الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1446
section banner

مرة أخرى.. المسكنات لن تشفي وساوس العنصرية بتركيا

مرة أخرى.. المسكنات لن تشفي وساوس العنصرية بتركيا

"تركنا مساكننا في قلوب اللاجئين والمضطهدين وحاولنا الدخول إلى القلوب القاحلة للعنصريين والمتكبرين ممن لا يدرون شيئا عن العرفان بالجميل. في الوقت الذي كنا نحاول فيه كسب رضا هؤلاء العنصريين بتنا نواجه مخاطر فقدان أرضيتنا الأخلاقية والإنسانية التي كنا نقف عليها"، المستشار السابق للرئيس أردوغان، ياسين أقطاي.

"والله لأفضل العيش ليس مع خمس ملايين فحسب بل مع خمسين مليون سوري بدلاً من العيش معك في هذا البلد. عندي قواسم مشتركة أكثر معهم مما معك. عندي تاريخ مشترك أطول معهم مما معك. أنت بالنسبة لي أكثر غرابة من السوري. إن كان يجب على أحد أن يغادر، فارحل أنت! ارحل ليعيش الأتراك، والأكراد، والعرب تحت العلم ذي النجمة والهلال في هذه الأراضي مرة أخرى بسلام؛ اذهب لتزدهر، وتفرح، وتتنفس هذه الأرض". كبير مستشاري أردوغان السابق، وكاتب خطاباته قبل 10 سنوات، النائب السابق، أيدين أونال.

كلام جميل، يجمع بينه قاسم مشترك، هو أن كاتبيه يحملان لقب "السابق"! فرغم تأثيرهما المعقول في الرأي العام المحافظ، كونهما كاتبين معروفين، إلا أن أثرهما السياسي ضئيل جداً وسط منظومة اختطت طريقاً براغماتياً، يتصور أن بمحافظته على بقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة منفعة كبرى تهون معها تضحيات جمة، ولو كانت في صلب القيمة الأخلاقية التي انبنت عليها الفكرة الإسلامية برمتها، الأخوة الإيمانية..

يصيب أقطاي كبد الحقيقة، حين يتحدث عن "مخاطر فقدان أرضيتنا الأخلاقية والإنسانية التي كنا نقف عليها"، لكن عليه أن يزيد أيضاً مخاطر جمة أخرى، تتعلق بفقدان المكاسب السياسية والاقتصادية أيضاً.

يفاخر الرئيس التركي قبل أيام بأنه "من الناحية السياحية، كان من المهم جدًا بالنسبة لنا أن يأتي ما يقرب من 7 ملايين سائح إلى بلدنا"، حيث يدرك الرئيس أن لهذا التدفق السياحي أثماناً سياسية عليه أن يدفعها لروسيا، ومنها تعويم سفاح دمشق، ومجرم إبادتها الجماعية، بشار الأسد. لكن ربما ما يغب قليلاً عن الحسبان أن في مقابل هؤلاء المنفلتين أخلاقياً الذين يدنسون الأناضول بسياحتهم، هناك 6.3 مليون سائح عربي زاروا تركيا العام الماضي باتوا مترددين كثيراً في حزم حقائبهم للتوجه إليها هذا العام، بسبب سيل الأخبار الجارفة عن عنصرية حبست كثير من السوريين في بيوتهم، مخافة ثنائية العدوان أو التهجير التعسفي. 

الآن، يتحدث معنيون بالعقار في تركيا أن كثيراً من العقارات المطروحة للبيع تخص متجنسين أمضوا ثلاث سنوات على منحهم الجنسية، ويمكنهم الآن بيع عقارهم التجنيسي، والتخارج المالي منها. مستثمرون خليجيون أيضاً يخططون للمغادرة أو يحجمون عن المجيء لتركيا أو يفكرون ألف مرة قبل أن يبحثوا قضية الاستثمار في تركيا. 

وزير التجارة التركي "عمر بولات" يقول من ناحيته لصحيفة صباح: نواجه مشكلة كبيرة في نقص اليد العاملة في تركيا، على سبيل المثال، لو غادر اليوم 25 ألف أفغاني البلاد فلن يكون هناك زراعة أو تربية الماشية. ووسائل إعلام تركية محلية تقول إن الإنتاج قد انخفض في المنطقة الصناعية بولاية قيصري، وتوقفت بعض المصانع بشكل شبه كامل بسبب تردّد العمال السوريين من الذهاب إلى عملهم عقب الأحداث التي شهدتها المدينة مؤخرا، وأن أرباب العمل يبحثون عن طرق لجلب العمال اللاجئين إلى عملهم.

أهذا ما كان يبغي أوزداغ وأوزيل ومن يدور بفلكهم؟ نعم، ذلك ما كانوا يبغون، وما مردوا عليه في كل موسم سياحي، وفي كل نهضة تحاول الحكومة التركية إحداثها في الاقتصاد. إنها عملية إفشال واضحة تمهيداً لفوضى، بدأ رئيس حزب الشعب الجمهوري وقيادات عمالية، تسعى للتثوير مع امتناع الحكومة عن زيادة الحد الأدنى للأجور هذا الشهر. سيستمرون في الهجوم، وسيستمر أردوغان وأركان حكمه في الدفاع، واسترضاء الشارع المشحون إعلامياً واقتصادياً حد الغوغائية. 

سياسياً، تخسر تركيا كثيراً حين تتآكل سمعتها كدولة إسلامية حاولت أن تستعيد شيئاً من ريادتها في المنطقة، حيث لا استغناء ممكناً عن العرب وتقديرهم، والاعتراف بدورهم في حفظ الدين والعلم، لمن يرد ريادة أو إحياءً أو "قيامة". 

العقلاء أدركوا فتحركوا، الرئيس أردوغان في المقدمة قال: "إننا نعلم جيداً الجهات المضللة التي تقوم بإعطاء تعليمات لإفساء بلادنا وإثارة الفوضى"، ورئيس إدارة الهجرة في تركيا أتيلا طوروس زار السوريين الذين تضرّرت ممتلكاتهم خلال الأحداث الأخيرة في ولاية قيصري، وفرق إدارة الكوارث والطوارئ التركية "آفاد" شرعت بإجراء عمليات مسح ميدانية في ولاية قيصري بهدف تقييم الأضرار التي لحقت بما يقترب من 400 سيارة ومنزل ومتجر تعرضت للهجوم والأضرار في المدينة جراء الهجمات العنصرية عليهم، وتظاهرات خجولة تمت، ومقالات دبجت.. لكن بعدُ، كل تلك لا تعدو أن تكون مجرد مسكنات، ومحاولات لإزالة الأعراض دون الأمراض.

إن على وقف الديانة التركي، والتيارات المحافظة، من الجماعات الإسلامية والطرق الصوفية، والأحزاب المحافظة، أدواراً كبيرة عليهم أن يقوموا بها من تلقاء أنفسهم، إيماناً بما يعتقدون ويروجون، وإلا صار خطابهم محل شك وارتياب.. كذلك على علمائنا ودعاتنا المسلمين من العرب والأقليات الأخرى أن يقوموا بحملة معاكسة قوية بزيارة كل هؤلاء والتحدث إليهم وجهاً لوجه، وزيارة المتضررين، وممثليات الجاليات العربية. على أولي النهى أن يُسمعوا صوتهم جهيراً عالياً في كل محفل، نصحاً وتحفيزاً للصالحين، وزجراً وإشعاراً بقوة الكتلة المسلمة العربية، للطالحين العنصريين. 

 

إن المرحلة القادمة لها عنوان معروف، لا يحتاج إلا لمن يتقن قراءته واستيعابه.. "إطاحة أردوغان".. مروراً بمناوشات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية مختلفة.. وسيكون العرب إحدى مشتقات وقودها المشتعل.. فهل سنستمر بإتقان دور الضحية أم سنوحد الجهود ونقوي العزائم ونستعد لمعركة العنصرية بسلاح الإيمان، وقوة الإرادة، وسرعة المبادرة؟!