مقتل رئيسي ومتغيرات إيران القادمة
بدأ الحديث خافتاً نوعاً ما، لكنه انزداد صخباً فيما بعد، حتى كادت أن تترسخ في أذهان الأكثرية في إيران ومتابعي أحوالها، أن الرئيس الراحل لإيران قد اغتيل في عملية محكمة.
لأول وهلة، أثارت الحادثة العديد من التساؤلات، حول التهاون الحاصل في تأمين طائرة الرئيس الإيراني، ومدى جودة أداء الطائرة التي أقلته، كيفية حصول الحادثة في ظل أجواء لم تكن سيئة على حد قول مدير مكتب الرئيس الذي كان يستقل طائرة أخرى.
وانتاب الشك كثيرون في أن هذا الحادث ربما كان عملية اغتيال مدبرة، يقود إلى هذا الاعتقاد وجود صراعات حقيقية في أجنحة الحكم الإيراني، واعتياد تصفية القيادات الإيرانية والشيعية التي تمثل أخطاراً على نفوذ المرشدين الحالي والسابق سواء أكانوا إيرانيين أم زعماء شيعة بدول أخرى، مثلما كان الحال مع رفسنجاني، والصدر، والخوئي، والحكيم، وغيرهم. فصراعات الملالي كثيراً ما تكون دموية، ولهذا؛ فإن البعض لا يستبعد حدوث ذلك الآن أيضاً. ولعله مع اعتلال صحة خامنئي؛ تحركت إحدى مراكز القوى لمنع صعود رئيسي لخلافته. وبدرجة أقل، هناك من يشير بأصابع الاتهام إلى تل أبيب أو واشنطن في تدبير افتراضي لهذه الحادثة.
وثمة من لا يشاطرون هؤلاء "النظرة التآمرية"، لكنهم كذلك يتساءلون عن كيفية انتقال الرئيس الإيراني بمروحية أمريكية قديمة متهالكة تفتقر إلى قطع الغيار الأمريكية بسبب الحظر الذي تفرضه واشنطن على إيران، مثلما صرح بهذا جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني السابق. ثم من المنطقي أن يسأل البعض: كيف تتوقف إيران عند هذا الحد من التقنية، ودونها إمكانية استيراد مروحيات من سائر بلدان العالم المتاحة، كالصين وروسيا، ولماذا تتقدم طهران في صناعة المسيرات والصواريخ الباليستية، وتعجز عن توفير طائرة حديثة ملائمة لرئيسها، ثم توفير فرق إنقاذ متطورة لإنقاذه لا تتيه بين الأحراش والجبال!
ولم يكن منطقياً أن يستقل الرئيس الإيراني طائرة أمريكية قديمة من طراز "بيل 212"، لا تتوفر لها قطع غيار ملائمة، لمجرد أنه سيفتتح سدين في منطقة نائية في أذربيجان، وقد كان يمكنه أن يصل لمطار آذري جنوبي، ثم يستقل مروحية حديثة لمدة قصيرة، إن هو اضطر لذلك. والأسئلة المتداولة كثيرة، حول الطقس غير المضطرب، والطائرتين المرافقتين (من صناعة روسية حديثة)، وطول مدة البحث غير المنطقية، إلى ما هنالك، لكن كثيراً من هذه الأسئلة، والتي ستقود حتماً إلى ترجيح الاغتيال أو الخطأ البشري العفوي، ليست بتلك الأهمية التي تتجه إليها الأنظار عن خريطة الحكم القادمة لإيران، ومدى تأثير رئيسي عليها.
الاغتيال، إن كان، سيقود بالكاد إلى قياس مدى قدرة الجناح الذي يخطط لمرحلة ما بعد خامنئي، في قمة السلطة الإيرانية. أما الأكثر أهمية في ذلك؛ فهو تصور ما سوف تكون عليه إيران قريباً وبعيداً.
إن أهم ما يمكن رصده الآن، هو أن المؤسسة الدينية الشيعية تتعرض لقدر من الاهتزاز، لاسيما مع اعتلال صحة خامنئي، وافتقار المؤسسة إلى من يسد فراغه بقوة، حتى رئيسي نفسه الذي كان مرشحاً لخلافته لم يكن بذي الهيبة والكاريزما والنفوذ الذي سيملأ أعين زعماء الحوزات، ولا بالقدرة ذاتها التي كان يملكها خامنئي للجم القوة الصاعدة الآن.. الحرس الثوري.
تعرض الحرس الثوري لضربات متواليات في سوريا وإيران والعراق، ولعل لدى بعض قادته غصة من تعاطي المؤسسة الحوزوية مع تلك الاغتيالات التي طالت رموزاً للحرس، وردة فعلها الواهن (وربما المتواطئ أحياناً)، لكن ذلك لم يخصم من تطلع قادة الحرس الثوري للسلطة المباشرة أو سلطة الظل القوية في مرحلة ما بعد خامنئي.
اليوم، ينظر للدكتور قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني، والمرشح للرئاسة بقوة، على أنه ربما كان خيار الحرس الثوري، أكثر من كونه خياراً خامنئياً، بخلاف رئيسي بطبيعة الحال.. كما يُنظر إلى مجتبي خامنئي، على أنه مرشح محتمل لخلافة خامنئي، ويتردد أن اتفاقاً خفياً ربما أبرم لكي تأتي هذه الثنائية معاً، مثلما جاء خامنئي (ذي العمامة السوداء)، مع رفسنجاني (ذي العمامة البيضاء)، ليخلفا الخميني معاً.
الفارق في أن القادم قد لا يكون محاصصة بين أركان المؤسسة الدينية، وإنما بينها والحرس الثوري الذي يتعاظم نفوذه يوماً بعد يوم، ويريد أن ينال حصته الكبرى من السلطة، مثلما نالها من الاقتصاد، و"الاغتيالات" معاً!
أقام الخميني نظاماً محكماً للسلطة، تمزج ما بين الشعور بالشوري والديمقراطية، وقوة نفوذ المرشد الحاسمة، وأمسك بزمام السلطة جيداً، وتمكن من منح نفسه هالة مقدسة لدى أتباعه، مكنته من الحكم على أرضية المعصومية التي يتمتع بها المرشد كنائب عن "صاحب الزمان"، كما يزعمون، لكن هذا الأمر قد اختلف تدريجياً، وبدأ العسكر يتطلعون للعب دورهم التقليدي في دول "العالم الثالث"، ولا عقبة سوى هذه المنظومة السياسية المحكمة، وتلك "المعصومية". على أن الخريطة قد تغيرت كثيراً؛ فلم تعد قامات قم موجودة، وأحل بدلاً منها أصحاب عمائم فارغة نسبياً، واهتزت صورة الملالي لدى الشعب والحرس الثوري على السواء.. وصار الأول أكثر تطلعاً لليبرالية والتغرب، والثاني إلى السلطة، ولو بطريقة صناعة الملالي والتحكم بهم بدلاً من إعلانها عسكرية مطلقة، ذاك أن قليلاً من "شرعية الملالي" كافية لتدجين الشعب الإيراني.
ولعل الناظرين بتأمل وأمل يتوقعون أن تمضي هذه الثورة الإيرانية، بملاليها، إلى شيخوخة الحكم؛ فرغم الحبل الذي أمده بها الغرب إلا أن عوامل ضعفها تتكاثر، وهي بثرواتها، ونظامها السياسي الداخلي المنظم، وقداسة الملالي لدى كثير من بسطائها، ربما يطول عمر دولتها قليلاً، لكن ذلك لن ينفي أبداً أن إيران ما بعد خامنئي لم تكون كإيران الخميني بعنفوانها واستحكام نظامها وقوتها.