"طوفان الأقصى" لماذا لم ينسحب الصهاينة؟
في خضم المعارك الضارية الدائرة في غزة، يمني كثيرون أنفسهم بلجوء الجيش الصهيوني إلى التراجع السريع، واضطراره للانسحاب على وقع ضربات المقاومة الموجعة، لما يعرفونه عن جنوده من خور وجبن وحب للدنيا شديد، ويعجبون من بعد حين لا يجدون أن أمانيهم قد وجدت طريقها للتحقيق، اللهم إلا في تقديرات عسكرية عربية وصهيونية وعالمية، ثم في تراجعات تحدث أحياناً، واستبدالات لوحدات وقطعات عسكرية.
وبعض العجب يزول حين يُعلم أن الجيش الصهيوني لم يزل يهرب إلى الأمام، وقبله رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، الذي يراهن على الانتصار في الحرب لينقذ مستقبله السياسي والاجتماعي، فالنظام الصهيوني يؤسس قراره بالاستمرار في الحرب على قواعد رئيسة، أهمها:
أن المعركة الحالية هي معركة وجود للكيان الصهيوني، وللمشروع الصهيوني برمته، لا من حيث انهياره التالي وتهاوي "دولته" مباشرة، فذاك أمر يصعب تصوره مع وجود أسباب قوية لبقاء "إسرائيل" لأعوام قادمات، لكن من حيث بدء أفول المشروع على النحو الذي بعد المعارك الكبرى لدول عظمى، كانت هزائمها القاسية معجلة بهرم الدولة وأفولها: يدرك صناع القرار في الكيان الصهيوني أن الهزيمة تعني:
العد العكسي لدور "إسرائيل" الوظيفي في المنطقة، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.
تزايد معدلات هجرة المغتصبين في غلاف غزة والضفة إلى الخارج، وبقاء من غادروا مؤقتاً وقت الحرب خارج حدود فلسطين.
ضياع هيبة الجيش الصهيوني، والفشل التام في ترميم صورته الواهنة.
العودة التدريجية للمناخ السائد في أوروبا قبل تأسيس المشروع الصهيوني، أي ذاك المتمثل في كراهية اليهود وما يُسمى حينها بموجات "معاداة السامية" التي انتشرت في القرن السابقة لوعد بلفور، واستند إليها لاحقاً في تأسيس الكيان الصهيوني.
زيادة الانقسام في "المجتمع الصهيوني"، وتصاعد حظوظ الراغبين في دفع فاتورة للفلسطينيين من أجل البقاء بشكل آمن ومستقر داخل حدود 48. ولاشك أن نتنياهو ينافح عن مستقبله السياسي، وعن خياراته الاستراتيجية، ولكن من فرط المبالغة أن يُعتقد أن القرار الصهيوني رهين أحلام نتنياهو وحدها، فما يخشاه الرجل شخصياً، يخشاه قادة حكومته "وطنياً"، إذ إن الهزيمة، ستعنى تراجعاً للتيار اليميني المتطرف، والأحزاب الدينية الصهيونية، وصعوداً للأقلية اليسارية، بما سيفكك عرى النظام السياسي شيئاً فشيئاً (يزداد النمو السكاني بين المتدينين، وينخفض لدى العلمانيين، وكفة الأولين راجحة الآن، وأي اختلال في الخريطة السياسية بسبب الإخفاق العسكري سيشل أركان الدولة تدريجياً، وهو ما يخشاه الائتلاف الحاكم بشدة).
أن الجيش الصهيوني قد دفع فاتورة باهظة لتحقيق ما أحجم طويلاً عن تحقيقه، وهو اجتياح غزة، والبقاء فيها بألوية مدرعات كبيرة، وتقدير قادته تفضي إلى أنه رغم الخسائر، ورغم عدم ثبات أقدام المحتلين الغارقة في رمال غزة المتحركة، إلا أن الوصول إلى قلب غزة القطاع والمدينة يُعد مكسباً لا يمكن التراجع عنه بسهولة، وإن أحد هدفي الحرب الأساسيين، تدمير حماس أو تهجير أهل غزة أو كليهما، لم يزلا في حيز الممكن تحقيقه، ومن الخطأ التراجع بعد كل هذا الإنجاز على الأرض.
أن أي انسحاب بسبب هجمات القسام، يعني تلقائياً ارتفاع شعبية حركة حماس في القطاع والضفة والقدس، ثم في العالم الإسلامي كله. وأن هذا النجاح لمشروع المقاومة سيشجع كثيراً على محاكاته في بقع إسلامية أخرى، وسيعود النطق بلفظ "الجهاد" غير مدان في العالم الإسلامي وبين شبابه. إن أحد أهم أسباب القمع الزائد لأي تجربة إسلامية، سياسية أكانت أم عسكرية أم اجتماعية، في العالم، هو الخشية من وضعها كأيقونة يمكن استنساخها في أماكن أخرى، وهذا مفضٍ إلى ازدياد قوة المسلمين بصورة متسارعة، على النحو الذي حصل قبل التمكن من وضع العملاق الإسلامي في الأسر على مدى قرنين مضيا. هذا غير مسموح به، لا "إسرائيلياً"، ولا أمريكياً، ولا أوروبياً، ولا حتى بالمناسبة صينياً أو روسياً أو هندياً.. الخ.
....
كذلك؛ فبعض العجب يزول عند النظر إلى طبيعة المعركة؛ فصحيح أن خسائر الكيان الصهيوني فادحة في الأرواح والآليات، لكنه ليس بالدرجة ذاتها التي تتركها انطباعات بيانات ومقاطع المقاومة الفلسطينية، وغني عن البيان أن المقاومة تبدو إلى حد كبير دقيقة في بياناتها وبالطبع مقاطعها المرئية، غير أن إصابة الآليات لا يعني تلقائياً عطبها تماماً، ولا مقتل وإصابة جميع من فيها، وهذا أيضاً ينسحب على استهداف الجنود الذين ينجو منهم من بين المستهدفين في تفجير البيوت ونحوها؛ فأسلحة المقاومة ليست شديدة التفجير، كما أن المهاجمين لا يمكنهم استهداف كل المترجلين في آن واحد، ولا استهداف كل آليات الأفواج دفعة واحدة لضعف الإمكانات نسبياً مقارنة بقنابل وصواريخ العدو، وبالتالي؛ فإن البيانات بالفعل صحيحة، والخسائر فادحة، لكن ليس بالقدر الذي يعجز "إسرائيل" تماماً، ويمنعها فوراً من مواصلة قتالها، واتخاذ قرار فوري بالانسحاب، ومن ثَم إعلان الهزيمة الضمنية في معركة مصيرية كتلك.
وعليه؛ فإن حسابات المخاطرة الصهيونية تدفعها إلى القبول بالاستمرار في الحرب وليس وقفها فوراً بعد مضي ما يقارب ثلاثة أشهر على بدء الطوفان، ظناً من قادتها العسكريين أن النصر سيكون حليفهم، ولو كان في شكل تحقيق بعض الأهداف التكتيكية للحرب، ومنها إضعاف كتائب القسام، ما دام الإجهاز عليها لم يعد واقعياً، أو فتح باب جزئي للتهجير، ولو لم يكن شاملاً، ومنها بكل تأكيد، كحد أدنى: الانتقام من منفذي عملية 7 أكتوبر وحاضنتهم الشعبية، لكبح شهيتهم أو شهية خلفائهم في تنفيذ عمليات مماثلة، وتلقينهم ومن خلفهم درساً قاسياً يعرفهم الأثمان الفادحة الواجب دفعها إن فكروا من جديد بالهجوم على ثكنات الصهاينة، ومنها كحد أدنى كذلك، ترميم صورة الجيش الصهيوني المهلهلة، وتمهيد الطريق لمواصلة مشاريع "التطبيع" مع الدول العربية، واستئناف المشاريع الاقتصادية التي ستقود من خلالها "إسرائيل" المنطقة العربية.
....
وبعض العجب يزول، مع إدراك أن من يخوض الحرب مقابل حماس وحليفتها، الجهاد الإسلامي، إنما هي الولايات المتحدة الأمريكية في واقع الأمر، ولا تمثل "إسرائيل" إلا رأس حربة في هذه الحرب؛ فالموقف الأمريكي الحقيقي، هو ما باح به الرئيس الأمريكي جو بايدن في أعقاب عملية 7 أكتوبر، وهو لم يحد عنه قيد أنملة، وإنما اقتادته الظروف الداخلية الشعبية إلا التدثر ببعض التصريحات الخجولة حول تخفيف استهداف المدنيين، وضرورة إمضاء الهدن. والموقف الأمريكي الحقيقي هو ما يعبر عنه الجسر العسكري، وتدفق الأسلحة الأمريكية بآلاف الأطنان حاصدة باستخدامها أرواح نحو 25 ألف غزاوي، ومصيبة نحو ثلاثة أضعافهم. (حوالي 40-45٪ من القنابل جو-أرض التي استخدمتها "إسرائيل" والبالغ عددها 29 ألف قنبلة كانت غير موجهة، وكل القنابل تقريباً كانت أمريكية الصنع، والغرض كان الانتقام وقتل غير اليهود)
إنها معركة الولايات المتحدة بالأصالة، وهي تخوضها ليس ضد غزة، بل ضد الإسلام نفسه، وفقاً للدور الذي اختطته لنفسها منذ وثبت إلى المنطقة الإسلامية قبل نحو قرن مواصلة حرباً صليبية أوروبية، أصبغتها بلونها البروتستانتي الأصولي الموالي للصهيونية. فكما أن "إسرائيل" تجد تثاقلاً شديداً عن إنهاء معركة المصير دون إنجاز بعض مما وعدت به؛ فإن الولايات المتحدة تجد غضاضة كبيرة في حدوث ذلك بالنظر لما قد يترتب عليه من إحياء الجهاد في العالم، انطلاقاً من البؤرة الغزاوية.
....
مع ذلك؛ فإن العجب لا يزول بعد كل ما تقدم، من هذا العناد الصهيوني، ففاتورة الحرب عالية جداً، وكل يوم هناك خسائر بشرية فادحة في جيش، قال عنه قائد حرب أكتوبر، الجنرال سعد الدين الشاذلي، أن نقطتي ضعفه تتلخص في حساسيته للخسائر البشرية نظراً لصغر تعداد الكيان الصهيوني نفسه، وطول أمد الحرب الذي يؤثر على الاقتصاد الداخلي بسبب شل استدعاء الاحتياط للزراعة والصناعة والسياحة، لكن ما يحد من تأثير هذا وذاك: قوة الاقتصاد اليهودي عالمياً، ومساندة بعض الدول الإسلامية من جهة، وطبيعة تركيب الجيش الصهيوني الآن بخلاف سابقه في زمن حرب أكتوبر.
إن أبرز أسباب "صمود" الجيش الصهيوني لحد الآن، وعدم اندفاعه نحو الحدود مع القطاع منهزماً تماماً، رغم الخسائر الفادحة، هو أن كثيراً من عناصره الموجودة في غزة، ليست من "دم صهيوني نبيل"! (لو جاز التعبير)، وهذا موضوع يستأهل الحديث عنه في حلقة أخرى قادمة، من "طوفان الأقصى" بمشيئة الله تعالى.