مائة عام على إلغاء الخلافة.. رحيل وأثر
لم يبدأ التردي في العالم الإسلامي منذ "إلغاء" الخلافة العثمانية في 3 مارس 1924م، لكن هذا التاريخ كان منعطفاً شديد الأثر على العالم الإسلامي، ولم يزل يعاني منه حتى الآن.
سقطت السلطنة العثمانية عملياً قبل ذلك بكثير، إذ تناوشتها الخلافات الداخلية، وتغلغل العلمانية قبل السقوط بنحو قرن، والميل للتغريب، وسوء إدارة الشعوب، والتراجع الديني، وتقديم العقل على النقل، وتنفذ الباطنية، وتسلل الماسونية، وتراجع العدالة، وشيوع الإرجاء وفشو المعاصي والآثام.. إلى غير ذلك.
وقد سقطت حقيقة يوم أن خُلع السلطان عبد الحميد الثاني، آخر السلاطين العثمانيين الذين حكموا الخلافة فعليًا حتى العام 1909 قبل خلعه، وقد استلم دولة شاسعة مهلهلة، قد نخرت في عظامها الصهيونية التى تسربلت برداء "يهود الدونمة"، وهم مجموعة من "المتأسلمين"، أي الذين ادعوا الإسلام وهم يهود. وقد كان مشهد الخلع مؤلماً حيث تقدم قاراصوه اليهودي ضمن وفد مجلس المبعوثان إلى جوار أرمني متعصب، وخونة آخرين، ليسلم ورقة إلى السلطان عبد الحميد رحمه الله بعد أن قاد الاتحاديون الانقلاب وحاصروا القصر، وألحقوا الهزيمة بالشيوخ وأنصارهم من العسكريين، وارتكبوا مجزرة بشعة.. لقد تم عزلك بموجب فتوى! وقد كانت الفتوى لمن سُمى زوراً بشيخ الإسلام، الماسوني الباطني موسى كاظم أفندي، الذي وقف يتلو فتوى تدعي وجود العزل لأن السلطان ابتعد عن الإسلام، فجاءوا ليقصوه تماماً!
حكم الاتحاد والترقي، ورجاله الباشوات العسكريين أنور وطلعت وجمال، فعينوا سلاطين كفزاعات حقل بعده، وبدأ الانهيار سريعاً جداً، سقطت أملاك الدولة في حرب خاضوها بخيانة وجهل، وفي غير الحرب، إلى أن جاء أتاتورك فانقلب مجدداً ليزيل ما تبقى من بقايا "الخلافة"، ففي العام 1923م أقام الجمهورية وترأسها، مع وجود خليفة منزوع الصلاحية، أبقاه مؤقتاً مناوراً بهذه الكلمات: "سيصبح شعب تركيا أكثر قوة، إذ ستكون دولة حديثة ومتحضرة، ليحقق إنسانيته وهويته من دون التعرض لخطر الخيانة الفردية. ومن ناحية أخرى ستسمو مؤسسة الخلافة باعتبارها همزة الوصل المركزية لروح العالم الإسلامي وضميره". ثم في العام التالي أوعز إلى برلمانه بإلغائه؛ فكان ما أراد حين وافق البرلمان التركي الموالي للغرب، تطبيقاً لاتفاقية لوزان، على إلغاء الخلافة في الثالث من مارس 1924 وافق البرلمان التركي على إلغاء الخلافة الإسلامية ليضع نهاية للخلافة العثمانية، بحجة أن "الدين الإسلامي سيسمو بالتوقف عن استخدامه كأداة سياسية"، طبقاً لخطاب أتاتورك أمام البرلمان قبل ذلك بيومين!
ورغم أن إلغاء الخلافة كان تحصيل حاصل، إلا أنه وقع على قلوب المسلمين وقع الصدمة، فبكاها الشاعر أحمد شوقي، بأبياته:
ضجّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ وبكتْ عليكِ ممالكٌ ونواحِ
الهندُ والهةٌ، ومصرُ حزينةٌ تبكي عليكِ بمدمعٍ سحاحِ
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسٌ أمحا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
إنّ الذين أستْ جراحكِ حربهم قتلتكِ سلمُهُمُ بغير جراحِ
هتكوا بأيديهم ملاءةَ فخرهم موشيةً بمواهبِ الفتّاحِ
نزعوا عن الأعناقِ خيرَ قلادةٍ ونضوا عن الأعطافِ خير وشاحِ
وانتقد تشجيع الغرب لأتاتورك، في تطبيق العلمانية وحربه على الدين، واستبداده برأيه بقوله:
هم أطلقوا يدهُ كقيصرَ فيهمُ حتّى تناولَ كلّ غير مباح!
غرتهُ طاعاتُ الجُموعِ ودولةٌ وجدَ السوادُ لها هوى المرتاحِ
بِالأَمسِ أَوهى المُسلِمينَ جِراحَةً وَاليَومَ مَدَّ لَهُمْ يَدَ الجَرّاحِ!
ولم يكن الأثر عاطفياً فحسب، فلقد ضاع المسلمين من بعدها على نحو لم يحصل أبداً في التاريخ منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، برغم كل مساوئ تلك "الخلافة" وابتعادها عن جادة الشريعة كثيراً، وروح هذا الدين.
لقد تتابعت المصائب منذ عزل السلطان عبد الحميد: اجتاح البلشفيون آسيا الوسطى والقوقاز، وضاعت البلقان، وانهارت المقاومة في العراق والشام، وبدأت إرهاصات قيام "إسرائيل"، وانهارت ممالك إسلامية كثيرة في آسيا وإفريقيا، مما لا يتسع المقام لذكر آثارها جميعاً في تلك السطور.
والحق، أنه بتتبع ما قد نجم عن سقوط "الخلافة" من آثار في العالم برمته، يتبين أن هذا الحدث الجلل الذي لم يحصل في تاريخ المسلمين أبداً على أيدي من ينتسبون إليه اسماً أبداً، قد أفضى إلى مصائب لم يزل يتردد صداها إلى اليوم، بما يمكن جمعه في كتاب كبير، يتناول آثار ذلك وتبعاته في كل بلد، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والأهم من ذلك فكرياً، عقيدة وروحاً وانتماءً.
وهو قمين بأن يفشو العلم به إعلاماً وبحثاً وتعليماً بين المسلمين، ليدركوا أهمية أن يتنادوا إلى "الجامعة الإسلامية" من جديد، ففيها العقيدة والعزة والمنعة والرفاه، بالصورة المتاحة حالياً من خلال تجمعات ودعوات وهيئات وروابط ومؤسسات وجمعيات ونحو ذلك، مما يلم شعث الأمة ويوحد جهود عامليها.
وإذا كان ما يحدونا الآن من "فن الممكن"، وما ينبغي أن يسترعي انتباهنا، ونتنادى إليه، هو ما يتبقى لنا من فتات هذا الصرح العظيم/الخلافة، الذي ذهب أدراج الرياح.. إن الدرس العظيم الذي يتعين علينا كعلماء، كطلاب علم، كدعاة، كمصلحين، كمؤثرين، كأفراد في هذا المحيط الهائل من ملياري مسلم، هو أن نتمسك بما تبقى.. أن نتمسك بأي عمل إسلامي قائم، كمؤسسة، كهيئة، كمركز دعوي؛ فلقد ورثت جماعات الدعوة في العالم، هذه "الخلافة"، وجعلت نصب أعينها إقامتها؛ فأخفقت في معظمها عن تحقيق كثير من أهدافها المرحلية، وتراجعت بل اختفى الكثير منها، وورثت تلك الجماعات مشاريع دعوية ومؤسسات وجمعيات، نجح منها من نجح، وتلاشت أخريات. ولقد صار من الواجب على المسلمين، لاسيما علماءهم ووجهاءهم التشبث بتلك البقية؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.. لابد من اعتبار ما تبقى، نويّات يمكن استنباتها لتخرج بفضل الله شجرة وارفة عظيمة. لابد من أن يعمد المصلحون إليها تطويراً وتوسيعاً وتفريعاً وتقوية، وإلا؛ فإن ذهبت فما المأمول من بعد ما تبقى اليوم من آثار؟!