"طوفان الأقصى"(2) مناخ الاجتياح
اعترى الجميع الدهشة، من هول الطوفان الجارف.. بضعة مئات من الفدائيين الفلسطينيين اجتاحوا الثكنات والمغتصبات، وطافوا خلالها، فريقاً يقتلون ويأسرون فريقاً، اخترقوا كل الحجب، فقفل منهم غانماً من قفل، وبقي منهم من بقي مقاتلاً مرابطاً.
وحار الناس، خبراؤهم وعامتهم في كيفية حصول اختراق كل هذه التحصينات بسهولة ظاهرة، ونتائج الهجمة الخاطفة المرعبة، فكان في التفاصيل ما يرويها: ساقت وكالة رويترز للأنباء رواية، قالت إنها صاغتها من مصادر أربعة، أحدها من مصدر "مقرب من حماس"، وثلاثة "من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية"، عزت من خلالها النصر الذي حققته حماس في هجومها المباغت، لعناصر، منها:
أولاً: التحضير الجيد للمعركة: عسكرياً وأمنياً وسياسياً:
بناء الحركة لـ"مستوطنة" وهمية في قطاع غزة نفسه، للتدرب عليها قبل بدء الاجتياح، على الإنزال العسكري واقتحامها تلك المغتصبة.
(مناورات قامت بها القسام في العام 2018م على كيفية أسر جنود صهاينة، كشفت عنها مؤخراً) منتصف عام 2022، وذلك وفقا لواشنطن بوست الأمريكية (9 أكتوبر).
إجراء تدريبات منذ مدة طويلة على مهام العملية، من دون أن تفصح لخلاياها المقاتلة عن طبيعة الاجتياح برمته، وعند أدوار تلك الخلايا المكملة لأعمال بعضها البعض في هذه الحرب. ووفقاً لمسؤول استخباري أمريكي؛ فإنّ التحليل الذي أُجري في أعقاب الهجوم يشير إلى أنّ "حماس كانت تستعد للهجوم منذ عدّة أشهر"، لافتاً إلى أنّها بدأت على الأقل بالاستعداد في
التمويه عسكرياً قبل الهجوم بالإيحاء بأن الحركة قد قررت ممارسة أقسى درجات ضبط النفس، للحد الذي جعلها تصمت عن اقتحامات للأقصى الشريف، وترك الجهاد الإسلامي ترد نيابة عنها في بعض الأحيان.
التمويه سياسياً بأن الحركة أولت الجانب الاقتصادي لتوفير خدمات معيشية للقطاع، وتشغيل عدد أكبر من العمال الغزاويين في أراضي 48، أولوية عن الجانب "النضالي" للحركة. يقول المصدر المقرب من الحركة: " بينما كانت إسرائيل تعتقد أنها تحتوي حماس التي أنهكتها الحرب من خلال توفير حوافز اقتصادية للعمال في غزة، كان مقاتلو الجماعة يتلقون التدريب، وغالبا على مرأى من الجميع". واعترف مصدر أمني "إسرائيلي" بأن حماس خدعت الأجهزة الأمنية "الإسرائيلية" وقال المصدر: "لقد جعلونا نعتقد أنهم يريدون المال".
التمويه أمنياً، بأن كتائب القسام، أضحت مشغولة بإعادة بناء جناحها في الضفة الغربية أكثر من اهتمامها بالتحضير لشن هجمات من غزة، التي وضعت لها أولية أهم برفع الحصار عنها. وفي الجملة، هي قد "أقنعت إسرائيل بأنها لا تريد القتال"، كما أنها لم تختر موعد اجتياحها انتقاماً من انتهاك صارخ للصهاينة، ما جعله مباغتاً إلى حد كبير. بل اختارت له موعداً لأعياد يهودية عادة ما يهيمن فيها على جنودها الاسترخاء والإهمال.
ثانياً: الخطة المعقدة التي اعتمدتها كتائب القسام:
والمتمثلة في القيام بالاجتياح على المراحل التالية، والتي نستقيها من رواية رويتر، ورواية قناة TG Channel Military Chronicle الموالية للكرملين الروسي، ومصادر إعلامية أخرى:
إطلاق كثيف للصواريخ باتجاه المدن والبلدات التي تحتلها "إسرائيل"، واستغلال كثافة الصواريخ في تغطية عبور العشرات من المظليين السياج الحدودي الفاصل بين القطاع وفلسطين 48 ، حتى إن تلك المظلات التي التقطتها الرادارات "الإسرائيلية" قد بدت كطيور بحسب الرواية الروسية، وقد استخدمت مراوح صينية بدائية لدفع الطائرات الشراعية لتخطي السياج الحدودي.
عمل المظليون على الاشتباك مع الجنود الصهاينة بهدف تأمين السياج من الجهة الأخرى، ما مكن مهندسي القسام من تفجير السياج في 7 نقاط، سمحت بالكاد بإدخال مجاهدين يركبون دراجات صينية حملتهم لتأمين الجانب الآخر أيضاً، ما سمح باللودرات لتوسيع تلك الفتحات لتسمح لسيارات الدفع الرباعي، لحمل المئات من الجنود إلى تنفيذ المهمة الأبرز، وهي اجتياح المغتصبات، لاسيما "كفار عزة"، وسيدروت، وتحرير 33 مغتصبة ومركزاً عسكرياً مؤقتاً، وأسر عدد كبير من هاربي حفلة بالقرب من كيبوتس رعيم بالقرب من غزة، علاوة على جنود النخبة الصهاينة، وقتل المئات منهم.
بمجرد وصول المقاتلين على الطائرات الشراعية إلى الأرض، قاموا بتأمين الأرض حتى تتمكن وحدة كوماندوز من النخبة من اقتحام الجدار الإلكتروني والإسمنتي المحصن، ومن ثَم هاجمت وحدة كوماندوز مقر قيادة الجيش "الإسرائيلي" في جنوب غزة وشوشت على اتصالاته ومنعت الأفراد من الاتصال بالقادة أو ببعضهم البعض، وفقاً لمصدر في المنظومة الأمنية الصهيونية أدلى بشهادته لرويترز.
أبرز الإعلام العسكري للقسام، تصويراً يوضح إلقاء قنبلة على أحد مراكز الاتصال والتحكم، على ما يبدو أنها أطلقت من طائرة درون، تحمل اسم الزواري (نسبة إلى محمد الزواري المهندس التونسي الذي ينتمي لكتائب القسام، والذي يعد مؤسس صناعة المسيرات القسامية، واغتالته "إسرائيل" في العام 2016)، ويبدو أن عدداً من تلك الطائرات قد استخدمت في الهجوم.
بعد أن شلت العديد من أجهزة المراقبة والترصد والكاميرات "الإسرائيلية" تمكن المئات من المقاتلين من اجتياح غلاف غزة على مساحة انتشار تجاوز مساحة غزة نفسها، وعادت الدفعة الأولى بعد أسر نحو 200 "إسرائيلي"، وقتل أكبر عدد من "الإسرائيليين" في الغلاف وغيره، بلغت نحو 1200 "إسرائيلياً" حتى كتابة هذه السطور، وكلا الرقمين بحسب يديعوت إحرونوت (11 أكتوبر)، وجرح أكثر من ألفين آخرين.
(قسامي يقتاد جندياً صهيونياً أسيراً)
في سويعات قليلة أحكم المقاومون قبضتهم على عشرات المغتصبات والنقاط العسكرية، فيما سيطر الانهيار على أداء الجنود الصهاينة، ضمنهم وحدات نخبوية من لواء "عوز"، الذي يُنظر إليه إسرائيلياً بأنه أفضل لواء مقاتل في "الجيش" الإسرائيلي، إضافة إلى مقاتلين من وحدة "اليمّام" ذائعة الصيت، واقتيد نحو 200 أسير صهيوني إلى داخل غزة، ووضعهم في أماكن سرية.
منعت المباغتة، وتوجيه نظر "إسرائيل" إلى السماء لتجنب آثار 7500 صاروخاً أرهقوا عمل القبة الحديدية، والعدد الكبير من الأسرى، "إسرائيل" من تفعيل إجراء "حنبعل"، الذي يستخدمه العدو عند أسر أحد جنوده، بتكثيف الضربات الجوية والمدفعية لمنع الآسرين والمأسورين معاً من الوصول إلى مأمنهم، فكثافة الأسرى تجعل من تنفيذ هذا الإجراء مجزرة "إسرائيلية/إسرائيلية" لا تتحملها أي حكومة.
شاركت سرايا بحرية قسامية في الهجوم على غلاف غزة، وساهمت في إرباك العدو بهجوم متنوع الضربات، أرضاً وبحراً وجواً.
تركت القناة الروسية، العديد من الأسئلة دون إجابة في تفاصيل هذا الاجتياح، منها:
ما التقنية التي تملكها حماس واستطاعت أن تعطل بها نظام الإنذار والأنظمة الإلكترونية على الحدود، والتي استثمرت فيها "إسرائيل" مليارات الدولارات، وفي بضعة دقائق أصبحت خردة غير صالحة للاستعمال؟
كيف لم يساعد العدد الكبير من الكاميرات وأجهزة الاستشعار في كشف الهجوم الفلسطيني وإيقافه، فضلاً عن الدوريات القتالية التي لم تكن قريبة لسبب ما، وكانت الطائرات الفلسطينية بدون طيار قادرة بسهولة على ضرب المدافع الرشاشة وأبراج الاستشعار، وعبرت فرق حماس الهجومية الحدود بهدوء؟
كيف تمكنت حماس خداع جهاز المخابرات "الإسرائيلي" ووحدته 8200 الأمنية التي تتجسس على مكالمات غزة، والتي تتفاخر بأنها تعرف أدق التفاصيل عن سكان غزة، وكيف طورت حماس نظام اتصالات لا أحد (من البشر) يعلم سره؟
كيف أمكن لحماس نشر 5000 صاروخ في موقعها قبل الهجوم، ونشرت قوات برية، وتخطت نظام الدفاع متعدد الطبقات والذي صرفت عليه "إسرائيل" مليارات الدولارات بتقنية من الحرب العالمية الثانية؟
....
من هذه التفاصيل يتبين أن الطوفان كان معجزاً للكيان الصهيوني، ولأجهزة استخبارية أخرى، لكن هل كانت كل الأطراف المعادية لحركة حماس لا تعلم حقيقة بالهجوم؟ هل انطلقت حماس في اجتياحها هذا، وهي مدركة لمغبة ذلك؟ هل يمكن تقود السيناريوهات إلى جعل الأهداف العظيمة للهجوم الكاسح أقل أهمية مما هو قادم بالنسبة لقطاع غزة نفسه؟ هل تحاول "إسرائيل" استغلال الاحتشاد العالمي معها لتنفيذ "ترانسفير" عبر إجبار أهالي غزة على النزوح لمصر، وبالتالي كسب
المعركة في النهاية بعد دفع ثمنها الطبيعي بسقوط هذا العدد من القتلى والجرحى والأسرى من شراذم الكيان الصهيوني فحسب أم أن الحركة قد استدرجت لتنفيذه من قبل طرف ما؟
تساؤلات ملحة لا تساق للتشكيك في النصر "المؤقت"، ولا للانزلاق نحو تفكير تآمري يسرق أحياناً الانتصارات، ويضخم من قدرات الأعداء، ويبخس المجاهدين بطولاتهم، بل لنوسع من دائرة التفكير حول السيناريوهات المتوقعة للحرب التي سنحاول عرضها في الحلقة القادمة (قريباً جداً إن شاء الله)، أما تلك الأسئلة فبعضها لا يملك أحد الإجابة عنها بسهولة في الوقت الراهن نظراً للمعلومات الشحيحة الموثوقة في هذا الفضاء، ولكن طرحها ومناقشتها يذهب بنا نحو بناء تصور ثم موقف واسترشاد حول ما هو قادم.. والله المستعان