الأحد ، 11 ذو القعدة ، 1445
section banner

"طوفان الأقصى" مرتزقة نعم.. مجاهدون لا

"طوفان الأقصى" مرتزقة نعم.. مجاهدون لا

عودنا النظام الدولي على أن ما هو محرم على المسلمين، مباح لغيرهم؛ فالعمل الخيري مطارد بدعوى "دعم الإرهاب"، في الوقت الذي يسمح لكل دول وشعوب وطوائف العالم أن توظف التبرعات لخدمة الشعوب ومحاربة الفقر وتطوير القطاعات الصحية وغيرها، ضمن النمط الوقفي وسواه، أو استراتيجيات الدول والتوسع السياسي والعسكري من دون رادع. 

واستقلال المؤسسات الدينية، هو حق لكل أصحاب الملل والنحل سوى المسلمين، الذين لابد من مراقبة كل همسة في جنبات مؤسساتها وخارجها، وتشديد الخناق على دعاتها اتقاء لـ"فوضى الفتاوى" أو "الترويج للتشدد"، و"تهيئة المناخ لانتشار الأفكار التكفيرية والمتشددة والإرهابية.. الخ". 

واقتناء أفراد الشعوب تتيحه دول كثيرة لاعتباره حق مشروع لمواطنيها، للحماية الشخصية، وللدفاع عن الأوطان إذا لزم الأمر، لكن إبقاء الشعوب عزلاء تواجه مصائرها أمام الطغيان والاحتلال والميليشيات المدعومة من الخارج هي لازمة للشعوب المسلمة وحدها من دون الكثيرين. 

أما "الجهاد" الذي يُنتدب إليه الناس من كافة الشعوب دفاعاً عن الدين والنفس والعرض والمال؛ فضرب من ضروب الإرهاب الدولي، وأصحابه أيا كانت عدالة قضيتهم وعدم تورطهم في جرائم حرب أو إنسانية (كغير المجموعات التي لم تصنعها أجهزة الاستخبارات الدولية – على قلتها -) فمصيرها ما بين الموت والملاحقة والترهيب.. لكن في مقابل ذلك؛ فإن تشكيل ميليشيات الارتزاق، كبلاك ووتر، وفاغنر، وماحل (الصهيونية)، وحتى ما تصطبغ بلون "إسلامي" لكنها موظفة داخل الأطر غير المسلمة، كالوحدات الشيشانية والتترية على طرفي النزاع الروسي والأوكراني، وعشرات نماذج الارتزاق؛ فمتجاهلة، وربما مأذونة كما في حالة قتال المرتزقة من كل حدب وصوب في غزة ضمن قوات الاجتياح الصهيوني لها، وكذا؛ فإن قتال مزدوجي الجنسية محكوم صاحبه بالسجن، وربما الإعدام في بعض الدول الإسلامية، أما في "إسرائيل" فمندوب تدافع عنه كبريات دول الغرب، أو بأقل القليل تضرب الذكر عنه صفحاً.  

هذه التوطئة الطويلة في حقيقتها، لمجرد إنعاش الذاكرة في مسألة مهمة، تتعلق بضرورة إبقاء الوعي متوهجاً حول ما حق للمسلمين، وبين ما يمارسونه فعلياً ضمن أطر تضيق عليهم وحدهم، ويعوزهم أن يفكروا يوماً في فك هذه القيود عنهم يوماً ما، إذا ما تملكوا شيئاً من القوة والإرادة والعزيمة على كسر تلك الأطواق.

وبعد،،

فإن حالة الارتزاق ضمن القوات الصهيونية ليست جديدة، فهي استبقت الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في العام 1948، حيث مثلت منظمة ماحل (أي المتطوعين من الخارج إلى داخل "إسرائيل") الأساس الذي بني عليه مأسسة الارتزاق العسكري الذي يقلص من خسائر الجيش الصهيوني، من خلال مشاريع "الجندي الوحيد" أو "الجنود مزدوجو الجنسية".

وفي العدوان البري على غزة، ظهر أن "إسرائيل" قد طورت نظاماً يقي الصهاينة الاشكناز من تحمل العبء الأكبر من الخسائر، عبر تصدير الدرجات الدنيا في مكونات القوات إلى المواجهة. 

إذا عدنا لقرن من الزمان، لوجدنا أن أحد الأسباب الداعية لقيام ما تُسمى بدولة إسرائيل، كان عدم رغبة اليهود الغربيين (الاشكناز) الأغنياء نسبياً، وفيهم حيتان الربا بالغرب الأوروبي في مزاحمة فقراء شرق أوروبا لهم في بلدانهم، وتحملهم مسؤولية رعايتهم وشططهم في آن معاً، وقد كان لدى الغربيين رغبة في أن يروا الشرقيين يعودون إلى "أرض المعاد" وحدهم! كانت تلك أحد دواعي تشجيع الهجرة اليهودية، وليس كلها بطبيعة الحال. وحين هاجر بعض الغربيين وسكنوا المدن الكبرى كتل أبيب، لم تبرحهم تلك النظرة الدونية لمن سواهم، وقد كان نصيب يهود شرق أوروبا غالباً في المغتصبات وحدود التماس مع الفلسطينيين، ولهذا لم يكن غريباً أن يكون معظم سكان "غلاف غزة" (الذي هو بالأساس أو جزء كبير منه داخل حدود إقليم أو قطاع غزة القديمة) من المغتصبين لا ينتمون إلى الطبقة المخملية في تل أبيب والقدس وحيفا. 

الطبقية لا شك موجودة داخل الكيان الصهيوني، يتصدر فيها الاشكناز، ثم الشرقيين عموماً (شرق أوروبا وعرب وفرس)، ثم الأفارقة الفلاشا ونحوهم. هذا داخل الإطار اليهودي.

أما القوات الصهيونية فتتوسع أكثر في هذا التصنيف ليضم:

المرتزقة من الخارج: 

وقد كانوا حتى العام الماضي يبلغون نحو 7 آلاف مرتزق، لكن لا يعرف عددهم الآن في الجيش الصهيوني، حيث تشير المعطيات المتوفرة أن أعدادهم قد تكاثرت مع الاجتياح الصهيوني البري. ووفقاً لبيانات وزارة "الأمن الإسرائيلية" ووحدة البحث والمعلومات بالكنيست، بلغ عدد "الجنود الوحيدين" في الجيش الصهيوني قرابة 6 آلاف جندي، تم تجنيدهم من 70 دولة، وتبلغ نسبة اليهود منهم 20% فقط، بينما 80% أتوا بمفردهم ودون عائلاتهم، مما يعني أن النسبة الأكبر من الجنود الوحيدين الأجانب مرتزقة، هذا علاوة على بقية المرتزقة خارج إطار "الجندي الوحيد" في الجيش الصهيوني، ما يجعل العدد يفوق السبعة آلاف بكثير. وفي أميركا وأوروبا يتم تجنيد المرتزقة بشكل علني، ويتواجد في الحرب الآن جنود من أوكرانيا وفرنسا وإيطاليا والنرويج (رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي النرويجي كريس كار نفسها كانت ترتدي الملابس العسكرية الصهيونية في أحد معسكرات التجنيد العام الماضي)، وتتلقى بعض المنظمات التي تقوم بالتجنيد الدعم من دافعي الضرائب.

أما الارتزاق نفسه؛ فهو لا يُعد جريمة جنائية محلية في دول كثيرة، وإنما ينص البروتكول الأول الإضافي لاتفاقات جنيف مادة 47 على أنه "لا يجوز للمرتزق التمتع بوضع المقاتل أو أسير الحرب". أما توصيف المرتزق فلابد من توافر 7 شروط ليُصنف مرتزقاً وبفقدان إحداها تسقط عنه تلك الصفة! كما أن محاكمته تتم وفق آليات دولية معقدة، أما عن تقنين أوضاع شركات الأمن التي كثيراً ما توفر مثل هؤلاء، فأيضاً ما زال محل خلافات شديدة تقوض أي محاولة لتجريمها! 

وحدات المستعربين: 

معظمها من الدروز، كوحدة دوفدفان، ووحدة ي.م.س، الذين تسترخص السلطات العسكرية والأمنية الصهيونية دمهم، وتزج بهم في الخطوط الأمامية للقتال، وليس سراً أن أسماء العديد من الضباط الذين أُعلن عن وجودهم في غلاف غزة إبان "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر الماضي، ثم من أعلن عن أسرهم أو قتلهم هناك، وما بعد ذلك كانت تشير إلى أنهم دروز، تستخف تل أبيب بدمهم رغم خدمتهم إياهم لاعتبارهم من "الأغيار" أو "الأمميين" طبقاً للتصنيف اليهودي. 

مزدوجي الجنسية: 

يقدر عددهم بعشرات الآلاف، ومعظمهم من دول أوروبا الشرقية، فطبقاً لتقديرات الإذاعة الصهيونية الرسمية "كان"؛ فإن هناك عشرات الآلاف من المهاجرين الروس من أصحاب الجنسية المزدوجة "الإسرائيلية" والروسية، يقاتلون إلى جانب الجيش الصهيوني في غزة، وضمن قوات الاحتياط. ثم هناك أصحاب البشرة البيضاء من مزدوجي الجنسية، من يهود شرق إفريقيا، ثم إنه قد كُشف مؤخراً النقاب عن أن 4 آلاف فرنسي/"إسرائيليون" يخدمون كذلك في الجيش الصهيوني، ما دعا اللاعب السابق للمنتخب الفرنسي إريك كانتونا إلى أن يكتب في صفحته على إنستغرام " هؤلاء الجنود الأربعة آلاف الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية الفرنسية، والذين غادروا البلاد للانضمام إلى الجيش الإسرائيلي من أجل إبادة الفلسطينيين، بحجة شن حرب ضد حماس، هل سيتمكنون من العودة إلى فرنسا وكأن شيئا لم يكن؟ وهل سيحاكمون على أفعالهم؟"، كما توعدت حكومة جنوب إفريقيا بمحاكمة مواطنيها الذين يقاتلون في غزة بالمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب، وعدم إبلاغ دولتهم ابتداء. 

يهود الشرق السفارديم:

رغم عدم سيطرتهم على مفاصل القوة داخل الجيش والأجهزة الأمنية الصهيونية؛ فإنهم الأكثر وجوداً في الخطوط الأمامية للحرب، والتي يغلب عليها الطبقات الدنيا والفقيرة والمهمشة، ولهذا فهي تستأثر بالجزء الأكبر من الخسائر البشرية في الكتلة اليهودية.

يهود الغرب الاشكناز: 

وهؤلاء يشاركون في الحرب، لكنهم لا يمثلون نسبتهم من تعداد مغتصبي فلسطين، نظراً لضعف حرصهم على التطوع في الجيش الصهيوني لاسيما الجيل الجديد منهم (يتجه إليه الأفقر فالأقل الآن)، وعادة ما يوظفون في وظائف عسكرية تتعلق بالتوجيه الراداري والرقابة وسلاح الجو والدفاع الجوي، ونحوها، ويقل تعدادهم في سلاح المدرعات والمشاة، حيث النزيف الأكبر في خسائر الجيش الصهيوني في المعارك، لاسيما المعركة الأخيرة في غزة الآن. 

وتبعاً لهذا التصور النسبي عن الجيش الصهيوني ورأس حربته المقاتلة بين أطلال غزة اليوم، يمكن التصور المبدئي لطول فترة الصمود النسبي لقواته، والمرونة المتاحة له للإعلان عمن يشاء من قتلاه وجرحاه، وطمس معلومات آخرين، إما مرتزقة، أو مستعربين، أو منتمين إلى طبقات دنيا في النسيج الصهيوني الممزق. 

....

قطعاً تدرك "إسرائيل" أن معركتها الآن وجودية، وبالغة الأهمية، وترخص في سبيلها تضحيات لم تتجاسر على بذلها من قبل، ولهذا يطول دفعها لضريبة القتال من مسافة صفر داخل غزة، وثمة عوامل كثيرة تجعلها لا تلجأ إلى الانسحاب أو التراجع بسهولة على نحو ربما لم يتوقعه البعض لترسخ الصورة النمطية لليهودي كمقاتل جبان، وهذا صحيح، غير أن هناك ما يحفز القوات الصهيونية على الصمود أكثر من المتوقع، بعضها سياسي، وبعضها بنيوي، مثلما تقدم. وتلك الأخيرة، يلفت إليها العبقري ابن خلدون بقوله: "وربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة؛ فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره" 

"إسرائيل" تفعل، وروسيا، وأوكرانيا، ومن قبل جندت بريطانيا الهنود والمصريين في قواتها، وجندت فرنسا الجزائريين، واقتيد الأفارقة والأسيويون للصفوف الأمامية في معارك "المستعمرين"، ومن قبل فعلت روما ذلك وبيزنطة.. الخ. إنها أدوات قد تطيل العمر قليلاً لكنها لا تمنع الهرم في النهاية. فهو سلاح ذو حدين، لا يمكن الاعتماد عليه لدوام إبقاء الدول، فهو لا يدوم طويلاً كقتال أصحاب العقائد، لاسيما الإسلامية، ولهذا فقد اتفق "المجتمع الدولي" برمته على منع الجهاد بلا حدود، واستأثر لنفسه بتجنيد المرتزقة، فحرم هذا وأحل ذاك.