السبت ، 21 جمادى الأول ، 1446
section banner

"طوفان الأقصى" مقترح بايدن/"إسرائيل"

"طوفان الأقصى" مقترح بايدن/"إسرائيل"

في اليوم الأخير من شهر مايو الماضي، تحدث الرئيس الأمريكي عن مقترح "إسرائيلي" لإبرام صفقة مع حركة حماس، ونشر حساب الخارجية الأمريكية نص هذا المقترح: "أعلن الرئيس بايدن أنه نتيجة للدبلوماسية الأمريكية، قدمت إسرائيل اقتراحًا شاملًا جديدًا يتضمن خارطة طريق لوقف دائم لإطلاق النار في غزة وإطلاق سراح جميع الرهائن. يشمل الاقتراح ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى تستمر لمدة 6 أسابيع وتشمل وقفًا تامًا لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية من جميع المناطق المأهولة في غزة، وإطلاق عدد من الرهائن مقابل إطلاق مئات الأسرى الفلسطينيين. خلال الأسابيع الستة من المرحلة الأولى، ستتفاوض إسرائيل وحماس على الترتيبات اللازمة للوصول إلى المرحلة الثانية، وهي إنهاء دائم للأعمال العدائية.

المرحلة الثانية تشمل إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء المتبقين، بما في ذلك الجنود الذكور، وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، وإذا التزمت حماس بتعهداتها، سيشمل ذلك وقفًا دائمًا للأعمال العدائية.

في المرحلة الثالثة، ستبدأ خطة إعادة إعمار كبيرة لغزة. وسيتم إعادة أي من الرهائن الذين قُتلوا إلى عائلاتهم".

وقد كان بايدن واضحاً في تبرير هذا المقترح الذي يبدو في ظاهره أنه يقترب كثيراً من تطلعات حركة حماس، مشدداً بالقول على أنه "لا يمكننا أن نفقد هذه اللحظة. الحرب غير المحددة لتحقيق نصر كامل غير محدد ستؤدي فقط إلى إضعاف إسرائيل في غزة. وذلك لن يعيد الرهائن إلى ديارهم ولن يحقق هزيمة دائمة لحماس ولن يجلب أمنًا دائمًا لإسرائيل، لكن النهج الشامل الذي يبدأ بهذه الصفقة سيعيد الرهائن إلى ديارهم، وسيؤدي إلى إسرائيل أكثر أمانًا". 

انطلق بايدن من "واقعية" اللحظة، التي لا تبدو أن "إسرائيل" قادرة فيها على المضي لشهور طويلة في القتال مثلما زعمت بعض مصادرها، لاسيما أن ثمة ضغوطاً كثيرة عليها، أهمها ما يتعلق بالناحيتين العسكرية، والسياسية/الاجتماعية الداخلية، ولهذا تحمس بايدن للمبادرة ودعا الآخرين إلى الدعوة إلى تنفيذها، قائلاً: "مع هذه المبادرة الجديدة، لقد اتخذنا خطوة مهمة في هذا الاتجاه. يجب على كل من يريد السلام الآن أن يتحدث، وأن يخبر القادة بأنه يجب عليهم قبول هذه الصفقة".

والمفارقة اللافتة أن هذا المقترح رحبت به حماس مبدئياً، وبدا نتنياهو وأركان حربه ممتعضين منه رغم أنه صادر عنهم وباسمهم – على حد قول بايدن – ملوحين تارة عبر صقور الحكومة بأنهم سيستقيلون إن تم إقراره، وتارة بأن ما صرح به بايدن هو الخطوط العريضة دون الحديث عن التفاصيل، تارة أخرى! لكن بأية حالٍ؛ فالمقترح هو لأول مرة صادر عن تل أبيب، وفيه تصريح لأول مرة أيضاً بالانسحاب الكامل، وفيه تلميح إلى عدم الاعتراض على دور لحماس في القطاع (وإن لم يأت ذكر ذلك صراحة)، وهو بهذا السياق مفضٍ إلى الاعتقاد بأن "إسرائيل" تتراجع كثيراً عن معظم أهدافها من الحرب. 

مع ذلك، علينا التذكر دوماً أن أهداف الحرب المعلنة: تدمير حماس، واستعادة الأسرى عسكرياً، وقتل المسؤولين عن بداية الطوفان (7 أكتوبر)، لم تكن هي في الحقيقة كل الأهداف التي تريدها "إسرائيل" من شن عدوانها، ويُعتقد على نطاق واسع أنها قد حققت شيئاً من أهدافها المهمة..

تقوم عقيدة "إسرائيل" القتالية على الردع الثقيل، عبر تكبيد "العدو" ثمناً هائلاً لأي "عدوان" على "إسرائيل"، وهي في هذه الحالة قد حققته لدرجة غير مسبوقة بتدمير غزة بما يعادل إلقاء 4 قنابل نووية عليها، وهي قد أدركت أن قادة حماس قد استوعبوا هذا الدرس القاسي إلى حد جعل شغلهم الشاغل هو وقف الحرب وإعادة الإعمار لما لمسوه بقوة من ردة الفعل الصهيونية الهائلة، والتي ستجعلهم مستقبلاً يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على عملية كهذه، ولهذا؛ فإن تل أبيب – مثلما نصحها من قبل الصهيوني الأمريكي توماس فريدمان – قد حققت الردع بالفعل، وألزمت حماس مسؤولية ستستهلكها طويلاً ولسنوات، وهي إعادة الإعمار وحكم القطاع المهدم، ومحاولة تعويمه من جديد، وبالتالي ضمان فترة هدنة طويلة جداً ستقدم عليها حماس من تلقاء نفسها حتى لو لم يتم الضغط عليها خارجياً للالتزام بها، وأنها ستكون من بعد "أكثر واقعية" والتزاماً بمسؤولية تأمين معيشة أكثر من مليوني غزاوي.

بالعودة إلى أهداف الحرب المعلنة، تدرك "إسرائيل" وحليفتها الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية أن تحقيقها لم يعد ممكناً على النحو الذي حمله كبرياء قادة الكيان الغاصب عليه، ولهذا؛ فقد أوضح بايدن ذلك صراحة ودون مواربة أن تلك الأهداف لم تعد واقعية، وأن اقتناص هذه الفرصة للجميع أولى من إضاعتها. ويبدو أن كلام بايدن لا يجافي الواقع كثيراً؛ فالطرفان قد أرهقتهما الحرب بدرجة كبيرة، فرغم صمود الشباب الفلسطيني الذي كبّد العدو أثماناً باهظة في كمائن أعادت الحرب إلى سيرتها الأولى، لاسيما في كمائن جباليا الأخيرة النوعية، ورغم تحمل الأهالي وصبرهم، وامتناعهم بكل مروءة عن التشكي من غير ما يسببه العدوان الغشوم، إلا أن الطرف الفلسطيني قد بلغت القلوب عنده الحناجر، والجميع، عسكرياً ومدنياً يبحث عن مخرج. 

"إسرائيل" كذلك، تكاثرت عليها سهام الداخل والخارج، من أهالي الأسرى والمعارضة، وشرع الائتلاف الحاكم في التصدع، وكادت أن تنهار الجبهة الداخلية للحرب، ووضع الجيش الصهيوني في أطول حرب خاضها الكيان في تاريخه كله، واستنزفت قدراته البشرية والمعنوية، وتفوقت نسبة المطالبين بوقف الحرب داخل الكيان للمرة الأولى منذ 7 أكتوبر عن المطالبين باستمرارها (في أول هزيمة سياسية للائتلاف الحاكم أمام المعارضة اليسارية الصاعدة)، وتبيان استطلاعات الرأي لتفوق المعارضة على الحكومة. هذا عدا عن الضغوط غير المسبوقة في الخارج، ومنها طلب المدعي العام للجنائية الدولية إصدار المحكمة لمذكرة توقيف بحق رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، ووزير حربه يوآف غالانت، وأمر العدل الدولية بوقف العدوان على محافظة رفح بغزة، والاعترافات الدولية بدولة فلسطين، والسمعة المهتزة كثيراً للكيان الصهيوني في العالم، وتشكل رأي عام جماهيري دولي ضدها.. هذه وغيرها تدفعها بقوة لقبول صفقة ما، وإن تحفظت على بنود أو عدلتها. 

وبرغم تحفظ هنا وهناك، إلا أن الطرفين ذاهبان لحل ما، ربما يتبلور لاحقاً، وربما توضع أمامه عراقيل صهيونية تحديداً بغية ضمان أمن الكيان الصهيوني على نحو قد ترى حينها حماس أن تنازلها ممكناً أو تعده خطاً أحمر لا تقبل تجاوزه، لاسيما إن تعلق بتجريدها من سلاحها أو الحد من قدراته أو تفكيك بعض قدراتها سلماً، أو نحو ذلك. لكن في نهاية الأمر ما يظهر هو أن حظوظ قبول الطرفين أكبر من حظوظ الرفض، حتى لو مارست "إسرائيل" هروباً إلى الأمام، لعله سيتكشف من خلال زيارة نتنياهو للولايات المتحدة الأمريكية وخطابه في الكونغرس، والذي يتوقع أن يحمل مفاجأة ما، للمتفائلين أو للمتشائمين!