"طوفان الأقصى" من الآثار الفكرية
مع أن العدوان على غزة لم يزل ممتداً للشهر الثاني على التوالي، على نحو قد فاق زمنياً، مدة أي حرب خاضتها "إسرائيل" حتى الآن، إلا أنها مع ذلك لم تبحْ بكل أسرارها، وآثارها بعد، لاسيما تلك الفكرية التي يغلب دوماً عليها الامتداد الزمني الطويل نسبياً لتلك الآثار، ولهذا يمكننا أن نقتصر على "بعض" منها، حيث يتوقع أن تثير الحرب بعد أن تضع أوزارها المزيد من الآثار والتأثيرات في محيطات واسعة من جغرافيا السياسة العالمية.
في الداخل الإسلامي، دارت نقاشات بين "النخبة" في أكثر من بلد، واتجاه فكري، حول جدوى تلك الحرب التي فجرتها حركة حماس، هل حسبتها جيداً؟ ماذا لو لم تكن قد نفذت هجوم 7 أكتوبر؟ أكان عليها السكون أم الحركة، الدفاع أم الهجوم؟ وآخرون قالوا: أحقاً قد اتخذوا قرارهم بأنفسهم، أم أن إيران قد استدرجتهم من أجل إنهاء غزة ومساعدة "إسرائيل" في الاستيلاء عليها، وتدمير كتائب القسام؟
والظن أن هذا النقاش قد كان ليجدي نفعاً لو أن الخطة الصهيونية/الأمريكية/بعض العربية، لم تكن جاهزة انتظاراً لأي فرصة تمنحها حماس للمعتدين أو حتى لا تفعلها؟
لماذا؟!
لأن ما حصل بعد 7 أكتوبر، هو بالفعل خارج نطاق القواعد والمنطق والعقل: حيث يجادل المعتدون بأنهم عليهم أن يدمروا وطناً كاملاً من أجل الإجهاز على "تنظيم إرهابي"، ويهجروا كامل أهله منه من أجل تحقيق ذلك! وأن لا وسيلة أخرى لتدمير حماس من دون تدمير كل المستشفيات ومصادر المياه وقطع الكهرباء وإنهاء مظاهر الحياة، وإحالة غزة لما يُشبه المريخ حيث تتعذر الحياة على أرضه، إلا أنها تمتلك الهواء الضروري للتنفس فحسب!
إن السؤال الأجدى نفعاً هو: ما الذي كان يحول بين المجرمين واقتراف جريمتهم لو لم يكن هناك 7 أكتوبر؟ ألم تكن الخطة معدة تماماً، والصمت هو الصمت، والتواطؤ هو عينه، والخيانة هي نفسها؟
نعم، كان سيقال: إن هذا "التهور" من المقاومة هو الذي منح الإعلام الغربي تصريحاً بترديد الأكاذيب والافتراءات وتجييش الناس ضد المقاومين وأهل غزة كلهم، لكن هذه المقولة تبدو متهافتة بعد أن بلغت جرائم "إسرائيل" حداً لا يمكن لأي وسيلة إعلامية أو سياسي الدفاع عما تجترحه من جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، منقولة على كل الأصعدة الإعلامية مباشرة، ومن قلب المأساة، وهو ما حدا بجموع كثيفة في عواصم الغرب للتظاهر دونما التفات كبير لـ7 أكتوبر وما شاكله، حيث بدت القضية ناصعة جداً لا تحتاج إلى كثير بيان.. مع ذلك ما زال الإعلام يواصل ترهاته.
ونعم، كان سيقال: إنه لم يكن بوسع نتنياهو أن يحظى بمثل هذا الإجماع من الجمهور الإسرائيلي ما لم تشعل كتائب القسام ثقاب الحرب بنفسها، وكان يمكن لليسار "الإسرائيلي" أن يضغط لإيقاف العدوان إن حصل دون مبرر يذكر لإنقاذ الجنود "الإسرائيليين"، غير أن هذا أيضاً لم يكن ليحصل بسهولة في ظل تراجع كبير لشعبية اليسار الصهيوني بين جموع "إسرائيلية" تزداد شراسة ويمينية حتى صارت حكومة نتنياهو الفاسدة هي الأكثر تطرفاً في تاريخ ما تسمى بإسرائيل. فاليمين يجد حظوظاً أكبر من اليسار لأسباب موضوعية، لا علاقة لها بـ7 أكتوبر أو غيرها من العمليات الشجاعة.
ونعم، كان سيقال: إن الظرف الإقليمي هو الأسوأ لتفجير مثل هذه الحرب، ولن يجد الغزاويون معيناً في المحيط، إن لم يجدوا مناوئاً لهم، وممالئاً للصهاينة، متخندقاً معهم. وصحيح أن الظرف كذلك كالح في سوداويته، لكن قادمه سيكون أسوأ وفق أي تقدير مبني على المعطيات الحالية.
أي أن أي تقدير للموقف قد كان ليشير إلى احتمالية كبيرة لاتجاه الأوضاع إلى الأسوأ في غزة وغير غزة، ذاك أن واحدة من كبريات مشاكلنا الفكرية هي ظننا أننا بلغنا القاع، وما بلغناه بعد، وأن عدونا لم يعد يملك المزيد في جعبته للقضاء علينا رويداً رويداً متى لاحت له الفرصة. وفي غزة لربما ظن البعض أن لا نية لدى "إسرائيل" والغرب لتصفية المقاومة في غزة، شأنها شأن أي نقطة قوة للمسلمين، يضع الأعداء تدميرها نصب أعينهم متى سنحت فرصة بذلك.
ومهما قيل أخذاً ورداً فيما تقدم؛ فإن الواقع الجديد المفروض على غزة والعالم، يصنع اشتباكات فكرية حول قضايا جديدة تستأهل الوقوف عندها ومناقشتها:
أولها: أنه إذا جاز وصف مرحلة زمنية سابقة في أوروبا بأنها مرحلة ظهور داعش، وتنفيذها عمليات في أوروبا، تآكل معها بعض "التسامح" الذي كانت تبديه قطاعات جماهيرية مع المسلمين، وتغذى عليه تيار اليمين المحافظ المعادي للمسلمين بشدة، ومنح الحكومات اليمينية وشبه اليمينية في أوروبا مساحة واسعة لإقرار قوانين وإجراءات ضد المسلمين، وأدى إلى انتشار "الإسلاموفوبيا"، وأعطى الأجهزة الأمنية فرصة للتغاضي عن أعمال عنصرية ضد مقدسات إسلامية، وجدت لها ما يشجعها من داخل استخبارات محلية في كثير من الدول الأوروبية، ودفع المنظمات والجمعيات والمراكز الإسلامية إلى مزيد من الانكماش، وجماهير المسلمين إلى الإحجام عن التفاعل القوي مع قضايا المسلمين العالمية خشية الملاحقة الأمنية أو تركيز الأنظار الأمنية على المسلمين، ومن ثم السماح بتهميشهم واضطهادهم؛ فإن هذه المرحلة التي نعيشها الآن في ظل هذا الإجرام الصهيوني غير المسبوق، والتشجيع الأمريكي عليه، والتواطؤ الأوروبي معه، قد حوّل أبصار فئات غير مؤدلجة في أوروبا باتجاه آخر، يحاول أن يتماهى مع الحقوق الأساسية الواجب توافرها للجميع، ومن ثم وجد مساحة للتلاقي في المظاهرات والأنشطة المختلفة المناوئة لهذا الإجرام الصهيوني، ما يمكن أن يكون من شأنه تغيير متدحرج في المزاج الأوروبي تجاه المسلمين، وتجاه الحكومات ووسائل الإعلام الأوروبية، وقد ينجم عن ذلك مساحة أوسع للتلاقي والتنسيق بين الناشطين المسلمين، وتيارات يسارية وحقوقية في أوروبا، تسهم في التوافق حول قضايا حقوقية تشمل الدفاع أكثر عن حقوق المسلمين هناك.
ثانيها: أن خيبة أمل تلك الجموع في مواقف حكوماتها من قضية غزة العادلة، سيغذي شعوراً متنامياً يقود إلى الاعتقاد بأن الحكومات الغربية لا تعكس المزاج العام بالضرورة بقدر ما تعكس قدرات ذوي النفوذ على جلبها للسلطة. هذا الشعور، وإن لم يكن طاغياً الآن، إلا أنه ينمو، وقضية غزة كانت قادرة على إعطائه دفعة قوية بالنظر إلى حجم الجرائم التي تيقنت شرائح مجتمعية أن حكومات بلادهم ضالعة في التغطية عليها، بل ودعمها، من دون أن يكون من ورائها صراعاً حقيقياً تخوضه دولهم أو عدواناً بالغت دولهم في ردات فعلها تجاهه.
ثالثها: أن مثل هذه الأحداث وطريقة تعامل الحكومات أمنياً مع المتظاهرين من جهة، والناشطين في الجامعات وجهات العمل المختلفة من جهة أخرى، كلتاهما تنحر في مسلمات الليبرالية وتضع الليبرالية والنظام العلماني والديمقراطية في مأزق خطير، إذ إن الأسلوب المكارثي الذي اعتمدته حكومات دول أوروبية، ولوبيات اليهود في أوروبا، جعلت العديد من الأكاديميين والحقوقيين والإعلاميين يفقدون وظائفهم بسبب تعاطفهم مع أهالي غزة ومأساتهم أو يشعرون بالاضطهاد بسبب آرائهم السياسية، وهذا العدد بالمناسبة غير مسبوق في أوروبا، ومثل ظاهرة واضحة جداً هذه المرة، وكشرت عن أنياب استبدادية لم تنهش في لحوم المسلمين في الغرب هذه المرة، بل وسعت نطاق اضطهادها ليشمل الأوروبيين الأصليين من غير المسلمين كذلك، الذين صدقوا أن حرية الرأي والتعبير لم تزل متاحة كما هي منذ عقود، وأن زحف اليمين إلى السلطة، وارتباطه الوثيق بالكيان الصهيوني لن يترك أثراً غائراً على المبادئ الليبرالية في أوروبا. مثل ذلك لاقاه المتظاهرون بادئ الأمر، على نحو لافت، إلى أن خارت قوى السلطة فلم تتمكن من منع مظاهرات حاشدة، تماماً مثلما حصل في فرنسا، التي اتخذت موقفاً قمعياً حيال المظاهرات أولاً ورفضت قيامها، إلى أن أرغمت على السماح بها تحت ضغط الجماهير.
رابعاً: أن سير النظم الأوروبية في مسار يجابه بأكبر مظاهرات تشهدها العواصم الغربية، يشي بوضوح إلى أن أوروبا تسير نحو نوع متدرج من الاستبداد، وإلى تهميش إرادات شعوبها، ولنأخذ مثلاً واحداً من أعرق ديمقراطيات العالم، حيث وصفت سويلا برافرمان وزيرة الداخلية البريطانية 300 ألف مواطن بريطاني احتشدوا في أكبر مظاهرة تشهدها لندن منذ سنوات طويلة بـ"الغوغاء"، وانتقدت شرطة بلادها التي لم تتعامل معهم بصرامة كتلك التي تعاملت بها مع اليمينيين (المشاغبين الذين حاولوا التحرش بالمتظاهرين السلميين)!
وقد يُلجئ النظم تلك يوماً ما إلى الكفران بالنظام الديمقراطي نفسه، اقتداء بسلوك نتنياهو نفسه الذي سعى قبل شهور إلى تقويض السلطة والرقابة القضائية على حكومته، وتحصين نفسه ضد المسائلة فيما عُرف بالانقلاب القضائي. إن خلو دول أوروبا من مظاهرات تؤيد "إسرائيل" فيما تقترفه من جرائم، في مقابل مظاهرات بمئات الآلاف، فاقت في شدتها مظاهرات ومسيرات قامت لأسباب داخلية، يعني تلقائياً أن الحكومات تلك لا تعرِ الرأي العام لديها كثيراً من الاهتمام حينما يتعلق الأمر باستراتيجية حماية الكيان الصهيوني، ولتذهب من بعده إرادات الشعوب إلى الجحيم. هذا السلوك الحكومي، المنفلت من تأثير الشارع، سيشجع تلك النظم تدريجياً على الاعتماد أكثر وأكثر على اللوبيات أكثر من اعتمادها على توليد قناعات مؤيدة لبرامج أحزابها. هذا بالضبط هو أقصر السبل نحو الديكتاتورية.
والخطير في هذا أوروبا، أن هذه القارة لم تعرف السلام الداخلي فيما بينها إلا حالما وضعت نظاماً ديمقراطياً محكماً، أرسى قواعد التعاون بين الدول الأوروبية بدلاً من انفجار الحروب فيما بينها، وكلما ابتعدت أوروبا عن هذا المسار ستقترب تدريجياً من حكم التاريخ السائد، والذي يقضي بأن الأصل في أوروبا هو التنافر والاحتراب، وأن ما استقر منذ الحرب العالمية الثانية هو سلوك طارئ لا تعويل كبيراً عليه.
إن اللحمة التي تعيشها أوروبا والسلام الداخلي فيما بينها، إنما مرده البشري الأول إلى حزمة من القيم الليبرالية، أفرزت ديمقراطية أسست لقاعدة ثابتة في العقل السياسي الجمعي، وهي أن "الديمقراطيات لا تتصارع"، وبمقابله؛ فإن الديكتاتوريات، وتفشي الحس القومي سيعود بأوروبا إلى سيرتها الأولى، باستثناء بعدها النسبي عن الاحتراب المذهبي الذي بات ضعيفاً الآن.
ولا نزعم أن غزة وأهوالها، قادرة على تحويل أوروبا راديكالياً، لكنها ستسرع بخطى أوروبا نحو الاستبداد والتنكر للقيم الليبرالية، والأحداث مجلية لقدر واضح من هذا التحول.
خامساً: رغم ما كشفته مأساة غزة من وقوع معظم ساسة ونخب أوروبا أسرى المال اليهودي المهيمن على أسواق العالم وأشغاله، إلا أنه قد أبدى في مقابل ذلك شعوراً يتزايد بكراهية اليهود بين الأوروبيين والأمريكيين، ممثلاً في "إسرائيل" كنموذج أوحد للدولة اليهودية.
إن كراهية اليهود لم تكن يوماً بدعة في المجتمعات الأوروبية، فالتاريخ شاهد على كراهية أفضت إلى كثير من عمليات الطرد والإقصاء والقمع والاضطهاد لليهود في أوروبا، حتى انتهى الحال بنصفهم إلى الهجرة إلى فلسطين، وهذه الكراهية جاءت جرائم "إسرائيل" المهولة مؤخراً لتذكي أوارها، وتأجج المشاعر ضدها. وهذا لا ندعيه كمسلمين يتعلقون بأستار التفاؤل فحسب؛ فكثير من المقالات العبرية دبّجت، تحذر من هذا التراجع الهائل في شعبية "إسرائيل" كـ"واحة للديمقراطية" في "الشرق الأوسط". لقد غدت تمثل الإجرام والتوحش والانفلات من كل قيم الحروب والصراعات، وكشف تقصدها الأطفال والنساء، والمدنيين بصفة عامة عن إجرام تأنفه من في نفسه مسكة من إنسانية في أوروبا، ولهذا تخسر "إسرائيل" كثيراً وتخصم دفعات ضخمة من سمعتها في أوروبا لحساب المظلومين المضطهدين. وهذا العدوان لا يعتبره معظم الأوروبيين حلقة جديدة من الحروب الصليبية التي يمكن لنصارى أوروبا تفهم جرائمها. باختصار: ليست تلك معركتهم ليتفهموا جرائمها، ويتعاطفوا تلقائياً من السفاحين.
....
وبعد، فكما تقدم، سيكون لأحداث غزة الحالية الكثير من الآثار والنتائج، ربما ستكتمل عناصرها حين تضع الحرب أوزارها، وسيكون لنا معها حديث آخر بمشيئة الله.. فاللهم، حديث المظفرين، واللهم نصراً يتردد صداه في العالم كله.