الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1446
section banner

"طوفان الأقصى"محطة الهدنة من الزاوية الصهيونية

"طوفان الأقصى"محطة الهدنة من الزاوية الصهيونية

 

تُرى هل هي المحطة قبل الأخيرة في "طوفان الأقصى" كما يأمل كثير من المناصرين والمتعاطفين مع غزة وأهلها ومقاومتها، أم هي استراحة لالتقاط الأنفاس، وتحقيق أهداف مرحلية لن تتوقف حتى القضاء الكامل على حركة حماس كما يُصوِّر نتنياهو وأركان حكومته؟ 

بدأت الهدنة صباح الجمعة، ومعها صفقة تبدو خجولة، لكنها بالغة الأهمية؛ ففي صورتها التجريدية الأولية، هي عملية رابحة للكيان الصهيوني الذي سيفرج عن 150 أسيراً فلسطينياً من النساء والأطفال في مقابل الإفراج عن أسرى صهاينة دون الـ19عاماً أسرتهم كتائب القسام، في إطار هدنة لمدة أربعة أيام قد تمتد لعشرة، وسماح بإدخال مائتي شاحنة مساعدات إغاثية للقطاع، و6 شاحنات وقود لتوليد الطاقة، وغاز الطهي. ويتردد صهيونياً على لسان تسفي برئيل الكاتب البارز في هآرتس العبرية اليسارية أن ثمة بنداً يتم تجاهله في "إسرائيل"، يعد هو "البند الأكثر إثارة للاهتمام في الاتفاقية" بحسب برئيل، و"هو اتفاق سحب قواتها من طريق صلاح الدين، الشريان الرئيس بين شمال وجنوب غزة". فلأول وهلة تبدو الصفقة مجحفة للفلسطينيين الذين بادلوا في العام 2011م أسيراً صهيونياً في مقابل 1027 سجيناً وأسيراً فلسطينياً.

على أن الصفقات لا تقاس بنسب التبادل، وإنما بمردود ذلك على كلا المعسكرين المتجابهين، بما يضمانه من دول وشعوب ستتأثر بنتائج تلك الصفقة (إن امتدت واكتملت) بدرجات أقل مما سيتأثر به الطرفان المتصارعان، حماس و"إسرائيل"، والنتائج كثيرة، وموحية بأن ثمة تقدماً بارزاً أحرزته حركة حماس في تلك المعركة، برغم الثمن الفادح والمدمر في غزة (المدنية). 

أيضاً بدلالات الوصول لتلك الصفقة، والتي تتجلى في الجانب الصهيوني في نقاط، أبرزها ما يلي: 

رضوخ العدو الصهيوني، لما كان قد استبعده بادئ الأمر، من التفاوض مع جهة رفض الاتفاق معها، وأعلن عن حرب لا تنتهي إلا بزوالها، فها هو يذعن للتعامل مع حركة حماس كطرف، رغم أنه منذ اليوم الأول للحرب أعلن عن أن هدف الحرب هو اجتثاث حماس والمقاومة، وعدم القبول بتوليها أي جوانب إدارية مستقبلية في قطاع غزة، وها هو يجد نقاطاً للاتفاق معها، والتفاهم مع طرف وضعه في معادلة صفرية يفترض بها أن تمحو وجوده لا أن تتبادل معه الأفكار والشروط، وتقايضه بالصفقات. وفي الهدنة دلالة واضحة على إخفاق مبدئي لحكومة الحرب التي كانت ترفع شعار "لا لوقف الحرب، ولا لصفقة الرهائن"، وهي الآن تبادل أسراها بأسرى فلسطينيين، وضعت حماس كلا القائمتين ووقعت عليها "إسرائيل" مع تعديلات طفيفة.

إعلان مبطن بالهزيمة العسكرية على الأقل في المرحلة الأولى من الحرب الوجودية التي لم يحقق أي من أهدافها المعلنة، التي كان منها تدمير حماس، وتحرير الأسرى حرباً لا سلماً، وإقامة نظام جديد في غزة، لم يزل عاجزاً عن تحديد معالمه أو جلبه إلى حكم القطاع. لاسيما بعد أن تلقى ضربات غير مسبوقة من تنظيم محدود الإمكانات تمثل في قتل وجرح المئات من العسكريين في الاجتياح البري الفاشل، وتدمير 335 دبابة وآلية عسكرية (بحسب بيان أبي عبيدة الأخير قبل الهدنة). ودلالة ذلك أن الهدنة من الجانب العسكري تمثل أول اعتراف "إسرائيلي" غير مباشر بفشل العملية العسكرية البرية التي كانت تهدف إلى محاولة تخليص الرهائن بالقوة العسكرية، أو لنقل على الأقل: فشل المرحلة الأولى.

الاضطرار إلى الذهاب إلى هدنة لإنقاذ ألوية عسكرية "إسرائيلية" كاملة من التدمير الجزئي بعد أن تدمرت قوات غلاف غزة، وتضرر قوات النخبة غولاني بشكل كبير، وتدمير نحو 15% من القوة المدرعة "الإسرائيلية" جزئياً أو كلياً (تمتلك "إسرائيل" 2200 دبابة، تم تدمير 335 في التوغل البري وحده)، كما أن تل أبيب اضطرت إلى تسريح عدد كبير من جنود الاحتياط الـ330 ألفاً التي قامت باستدعائهم من قبل، وإعادتهم إلى سوق العمل لوقف النزيف الاقتصادي الهائل في الاقتصاد "الإسرائيلي" جراء الحرب، ولعدم الحاجة إليهم الآن في ظل حرب تخسر فيها "إسرائيل" كلما دفعت قوات أكبر إلى أطلال شمال غزة المدمرة، علماً بأن رواتب جنود الاحتياط الشهرية تكلف ميزانية الاحتلال 1.3 مليار دولار (بمعدل 4 آلاف دولار لكل جندي علاوة على أثره السلبي على سوق العمل نفسه). والهدنة في الحقيقة، تمنح "إسرائيل" فسحة من الوقت لترتيب قواتها وإعادة تموضعها وتغيير خططها الفاشلة، والتي أفضت إلى خسائر فادحة في قواتها بغزة.

دخول الاقتصاد "الإسرائيلي" مرحلة الخطر مع الشلل الحاصل بسبب استدعاء الاحتياط، وبسبب الصواريخ المنهمرة على تل أبيب تحديداً، وبسبب التخارج الاستثماري الكبير من السوق "الإسرائيلية"، إذ تشير التقديرات إلى أن "إسرائيل" قد تتكبد خسائر ما بين 51 و60 مليار دولار إذا طالت الحرب إلى ما بين 8 أشهر إلى سنة كاملة، أي نحو 10% من الناتج المحلي لها، في حين يتكبد سوق العمل الصهيوني خسائر تبلغ نحو 5 مليارات دولار شهرياً، بحسب ما يقول أرباب العمل الرئيسيين في السوق "الإسرائيلي". وتنقل بلومبرغ  عن مسؤول صهيوني في وزارة المالية "الإسرائيلية" قوله إن "إسرائيل" ستواجه عجزا كبيرا في ميزانيتها للعامين المقبلين قد تصل إلى 9% من حجم ناتجها المحلي، وتنقل أيضاً عن مكتب الإحصاء "الإسرائيلي" بياناً يفيد بزيادة معدلات البطالة بنسبة 10% منذ أكتوبر الماضي، وتقدر وكالة بلومبيرغ خسائر "إسرائيل" العسكرية المباشرة بنحو 260 مليون دولار يومياً (أي 12 مليار دولار حتى الهدنة)، بخلاف الآثار الناجمة عن الحرب على الاقتصاد "الإسرائيلي" بشكل غير مباشر. ونشرت وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" تقريراً خاصاً عن الاقتصاد "الإسرائيلي" خفضت فيها توقعاتها لتصنيف "إسرائيل" من "مستقر" إلى "سلبي"، وكذلك فعلت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، وهو ما سيجعل "إسرائيل" تدريجياً بيئة غير جاذبة للاستثمار. أما ديون "إسرائيل" بسبب الحرب فقد بلغت 6 مليارات دولار لسد عجز شهر أكتوبر فقط في الموازنة.  

ساهمت الأزمتان الأمنية والاقتصادية "الإسرائيلية" الداخلية، في ارتفاع أصوات أهالي الأسرى يوماً بعد يوم بعد أن تسرب اليأس إليهم في نجاح المسار الدموي الغاشم الذي انتهجه نتنياهو وأركان حكومته في مسعاهم لتحقيق انتصار كاسح على حركة حماس، ومن ثم "تحرير الأسرى"، وبدا أن الحكومة الصهيونية عاجزة تماماً عن تحقيق أي من أهدافها، ما عاظم من ضغوط الجبهة الداخلية وحولها إلى مرتكز رئيس يقود إلى إبرام صفقة بدلاً من سياسة "الهروب إلى الأمام" التي تتخذها الحكومة، والتي أمسى سلوكها غائماً لا يَبين ما إذا كان يقتل ويدمر لإعادة الهيبة إلى الكيان الصهيوني، وإعادة مفهوم الأمن الصهيوني المهدر منذ 7 أكتوبر، أم يرنو لتحقيق أهداف شخصية لقادة الكيان تبقيهم في السلطة وتمنع محاكمتهم. لقد استيقنت عائلات الأسرى، ثم عائلات جنود الاحتياط، وعائلات الجنود الصهاينة في غزة أن قادة تل أبيب يسيرون بالقاطرة ليس نحو عودة الأسرى، بل لانتقام أخفقوا تماماً في تحقيقه. 

ولعل واحدة من أكبر دلالات الهدنة والصفقة، رغم كل ما يعتريها من عقبات وغموض، هو حالة التشقق الداخلية الصهيونية، التي ظهرت في الشارع "الإسرائيلي"، والذي بدأ يتواجه بشكل مباشر كفريقين أحدهما يطالب بوقف الحرب والمهزلة العسكرية، وإنقاذ الأسرى، والآخر يصر على الاندفاع في حرب مجنونة فاشلة حتى الآن لم تنجح إلا  في التدمير ومنح حماس زخماً شعبياً وقوة تفاوضية، وكذلك الضرر البالغ الذي حدا بأكبر داعمي "إسرائيل"، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الضغط باتجاه الهدنة لتحقيق عدة أهداف: أولها: منح "إسرائيل" خط رجعة يمكنها من خلاله التدخل لإنقاذ القوات الصهيونية من الغرق في مستنقع غزة، حيث يمثل الضغط لإنقاذ "إسرائيل" أحد دوافع واشنطن من ممارسة هذا الضغط، وثانيها وثالثها معاً: إنقاذ بايدن نفسه من السقوط في الانتخابات القادمة من جهة (بعد تراجع شعبيته)، والحفاظ على العقيدة السياسية الأمريكية الراسخة في ضرورة دعم الكيان الصهيوني من جهة ثانية، تلك العقيدة التي غدت اليوم محل شك في ظل تصاعد الرفض الشعبي الأمريكي لدعم مجازر الأطفال والمستشفيات في غزة، وبعد أن أظهرت العديد من استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أن بايدن قد بات يعمل ضد الإرادة الشعبية؛ وقد أظهر أحدها، وهو استطلاع لرويترز وإبسوس الأسبوع الماضي، أن نسبة الأمريكيين الذين يطالبون أمريكا بدعم "إسرائيل" قد تراجعت من 41% إلى 32% منذ بدء الحرب. فيما وافق 68% على "وجوب وقف إطلاق النار ومحاولة التفاوض".

 الدلالة الأبرز خارجياً أن سمعة "إسرائيل" الدولية قد سُويت بالتراب، وأن الاحتشاد الجماهيري ضدها في العالم، قد أرغمها على البحث في حلول أخرى تعيد لها شيئاً من سمعتها المسكوبة، التي أظهرتها ككيان متوحش متعطش لدماء الأطفال، وأحال جيشها في نظر المخدوعين في الغرب من "جيش أخلاقي" (في تصورهم المشوش) إلى "عصابة مجرمة"، وجنوده من "مقاتلين" إلى "قاتلين" لا يتجاسرون إلا على الأطفال والنساء والأطباء والصحفيين! إن "إسرائيل" رغم كل إجرامها المستمر حتى وقت قريب، والذي يتوقع أن يستمر، قد غُلت يداها كثيراً عن ارتكاب ما هو أفظع بعد الضغوط الجماهيرية في العالم كله، فلجأت إلى الهدنة في محاولة لإيجاد مخرج، تراه في الوقت الراهن خياراً تبادلياً مع القتال الموعود بعده، والذي أكد حصوله مراراً نتنياهو وغالانت وزير عدوانه، لكن قد تراه تحت مروحة من الضغوط الداخلية والخارجية، السياسية والعسكرية والشعبية، حلاً أوحد للخروج من عنق الزجاجة التي حشر اليمين الصهيوني الحاكم كيانه وجيشه فيه.

هذه أبرز الدلالات، وهي لا تقتصر إلا على ما تبوح به الأحداث في الوقت الراهن، إذ ليس من الحصافة أن يندفع المتعاطفون مع القضية ظانين أن المعركة قد انتهت، وأن النصر قد تحقق، فيما يتحضر العدو لجولة، أكد مرات أنها ستكون أكثر شراسة وقسوة. فبمقاييس الصراع، نحن لم نصل بعد إلى نقطة النهاية لهذه المرحلة؛ فقادة "إسرائيل" يدركون جيداً أن إنهاءهم الحرب الآن سيكون بمثابة دق مسمار أخير في نعش "إسرائيل".

إن الولايات المتحدة وأوروبا لن يسمحا كذلك لحماس أن تقطف ثمرة نصر وتمثل أيقونة لكل الرافضين للهيمنة الغربية على العالم.. محال أن يرضوا بذلك الآن ولا بعد الآن إلا حالما يصلون إلى نقطة لا يمكن تجاوزها في الحرب والعدوان وممارسة الضغوط الموجعة على الطرف الآخر، ولا يُرى في الأفق أنهم قد وصلوها بالفعل حتى الآن. 

اليمين الصهيوني أيضاً لن يقبل بهزيمة كهذه. المقبول الوحيد لديه في حال آلت الهدنة إلى أخرى ثم وقف "دائم" لإطلاق النار هو ترتيب يجرد حماس من كثير أو من بعض مما اكتسبته، عن طريق التفاوض.

 

وللحديث بقية بمشيئة الله في استعراض تالٍ لدلالات الهدنة على الطرف الآخر/حماس ومن يصطف معها.