيقة، أن تجارة "إسرائيل" البحرية لا يمر منها عبر ميناء الجنوبي لفلسطين المحتلة سوى 3.5% من تجارة الكيان البحرية، وأن 96.5% تقريباً من تجارته تمر عبر مينائي حيفا وأسدود على البحر المتوسط، وفقاً للمصادر "الإسرائيلية" الرسمية، وبالتالي؛ فإن كل ما يفعله الحوثيون في هذا الصدد، هو ما تقدم أعلاه محض "مغامرة محسوبة"، لا تغضب الحلفاء الغربيين كثيراً، لكنها تحقق لهم عدة أهداف:
بروزهم كقوة مؤثرة في الإقليم، بما يمهد لها الطريق لنيل "الشرعية" في المفاوضات القادمة.
محاولتهم لتبييض وجهوههم في الداخل اليمني، والظهور كقوة غير طائفية بعد أن تورطتوا بجرائم كثيرة ضد السنة وعلمائهم على مدى الأعوام العشرة الماضية.
محاولة ميليشيا الحوثي القفز على المشاكل الداخلية التي تورطت فيها بإفقار اليمنيين، وتسببها في أزمات اقتصادية واجتماعية كثيرة لا يخرجها منها إلا بتصدير الأزمة للخارج، والعودة إلى مربع "الموت لأمريكا الموت لإسرائيل"، التي استقت منه "شرعيتها الثورية" أول مرة.
مد ذراع قواتها التأثيري نحو باب المندب، رغم عدم سيطرتها عليه ولا على ميناء المخا (يسيطر عليهما طارق عبدالله صالح ابن شقيق الرئيس اليمني الراحل، والمدعوم من الإمارات)، وفرض نفسها على معادلة أمن البحر الأحمر القادمة، كلاعب يمكنه أن يمثل تهديداً في حال أخرج من معادلتها.
أما بالنسبة لإيران، وغني عن البيان أنها ضالعة في توجيه الحوثيين للقيام بتلك "المغامرة"، فعمليات الحوثيين تمثل لها بوابة للعودة للإقليم بوجه غير طائفي، مساند لأكثر القضايا جماهيرية وتأثيراً لدى المسلمين (الأقصى وفلسطين)، بعد أن احترقت بوابة "حزب الله" تماماً، ولم يعد لها أي أثر يذكر في هذا الصدد بعد تورط الحزب مراراً في ارتكاب مجازر ضد المسلمين في سوريا والعراق ولبنان وحتى اليمن، وتلوث سمعته تماماً بتورطه في زراعة وتجارة وحماية المخدرات، ودوره المشين في إفلاس لبنان. ثم هو فرض لها كلاعبة مهمة في الإقليم كذلك، وفي واحد من أهم مضايق الملاحة البحرية في العالم.
الأخطر قد يأتي مع رغبة الولايات المتحدة و"إسرائيل" في إشراف مباشر أو شبه مباشر على أمن البحر الأحمر، وإقامة قاعدة عسكرية مطلة على المضيق في حده الشرقي، مثلما فعلت أكثر من دولة ذلك في جيبوتي، غرب المضيق، ويبدو أن جهات يمنية كقوات طارق صالح (التي اتخذت عدة مسميات سابقة ولاحقة، منها القوات المشتركة، وحراس الجمهورية، وقوات المقاومة الوطنية، وقوات العمالقة)، الممولة من الإمارات، والتي تتحرك تحت غطائها العسكري، قد عرضت تعاوناً أكبر مع الولايات المتحدة وربما "إسرائيل" في هذا الخصوص.
....
تهديد الحوثي للملاحة البحرية، لم يزعج "إسرائيل" كثيراً إلا بقدر تحفيز بعض الدول الأوروبية المتضررة من وقف الملاحة في البحر الأحمر تقريباً أو توجيهها إلى رأس الرجاء، بما يحمله ذلك من تكاليف باهظة، تكبدتها الآن شركات ملاحة عديدة حولت العشرات وربما المئات من السفن باتجاه هذا الطريق الذي يزيد طول الرحلة البحرية بمقدار ما بين 18-30 يوماً حول إفريقيا، تحفيزها للضغط على "إسرائيل" قليلاً من أجل وقف العدوان.
تهديد الحوثي يحرج كافة الدول العربية، ويقزمها أكثر مما بلغته قيمتها في سوق السياسة العالمية، والمفارقة أن عمليات الحوثي قد أضرت مصر بأضعاف ما أضرت به "إسرائيل"، ولا غرابة في تلك المفارقة، فعادة ما تسفر عنتريات إيران عن أضرار بالغة بالشعوب السنية حتى لو غلفتها بحافظة مقاوِمة!