السبت ، 21 جمادى الأول ، 1446
section banner

"طوفـــان الأقصــى" في وعي المنهاج

"طوفـــان الأقصــى" في وعي المنهاج

مشاعر ممزوجة من الفرحة والقلق.. البهجة والترقب، تنتاب كل مسلم مدرك لطبيعة الصراع في فلسطين وأبعاده، أمام حدث فريد جداً، يؤرخ لمرحلة جديدة، ويكتب بحروف عريضة في صفحات التاريخ الحديث البارزة. إنها المرة الأولى منذ العام 1948م التي يسمع فيها المسلمون عن عملية "اجتياح" أو "غزو" حقيقية للمناطق التي أعلنها الصهاينة دولة لهم، وهي المرة الأولى التي يسمع فيها المسلمون عن توغل داخل أراضي 48 لمسافة جاوزت في عمقها ما جاوزه الجيش المصري في سيناء في العام 1973م، حين آثر ألا يتجاوز حدود تغطية حائط الصواريخ (15 كيلو متراً)؛ فجاوز الفلسطينيون القنطرة، وبلغ حد توغلهم نحو 25 كيلو متراً في بعض الأعماق التي انساحت فيها كتائبهم شرق قطاع غزة. 

ولأن الحدث بالغ الضخامة، لم يمكن سبر أغواره في أيام قلائل؛ فإن الحديث عنه الآن يبدو مبكراً جداً، رغم كونه ضرورياً في الوقت نفسه؛ فحسبنا أن نقلب في بعض وريقاته الأولى، سعياً خلف تنشيط الفكر الجمعي، لعلنا نمسك بعض أطراف خيوطه التي لم تنكشف أطرافها الأخرى بعد، ولم تنبئ عن مآلات وتحولات سيقود إليها هذا الاجتياح غالباً، ثم كذلك، نهتبلها فرصة سوية للإفادة من بعض دروس ما حصل، فكرياً واستراتيجياً: 

هنا، وبغض النظر عن كل أبعاد ما نراه، وبقية الصور غير المكتملة فيه، وأسراره التي لم تنكشف بعد، ربما حُق لنا أن نؤكد على ما يخص طريقة تفكير المسلم في مثل هذه الأحداث: 

فأولاً: بعيداً عن السياسة واشتباكاتها ودهاليزها الموحشة، لابد أن تفخر الأمة بهذا الشباب المجاهد العظيم الذي سطر هذه الملحمة التاريخية؛ فأذل الصهاينة وقهرهم وكشف عوارهم وفتت هيبتهم في النفوس الضعيفة، وهؤلاء هم الأبطال الحقيقيون، الذين حققوا نصراً لا يمكن تجاهله مهما بلغت حدود توظيفه أو أحسن أو أساء الساسة المسلمون في الإفادة منه. 

أما في قلبها؛ فإن إيران لن تفوت فرصة كهذه لاستغلالها، لتجيير هذا النصر المرحلي لصالحها، لاسيما أنها غالباً قد أحيطت علماً بقرار الغزو الفلسطيني قبل تنفيذه، نظراً لعلاقاتها وتنسيقاتها مع حركة حماس، وهي سارعت بالاتصال هذه المرة بقادة "الفصائل الإسلامية"، لتهنئتها. لكن ألا يستقيم للمسلم أن يجمع في قلبه حباً لهزيمة الصهاينة، وإدانة لعملية غسيل سمعة إيران وتوابعها من الحوثيين الذين أسرعوا إلى إخراج مظاهرة ضخمة في صنعاء لإلصاق نفسها بعمل عسكري كبير ضد "إسرائيل"، ومن "حزب الله" الذي أحدث جعجعة حنجورية بغير طحين، ومن ميليشيات عراقية حاولت إلصاق نفسها بـ"محور المقاومة". تلك العملية التي تسعى من خلالها طهران لإبداء دعمها لـ"طوفان الأقصى"، وتأكيد ساسة الفصائل على مثل هذا الدعم؟! بالطبع، يبدو أن ذلك ممكناً؛ فإن أي نكاية للصهاينة ولمشروعهم يصب في صالح المسلمين، ولو كان لغيرهم حظ في توظيفه؛ لكن ما قد سيتم جنيه من ثمار، تخص الاضطراب الصهيوني، وانكسار مشروعه، ودق مسمار في نعشه، ومن تحرير متوقع لجموع الأسرى، ومن تأثيرات إيجابية أخرى قد يصعب حصرها الآن قبل أن تهدأ الأمور، وتتبين شروط التفاوض، وربما الحل، وما يهب من روح الجهاد والأخوة الإيمانية وسواها من المشاعر الإيمانية الجياشة، في شعوب الأمة الإسلامية ما يفرح أي مسلم، ولو جاءت بعض التفاصيل محبطة بعد ذلك. كما أن من "البساطة"، الوقوع في خلل مظنة تقديم طهران خدمات مجانية لـ"فصائل المقاومة"، والترفع عن حصد ثمرات ضريبة الدم التي يدفعها المجاهد السني – دون غيره – في قطاع غزة، والضفة أحياناً. فالتوازن إذن مطلوب، والاندفاع مذموم، في هذا المسار أو ذاك: أي أن إهمال جهود المجاهدين من الشباب الفدائي في غزة، الذي يبذل دمه وماله وعمره في سبيل الله، ونسيان الثمن الذي يدفعه الصهاينة في معاركه الخاسرة تلك، غير محمود، كما أن الاندفاع دون روية تغافلاً عن الدور الإيراني، ومكتسبات المشروع الشيعي التوسعي، تحت ذريعة ألا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأن الحديث عن الدور الإيراني ومشروعه في خضم هذه المعارك، محض خبال يعرقل مسيرة المجاهدين، هو ذهول عن أبجديات السياسة، لاسيما الإيرانية منها.  

ثانياً: أن الهزيمة النفسية التي استقرت في نفوس المسلمين، لابد لها من مقاومة ومجاهدة قوية، وكما أن هذه المقاومة تستقي من معين القرآن والسنة، فإنها كذلك لابد أن يغذيها وينميها الدعاة والمصلحون من أحداث كهذه تتجلى فيها قدرة الله سبحانه وتعالى على نصر المؤمنين، ولقد أحسن مطلقو "طوفان الأقصى" حين اتخذوا من الآية الكريمة ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ شعاراً لاجتياحهم المبارك؛ فكثير من القربات الإيمانية، من ذروة سنامها إلى أدناها يفتقر تحقيقها إلى هذا النمط من التوكل والانطلاق إلى تحقيقها بعد أخذ المقدور من الأسباب دون كثير تعقيد أو تباطء ذميم. 

إن العالم كله، وليس الكيان الصهيوني وحده، يعاني من هشاشة اجتماعية فاقعة، يكفي لتكسيرها ما لم يكن كافياً منذ زمن قريب، ولعل الصهاينة ذاتهم كانوا أقوى من ذلك، وأصبر على الحرب، من هذا الجيل الغارق في شهواته وماديته، وشغفه الزائد بالدنيا، وإذا كان القرآن قد أرشد إلى حرص اليهود الشديد على أي حياة؛ فإن هذا الجيل من أشد أجيالها جبناً وهلعاً وتعلقاً بالدنيا، ولهذا كانت هزيمتهم تعاكس كل الحسابات الأرضية للحد الذي يجعلنا حتى الآن غير مصدقين، بل منتظرين أن نستكشف أو تتكشف لنا أسباباً أخرى لهذا الانهيار الدفاعي الواضح في استحكامات غلاف غزة العسكرية والأمنية والاستخبارية. 

ثالثاً: أنه ينبغي أن لا يفارق تفكير المسلم أن ملايين المتظاهرين في كافة أرجاء العالم لن يردعوا العدو عن عدوانه، على الأقصى أو غيره من المقدسات، وأن مئات من المجاهدين الثابتين الصادقين وحدهم – بعون الله - قادرون على تحقيق معادلة الردع، وأن إحياء الأمة لا يكون أبداً بغير الجهاد. وهذا الجهاد، وإن كان قد تعرض لتشويه غير مسبوق في تاريخ الإسلام كله، وصار مجرد ذكره مدعاة لاستجلاب النقد واستحضار المحاذير، وأن نجاح الأعداء في حرف معظم حركات "الجهاد" عن جادة الحق، واختراقها وتوجيهها، وجرفها إلى مهاوٍ تدمر ولا تبني، وتؤخر ولا تقدم، لا ينفي أنه لا حل لمشكلة مثل الأقصى إلا بالجهاد، وإن فرار الجرذان من قطعان الغاصبين من حول الأقصى خلال اليومين الماضيين لم يكن ليحصل بسبب الاستهجان ولا المؤتمرات ولا المظاهرات، ولم يكن ليحقق الردع سوى ما أجملته الآية الكريمة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾. 

هذا المعنى، رغم استقراره في نفوس أصحاب الوعي من المسلمين؛ فإنه يغيب تدريجياً عن أذهان كثير من الشعوب، وعليه يتعين الإلحاح على التأكيد عليه، لإخراج المسلمين من غفلتهم ووهنهم واستقلالهم لأنفسهم وقدراتهم. وفي مقابل ذلك؛ فإن أثر الجهاد في الإحياء الإيماني لا يمكن إنكاره، وعليه ينبغي أن يظل حاضراً في خطاب الدعاة والمصلحين؛ فشعور الانتصار الحاصل الآن – بغض النظر عن التداعيات المحتملة – مشهود في جموع الشعوب المسلمة، وهو أوجد روحاً تسري حتى بين العصاة من المسلمين، وتمكنت من التسرب بين قضبان الجلاوزة المحكمة على عقول الشعوب ومزاجها العام عبر آلة إعلامية عملاقة تكرس للمجون والتفاهة والتغريب. 

إن من سيمكنهم إخراج أسراهم من السجون، هم أولئك القادرون على استبدالهم بآخرين، لا المتسولون على عتبات المنظمات الحقوقية، المتظاهرون بالحرية للأسرى والمسجونين.. سيجلس الأعداء صاغرين أمام هؤلاء، ولن يكترثوا بأولئك أو يعيروهم انتباهاً. 

رابعاً: أن الاستسلام لوضع المتلقي للصفعات والطعنات، لا محالة مفضٍ إلى تحقيق مآرب الأعداء، ولا يمكن معه أن تتحرك النهضة الإسلامية خطوات للأمام أبداً؛ فإن تحقيق أي تقدم في أوضاع كالتي نعيشها، أبرمت فيها المشاريع المضادة، وجهزت الخطط لإجهاض أي عمل إسلامي رتيب وتقليدي، هو أمر مستبعد جداً، وإن تحريك المياه الراكدة، والقيام بمبادرات غير متوقعة في شتى المجالات هو أول ممهدات النهضة، وأبجديات الانتصار. وما فعله المسلمون في غزة، كان من هذه الشاكلة، التي بها حصلت المباغتة، وتحقق أكبر قدر من المكاسب الظرفية. ولو أن الشباب الفلسطيني قد جلس أياماً يعد العدة خلف السور الفاصل، وحدود غزة لتمت تصفيته عن بكرة أبيه ولم يخط خطوة واحدة إلى الأمام.. هكذا أيضاً في المشاريع: الدعوية التوعوية، والاقتصادية، والتعليمية، والجهادية إلى غير ذلك، يجب أن تصبح مباغتة ولا نمطية وخارج نطاق الاستهداف والترصد. وعلينا أن نعي أن التقدم رهين المبادرات غير المتوقعة من قبل الآخرين، والتي تحاول أن تحلق بعيداً عن مجال تفكير الأعداء، وإلا؛ فلا مجال للتقدم، بل لمنع التراجع خطوات للخلف في ظل المكر الكبار الذي دُبر لهذه الأمة، وفي صدرها مصلحوها. 

خامساً: أن قلة محتسبة مبادرة متفانية تحقق الفرق، وتغير المعادلات، وبإمكانات بسيطة – إن صدقت النوايا – سيبارك الله عز وجل فيها، وسيتحقق بها الانتصار والتقدم. ونعود مذكرين بأن هؤلاء الفتية من الشباب المجاهد قد انطلقوا خلف هدف نقي واضح، هو تحرير الأقصى، وإيقاف مخططات تهويده، وتحرير الأسرى، وتمريغ أنف العدو الصهيوني، حتى إن خطاب "أبو عبيدة"، الناطق باسم "القسام" لم يُرد أن يجاوز ذلك، بخلاف الساسة الذين تراودهم بعض الحسابات السياسية الأخرى.

إن "طوفان الأقصى" يستحق المزيد من الورقات حول الاستنتاجات والتداعيات والتحليلات والملابسات، وهذا ما سيتم بسطه سريعاً مع تسلسل الأحداث الراهنة إن شاء الله في أكثر من حلقة قادمة. والله المستعان.