الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1446
section banner

محددات النظر في التغيير البنغالي

محددات النظر في التغيير البنغالي

حاملة جند صغيرة يطل منها عنصر عسكري، مبتسماً، يهتف "الله أكبر"، والجماهير تردد من خلفه التكبير بكل سعادة؛ فلقد ذهبت ديكتاتورية حسينة واجد، وحل نظام جديد يبعث في النفوس النبغالية الأمل.

ليت كان بالإمكان مشاطرة تلك الجموع فرحتهم بزوال حكم استبدادي، كان عسكريوه يقفون خلف غلظته وطغيانه. لا تدرك الجماهير لفرط قدراتها الضعيفة، وخياراتها المحدودة أن تغييراً في سلطة متجذرة لا يمكن أن يحصل بالهتافات وتجميع الحشود الهادرة. 

"الاستعمار" منذ نحو قرنين، ومن بعده النظم العسكرية، درسوا جيداً سلوك الشعوب، وأيقنوا أنهم لا يمكنهم مقاومة نشوة النصر تلك، وليس بمقدورهم إلا أن يصدقوا أنفسهم، أنهم أصحاب التغيير الحقيقيين، فسار كل في طريقه، الجماهير ترفع عقيرتها، وتحتشد، وتقاوم (سلمياً)، ويسقط منها (الشهداء) أو القتلى، وتظفر القوة الحقيقية بثمار التغيير. 

لا أحد في زحمة الأفراح سيجرؤ على القول بأنكم أيها الشعب الثائر الأبي إنما مهدتم الطريق نحو انقلاب عسكري، هو من قاد حسينة واجد إلى الطائرة الحوامة وليست الجماهير المحتشدة التي سهلت عمله. 

مع ذلك؛ فإن دفع الله الناس بعضهم ببعض، حقيق أن يُستغل، وأن يحاول الحكماء الظفر بأفضل المكاسب في تلك اللحظات القلقة، والتي لا يرى فيها العسكريون أنهم أقوياء بما يكفي لقمع الجماهير، وإلا ما انحنوا لعاصفة الغضب الفوارة، وتواروا قليلاً خلف شخصية جاءت من الغرب، كالعادة، وبمؤهلات عالية، لتتصدر المشهد. 

واقر الزمان، قائد الجيش، ومهندس الانقلاب، الذي أرغم واجد على الاستقالة، هو ذاته الذي عمل بشكل وثيق مع حسينة، حيث شغل منصب ضابط الأركان الرئيسي في قسم القوات المسلحة التابع لمكتب رئيس الوزراء، ثم رئيساً للأركان مشرفاً على مجازر هذه "الثورة الطلابية"، تستقوي به، وبغيره من جنرالات الدم على الشعب البنغالي المسكين. وهو ذاته، الحاصل على دراسته العليا (الماجستير) في إحدى مفارخ الانقلابات العسكرية البريطانية (كينجز كوليدج في لندن)، حيث خرجت العديد من الانقلابيين في العالم الإسلامي. 

والغرب الذي نفذ عشرات الانقلابات، وكذا تلامذته العسكريون، لا يريدون أن يغيروا السيناريو، ولماذا يغيرونه ما دام ناجعاً!

مظاهرات تتفجر، فتتصدى الشرطة حتى تعجز، فيتدخل الجيش قليلاً لقمعها – أو لا يتدخل أحياناً – ثم يصحو ضميره العسكري فجأة؛ فـ"ينحاز" للشعب؛ فهو دائماً "حامي الشعب وإرادته ودستوره"، فيرغم الديكتاتور/الديكتاتورة على التنحي! ثم يلبي من بعد طلبات قادة الحراك الشبابي، الذين يظهر بعضهم فجأة للعب دور أكبر مما قاموا به في تعبئة الجماهير والتضحية من أجل التغيير. 

لو عاد الشعب إلى الوراء قليلاً وتذكر سبب ثورته، لوجدها كانت من أجل منع قرار حسينة بتخصيص ثلث الوظائف الحكومية لأبناء العسكريين الانفصاليين المتسببين في شق باكستان إلى شطرين في العام 1971م، ثم يتذكر أنها تصلبت فرفضت احتجاجاتهم حتى غادرت منصبها لأجل إرضاء العسكر، الذين لم تنبس لهم شفاه رافضة هذا التمييز حتى يوم الرابع من أغسطس، قبل ترحيل الديكتاتورة إلى الهند بيوم واحد!

ثم لو تأمل المشهد التالي، لأمكنه معرفة توجه الحكومة الجديدة، بدءًا من رئيسها د. محمد يونس، مؤسس بنك جرامين (بنك تأسس بفكرة إقراض الفقراء بمبالغ صغيرة جداً)، والحاصل على جائزة نوبل، والجائزة الرئاسية الأمريكية، وجائزة الكونغرس الأمريكي، وامتداداً إلى وزيره العميد متقاعد سخاوات حسين، المتخرج من كلية القيادة والأركان العامة للجيش الأمريكي (USACGSC — 1981-1982)، ووزيره أديل الرحمن خان الحاصل على وسام روبرت ف. كينيدي لحقوق الإنسان، والوزيرة الناشطة البيئية سيدة رضوانة حسن التي أطلقت عليها مجلة تايم لقب "أبطال البيئة" في عام 2009، إضافة إلى مسؤولين من الحرس القديم، كوزير الخارجية السابق، وتلميذتي د. محمد يونس، فريدة أختر، الناشطة النسوية، الداعية إلى تعزيز المساواة بين الرجل والمرأة، ونورجاهان بيجوم المدير العام بالإنابة لبنك جرامين، عضوة مؤسسة جرامين بالولايات المتحدة، والمشاركة في قمة فورتشن لأقوى النساء لعام 2007 في لوس أنجلوس. 

ومروراً بممثلي "الحرس القديم"، من المسؤولين السابقين، كأمثال حسن عارف المدعي العام السابق لحكومة بنغلاديش، ود. صالح الدين أحمد، المحافظ السابق لبنك بنغلاديش، وتوحيد حسين، وزير خارجية بنغلاديش السابق، وانتهاءً بممثلي الحراك الطلابي، كناهد إسلام، وآصف محمود، وبعض المحافظين (المنحدرين من أسر متدينة ومن قاموا بأنشطة دينية)، كآصف نصرول ود. خالد حسين. 

لا يبدو توجه الحكومة الجديدة باعثاً للتفاؤل، كما أن دور العسكر في "تهريب" حسينة واجد للهند، التي كانت الداعم الأساسي لها طوال فترة حكمها الطويلة (15عاماً)، في بلد بنى "شرعيته" على الانفصال عن بلد مسلم (باكستان)، مهما كانت مظالمها الحقيقية التي استغلها والد حسينة، مجيب الرحمن، للانفصال، ولم تزل معظم قادة النظام والحراك الطلابي تقبل بدوره الانفصالي، وترفض سياسته الديكتاتورية، هو وابنته، هذا الدور يشي بأن عسكر بنغلاديش ليسوا بعيدين تماماً عن التأثر بالنفوذ الهندي، الذي يقول نور الحق نور، رئيس مجلس حقوق الشعب (ثوري)، إنه قائم منذ عقود، ولم يزل مستمراً، حيث "قدمت الهند دعمها بالإجماع للشيخة حسينة في انتخابات 2014 و 2018 و 2024 . وحتى عندما يتحدث العالم أجمع لصالح الديمقراطية في بنغلاديش؛ فإن الهند تسعى جاهدة إلى جلب حسينة إلى السلطة"، كما إنهم، إن بدلوا حصانهم أثناء أو قبيل "الثورة" فللولايات المتحدة الأمريكية، وربما الصين التي يتردد أنها "شجعت" الثورة نكاية في الهند!

لكن مهما يكن من أمر؛ فنحن إزاء محددات يمكن من خلالها فهم ما قد حصل في بنغلاديش: 

أولها: أن ما يحصل من انتفاضات كتلك، لا تنتهي بشكل عفوي، حتى لو كانت قد انطلقت بشكل عفوي أو بريء، وهي مهما تحلى مفجروها بالإخلاص أو التدين أو الوطنية؛ فإن مراكز القوى هي التي تنجذب إليها السلطة بقوة جاذبيتها الآسرة.

ثانيها: أنه ليس من الحكمة توهم قدرة خيالية لجماهير لا تملك قيادة ولا قوة حقيقية على التغيير، ولا توهم وقوع السلطة في يد الشعب، فيما قد نفذ العسكر بالفعل انقلاباً حقيقياً مكتمل الأركان، ومن أركانه تلك: الغطاء الشعبي الذي يزيد سلطته رسوخاً لا انسحاباً باعتباره الجهة الوحيدة المنظمة القادرة على الإمساك بأركان الدولة أن تنهار أو يصيبها داء الفشل أو الفوضى. وأن على قادة القوى أن ينطلقوا من قاعدة الممكن والمتاح، والضغط المتزن، القادر على تغيير الدفة بالتدريج نحو خيار الانتخابات العاجلة، وتحقيق قدر من التوازن بين القوى المؤثرة في المشهد بما فيها الجيش البنغالي.  

ثالثها: أنه إذا كانت السيناريوهات متشابهة إلى حد بعيد؛ فإن النهايات ستكون غالباً متشابهة، إما بتبديل تحالفات النظم مع القوى الدولية (نماذج الساحل الإفريقي كمثال)، أو تقسيم وفوضى (ليبيا وسوريا واليمن)، تحولات بنوية في عقائد الدول، والتمهيد لمزيد من التفسخ المجتمعي والاقتصادي وغيرهما (نماذج تونس ومصر).

رابعها: أنه إذا كانت المآلات متوقعة؛ فإن انخراط الحركات الإصلاحية في مواقف مشابهة لنظائرها في التجارب الفاشلة هو درب من دروب الانتحار، وبالتالي، على الحركات الإصلاحية أن تنضج نماذج تفاجئ خصومها بقدرتها على امتصاص تلك الأحداث، وتجييرها لصالحها من دون الاستهداء بالتجارب الفاشلة لنظائرها. وهذا يستدعي نقاشاً جاداً بعيداً عن "ديماغوغية الثورات" وعواصفها الهادرة، وتفاصيلها المشتتة، ودواماتها المغرقة. 

يدب اليأس في نفوس متأملين لأحداث بنغلاديش، حينما يطابقوا مشاهد "الثورة" بأمثالها، حتى في ملاحقة بعض الوزراء المدنيين الضعاف، وتنظيف "النشطاء" للطرقات، وتنظيم الشباب للمرور حين انسحبت الشرطة.. وتصريحات القادة الجدد عن مناهضة "الفساد".. إلى غير ذلك، لكن الأمل يظل معقوداً إذا ما تعلم الإصلاحيون الدرس، وبنوا موقفاً يضعهم في دولاب التغيير والإصلاح الحكيم، ولا يصدرهم في النهاية إلى السجون ومقاصل الإعدام.