الخميس ، 13 رمضان ، 1446
section banner

الاتِّباع في القرآن الكريم

poster

الاتِّباع في القرآن الكريم

بقلم: أ.د. محمد أمحزون

من معاني الاتباع في القرآن الكريم: الإيمان والتصديق بالرسول ، والعمل بسنته والسير في أثره. وهذا يقتضي الاقتداء والتأسي به في الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك، بعمل بمثل عمله على الوجه الذي عمله من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة، مع توفر القصد والإرادة في ذلك.

وللاتباع منزلة عظيمة في الشريعة الإسلامية؛ فالاتباع شرط لقبول العبادات، وهو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن محمدا رسول الله، إذ لا يتحقق إسلام العبد ولا يقبل منه قول ولا عمل ولا اعتقاد إلا إذا حقق هذين الأصلين: الإخلاص والاتباع، وهما حقيقة الشهادة: لا إله إلا الله/محمد رسول الله. فلا يُعبد إلا الله تعالى، ولا يعبد إلا بما شرع على لسان رسوله .

والاتباع دليل محبة الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله عفور رحيم [آل عمران: 31]. وهو من علامات تقوى القلب وصحة إيمانه ودلائل الفوز والنجاح، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور: 52]. وهو سبب دخول الجنة، لقول النبي : "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله، ومن أبى؛ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"()

ومن علامات الاتباع: الإيمان بالقرآن العظيم، والاستماع إليه والعمل به، وتعظيم النصوص الشرعية، والخشية من الزيغ والانحراف عن الحق، والاقتداء بالنبي والتأسي به ظاهرا وباطنا، وتحكيم شرع الله في كل شيء والتحاكم إليه، والرضا بحكم رسول الله والعمل بما جاء به.

ومن وسائل المعينة على الاتباع: تقوى الله عز وجل والخوف منه، والإخلاص لله جل ذكره، والتجرد في طلب الحق، وطاعة الله تعالى والرسول ، والتضرع إليه سبحانه وتعالى وإظهار والافتقار إليه، والعلم بالأحكام الشرعية، واتباع طريقة السلف في العلم والعمل().

ومن معاني الاتباع في القرآن الكريم: اتباع الهوى بترك أمر الله تعالى ونهيه، وموافقة ما تحبه النفوس، وطلب الشهوات، وإجراء التدبير وفق إرادة المخلوق، والاقتداء بأهل الباطل والشرك.

على أن من أخطر ما يصاب به العقل البشري لوثة الهوى وعدم التجرد، فتتحكم به العاطفة والشهوة والشبهة حتى تختل الموازين وتنعدم الرؤية الكاشفة للحق. ولذا سمى علماء السلف هؤلاء الذين يندفعون وراء العواطف دون معيار من نقل أو عقل، أصحاب الأهواء، إذ يجتمع في نفوسهم: ضعف البصيرة. وقلة العلم، وفساد القصد، والظن والشك وعدم اليقين: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس [النجم: 23].

وقد حذر الله في كتابه الحكيم من الهوى وبين خطره الذي قد يصل إلى حد العبودية؛ لأنه يقترن في هذه الحال بالضلال والطبع على القلب والغشاوة وعدم البصيرة: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقبله وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكرون [الغاشية: 23].

والقلب الغافل عن ذكر الله تعالى والمشتغل بمتاع الدنيا ولذاتها وشهواتها ليس فيه متسع لأمر الله ونهيه، لأنه جعل الدنيا غاية حياته، فيزيده الله عز وجل غفلة، ويملي له فيما هو فيه حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله تبارك وتعالى له ولأمثاله من أهل الأهواء الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم.

ومن معاني الاتباع في القرآن الكريم: تأويل المتشابه للتلبيس على الناس، وهو إظهار الباطل في صورة الحق.

ومن وسائل التلبيس: التأويل الفاسد، واتباع المتشابه، وكتمان الحق وإخفاؤه، وتحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مناطاتها.

والتأويل الفاسد هو الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر، وهو أشبه بتحريف الكلم، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى.

وأما كتمان الحق فالدافع إليه هو إظهار الباطل، وشرع ما لم يأذن به الله عز وجل وإظهار خلافه، سواء تعلق الأمر بالعقائد أو الأحكام. والغاية من هذا الفعل هو الحصول على منافع دنيوية ومكاسب آنية.

وأما تحريف الأدلة عن مواضعها فهو ثمرة من ثمرات الطريقين السابقين: التأويل الفاسد وكتمان الحق. إذ لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق والتأويل الفاسد اللذان يؤديان إلى حرف الأدلة الشرعية عما أراده الله تعالى بها وأراده رسوله . وهذا في الواقع مأخذ من مآخذ أهل البدع الذين يحرفون الأدلة عن مواضيعها، بأن يرد الدليل على مناط، فيصرفونه عن ذلك المناط إلى مناط آخر، موهمين السامع أو القارئ بأن مرد المناطين واحد. وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضيعه()

ومن معاني الاتباع في القرآن الكريم: التبعية العمياء. وكثيرا ما كان تراث الآباء سببا في تعطيل العقل والإصرار على الكفر والشرك. ولذلك عانى الرسل والأنبياء – عليم الصلاة والسلام- على اتساع أمداء الزمان والمكان من مشكلة تقديس أقوال الآباء والأجداد وإيثارهم على الهدى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [لقمان: 21].

ومن ثم فإن الرسل الكرام شنوها حربا لا هوادة فيها ضد صنمية ميراث السابقين حتى تتهيأ عقول الناس لقبول الدعوات السماوية التي تخالف جل ما كان يسود في مجتمعاتهم من خرافات وأساطير تناقلوها دون تمحيص وروية كابرا عن كابر().

وقد كان الأئمة المتبوعون في المذاهب الفقهية ينهون عن تقليدهم ويحثون أتباعهم على الاتجاه قدر الإمكان إلى معرفة المصادر التي استقوا منها آراءهم الفقهية للوقوف على الدليل. ومن ثم فإن الإنسان مكلف بامتلاك الميزان الذي يمكنه من التفريق بين الخطأ والصواب، والتمييز بين الحق والباطل، مما يمكنه من تقويم آراء العلماء، وتقويم تركة الأسلاف، وإنزالها في المنزلة اللائقة بها، لئلا يقدس ما كان مخالفا للحق والصواب، بل يكون ديدنه أن يدور مع الحق حيث دار، وأن يتشبث بالمنهج لا بآراء الرجال.

 

تحميل