الأحد ، 11 ذو القعدة ، 1445
section banner

"طوفان الأقصى" مائة يوم على المعركة.. أين يقف الحاضرون؟

"طوفان الأقصى" مائة يوم على المعركة.. أين يقف الحاضرون؟

لو أن هناك جيش لبلد مسلم يمكن أن يتقي به الصهاينة ضربات المقاومة الفلسطينية من دون أن ينشق وينضم معظمه أو بعضه للمقاومة لأسرعت الولايات المتحدة و"إسرائيل" بجلبه للتترس به؛ فقد جرّبت هذه الطريقة ونفعت في كثير من نقاط التماس مع المقاومات الإسلامية في العالم منذ ثلاثة قرون، ادّرعت فيها جيوش الاحتلال خلف الجيش التي يقودها خدامها أو "حلفاؤها"، واتخذت القلاع والقواعد الحصينة مقاراً لها تدير منها العمليات من خلف الجدر. 

ولو أن عشائر غزة قد قبلت العرض لحكم غزة وبناء شرطتها الجديدة أو ميليشياتها المعادية للمقاومة لما تأخرت "إسرائيل" في تنفيذ عرضها التي قدمته عبر وسطاء إليها لإجراء عملية إحلال كتلك التي نفذتها أمريكا وبريطانيا من قبل في العراق وأفغانستان وكثير من البلدان، ومثلها فعلت "الدول الاستعمارية" على مدى تلك القرون. 

ولو أن كتائب القسام لم تتمكن في العام 2007م من طرد محمد دحلان وعصاباته، لكان الآن يقيد يد المقاومة، ويحول بينها واستهداف الآليات والوحدات الراجلة الصهيونية. فتلك وسيلة مجربة ناجعة في كل مكان مشابه. 

ولو أن الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، لم يطلق حملته الواعية لتصفية الخونة والعملاء قبل أن يشتد عود المقاومة وتركز على العدو الصهيوني، وتجند نفسها لهذا الهدف لفترة طويلة خلال الانتفاضة، لربما كان العملاء والجواسيس يدخلون ويخرجون من الأنفاق، ويضعون فيها الشرائح والصبغات الموجهة لاستهدافها مباشرة، ويدلون على عورات المجاهدين، ولما كانت "إسرائيل" قد دفعت هذا الثمن الباهظ من أجل أن ينقب جنودها بأنفسهم عنها. 

ولو كانت المقاومة هزيلة، لتقاطر عليها المرتزقة بمئات الآلاف على نحو يفوق هذا العدد القليل نسبياً منهم الآن، رجاء تحصيل آلاف الدولار في نزهة حربية كتلك التي يعاينوها في بعض البلدان الخائرة. 

ولو أن الدعايات الصهيونية والغربية كانت قمينة بحجب الحقيقة عن العالم، لربما كان ممكناً ألا تترك "إسرائيل" وحدها يقاتل جنودها، ويُصطادون من مسافة صفر داخل غزة دون سند بشري فعال، ولأبرم تحالف دولي يتدخل لصالحها في الحرب على نحو لم يستبعده قادة كبار الدول الغربية حينما أرسلوا حاملات طائراتهم، وحفزوا جنودهم في قواعد أمريكية وبريطانية وفرنسية في دول عربية مجاورة لاحتمال التدخل تحت أي ذريعة كانت. لقد خشيت تلك الدول بالفعل أن تبعث بأي جندي لها للمساهمة في تثبيت مشروعها "الاستعماري" في المنطقة (إسرائيل)، واكتفت تلك الدول بالدعم المالي والعسكري واللوجيستي من دون إرسال العناصر البشرية المقاتلة، لأن خسائرها حالَئذ كانت لتسقط أي حكومة غربية في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. 

ولو أن المقاومة لم تكن تصنع معظم سلاحها (كما أكد على ذلك أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام مؤخراً)، وكانت معتمدة كلياً على الخارج في السلاح والذخيرة لأمكن لي ذراعها عن طريق الضغط على الموردين.

ولو أن المقاومة لم تكن قد اتخذت أنفاقاً تقيها القصف السادي الهائل على القطاع لاستسلمت في أول لحظة أو فنيت تماماً.

تلك فرادة الحالة المقاومة في غزة، التي جعلت من صمود شعبها، وجهاد مقاومتها أسطورة حُق للمسلمين أن يربوا أبناءهم على تنسم عظمتها، واستلهام بطولتها، واستبصار كراماتها. 

وتلك فرادتها في كونها صارت عصية على الكسر على الأقل خلال هذه المدة الطويلة جداً من التدمير والقصف والإحراق والمذابح، وفرادتها في عجز أعدائها على استخدام أي من الأدوات السابقة التي لم تنتصر ما تُسمى بالقوى الاستعمارية أو الكبرى الآن، إلا من خلالها.

مائة يوم مضت، وغزة تقاوم مشروعاً صهيونياً لا ينقصه المال ولا العتاد ولا الحماية الدولية والقانونية ولا الإعلام، مائة يوم لو أن غيرها عاينت معشاره لانهارت تماماً ولما أمكنها الصمود لأيام بل لساعات.

وهذه السطور ما كُتبت لتمدح المقاومة، وتعدد مناقبها، ولا لتحاكمها على القرار الذي اتخذته لتنفيذ "طوفان الأقصى"، فهذا ليس مجاله الآن، والنقد فيه مباح، لا بل ضروري، حين تضع الحرب أوزارها، والبحث في سوق المكاسب والخسائر لم يحن وقته بعد، فتلك مسألة بالغة الأهمية لكن ليس هنا مجالها.

إنما المجال الذي يمكن أن يدار حوله الآن، عن تقويم اللحظة، واستشراف المستقبل، واستخلاص العبر، ولن نفيض في هذا أو ذاك أو ذاك، لكن حسبنا أن نلتقط من كلٍ ملمحاً ودلالة..

في قراءة اللحظة:

ظهر أبو عبيدة الناطق باسم القسام لأول مرة بالصوت والصورة منذ خمسين يوماً، ليشدد على نقاط بدت ضرورية في نظر المقاومة: 

العودة للمربع الأول: التذكير بالأقصى، وبأن الطوفان لم يزل يحمل اسمه، فاستدعى موضوع البقرات الحمر، ليقول للناقدين: لا تحسبوها بالأرقام: عدد شهداء وجرحى وبيوت ومرافق مهدمة هائل جداً قياساً بعدد الأسرى الذين تطالب حماس بالإفراج عنهم. فكان تجديد الحديث عن الأقصى لتعظيم قدر السلعة التي من أجلها تم دفع هذا الثمن الكبير جداً.. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول العملية برمتها وتوابعها بخسائرها ومكاسبها؛ فالحديث جاء استشعاراً بأن صوتاً إسلامياً يعلو شيئاً فشيئاً ناقداً بشدة كل ما جرى؛ فجاء للتذكير بالأقصى والإذلال السابق للأسرى والحصار إلى آخره، ليقول: كنا مضطرين لفعل ذلك ففعلنا.

 ثم جاء الحديث مفعماً بالمرارة عن الحرب الدينية التي هدمت خلالها مئات المساجد حتى اختفى صوت الأذان من غزة أو كاد، ليؤكد على عالمية القضية وضرورة أن تؤخذ في هذا البعد، وأن لا تختزل في حيز غزة أو فلسطين. وهي إطلالة مهمة على حيز إسلامي فسيح، لتحقيق أكثر من هدف: زيادة التضامن والحشد الجماهيري المناصر للقضية، دعاءً وتظاهراً ودعاية، وكذلك الاستناد على أن عظم الخسائر مرتبط بقضية عالمية وحرب دينية شاملة.. وفي هاتين النقطتين برز أن المقاومة تدرك ما يدور حولها من نقاشات، في الجانب الإسلامي، مثلما يخوض الصهاينة مثله في حدودهم الفكرية والإعلامية والبحثية. 

جاء ليؤكد أن المعركة سجال، وأن ألفاً من الآليات قد دمر، فيما بقي جسد المقاومة حياً بقدراته وسلاحه، بل بسلاحه الأقوى (إيمانه)، وأنه قادر على الاستمرار طويلاً، وهي رسالة استراتيجية مهمة أريد من خلالها التأكيد على أن خزائن المقاومة لم تزل ملآنة، وأن الوقت غير ضاغط على المقاومة، وإن كان بالتأكيد ضاغط على حاضنتها الشعبية الغزاوية التي تعيش وضعاً بالغ الصعوبة.

أن ورقة الأسرى، إذ لم تعد مهمة لدى العدو الصهيوني من خلال استهانته بأرواح أسراه، فهي كذلك لن تصبح ورقة المقاومة الرابحة حتى النهاية، مع التأكيد على أن هذه الورقة كادت أن تفلت من بين يديها بسبب قتل العدو لأسراه عمداً من خلال القصف العشوائي. 

هكذا أرادت المقاومة أن تقول: إنها منتصرة ومستعدة للحرب حتى النهاية وأن حربها ليست مغامرة بل مواجهة لحرب دينية وعدوان مستمر ودفعاً لاحتلال مزمن. إنها تريد أن تقول: لم يعد لدينا ما نخسره، وسنخوض معركتنا حتى لو كانت الأخيرة برأس مرفوعة ونكاية في العدو قاتلة.

وفي الطرف الآخر، لم يزل مجلس الحرب الصهيوني يعاند، مدركاً بأن أي توقف من دون تنفيذ أي من سيناريوهات التهجير أو نزع السلاح أو التدجين مرفوضة. والحقيقة أن العدو يتخذ الموقف الصحيح عسكرياً في الوقت الحالي رغم كل خسائره غير المسبوقة. إن ظهر الكيان للحائط اليوم، ولا بديل أمامه من الاستمرار أو الإقرار بالهزيمة. أما الضغوط بعد مائة يوم فهائلة، صحيح أن ضغط أسر الأسرى لم يزل دون المتوقع بكثير جداً، وصحيح أن أغلبية الصهاينة لم تزل مؤيدة للحرب، لكن الضغط الميداني كبير واستثنائي، بل نستطيع القول أنها ربما كانت المرة الأولى في تاريخ الكيان الغاصب التي يخوض فيها حرباً حقيقية، ولولا "حبل من الناس" مالاً متدفقاً، وعتاداً بلا حسيب أو رقيب، لانهزم الكيان في فترة وجيزة. 

وإذا كنا نتحدث عن صمود للمقاومة؛ فإن صمود الجيش الصهيوني رغم اتقائه بالمدرعات لم يكن متوقعاً هو الآخر، ولعل دافعه أنه أيضاً يدافع عن المشروع الصهيوني برمته. وقراءته للحرب رغم آلامها هو أنها معركة الدفاع عن أحلام هيرتزل وبن غوريون، واستكمال لجهود بلفور وتيمبل وكسينجر، ودعم أيزينهاور ولويد السخي، وطويل ممتد من تأسيس وتطوير المشروع بمساندة كبيرة من بريطانيا والولايات المتحدة، لا يمكن أن تتعرض لمثل هذا الضرر دون أن تعيد ترميم قدرتها وعقيدتها وسمعتها وإلا سارت بخطى حثيثة نحو الزوال.

إن ملمح اللحظة الراهنة هو عين ما نستلهمه من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ إن الألم يقابله تشقق مقابل في النظام الصهيوني.

في المستقبل: 

بعد مرور تلك الأيام المائة تبدى للعالم كله أن 7 أكتوبر قد وضعت تأريخاً جديداً، سيكون له أثره الكبير في مستقبل "إسرائيل"، والمنطقة المجاورة، والعالم، بدرجات متفاوتة؛ فهناك نتائج يصعب أن تتغير في العالم بما تركته في وجدان الشعوب، وفي موازين الرأي، وفي حظوظ التأييد والمناصرة، ومهما كانت النتائج القادمة للصراع فلن يكون العالم بعد هذه المائة كقبلها، وتلك مسألة فاضت فيها الأحبار وستفيض بعد انقشاع غبار المعركة.. وستستأهل المزيد من الحديث عن تبعاتها بعد انقضاء أيامها العصيبة.

وسيكتب الباحثون، ويتناقش الكثيرون حول: النظام الدولي – القانون الدولي – مفهوم المقاومة – عدالة القضايا ومظالم المتوحشين الكبار – الليبرالية وحدودها في الغرب – الإعلام وأكاذيبه – الإسلام ونصاعته – التطبيع – الإبراهيمية – مشروعية وجود إسرائيل... إلخ

وسيكتبون حول نظريات غزة العسكرية – الحرب غير المتوازية وغير المتكافئة – أساليب تحييد الجيوش وترويضها – استلهام التجربة المقاومة – حلول التغيير والتصدي.. إلخ

وفي كافة الأصعدة الاجتماعية والحقوقية والفكرية سيتم النقاش حولها، لكن بعد أن تضع الحرب أوزارها وتستبين نتائجها. 

درس المائة: 

من دون المعركة وفي أعقابها ستطل دروس كثيرة، وحسبنا أن نلتقط واحدة منها الآن: وهي حول ما كشفته الحرب رغم كل هذه الجراح من أمل حول أن مجابهة كبريات القوى العسكرية في العالم ليس شيئاً مستحيلاً مثلما أغرقتنا التقنيات في أوهام العجز والاستحالة. الـ"ممكن" هو أبرز دروس هذه المعركة، وإمكانية تحييد كثير من أدوات القوة ليس مستحيلاً، وأن الحرب في النهاية هي مواجهة بشرية مهما تمترست بالآلات والمعدات والتقنيات فائقة التطور.. هذا يحيلنا إلى مربع نسيناه: أن القطار لم يفت المسلمين بعد.. وأن الأمل حاضر لا يغيب.. يكفي أن يعمل المسلمون بصدق وجد ليستعيدوا مكانتهم الرائدة في عالم يزداد شوقاً إلى قيادتهم لانتشالهم من وهدة الظلام.