
نظرية العصبية عند ابن خلدون وتأسيس الدول

نظرية العصبية عند ابن خلدون وتأسيس الدول
د. محمد العبدة
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته حول مصطلح ( العصبية ) : " يُقال لكل شَدّ :
( 1 )
عَصْب ، وقوله تعالى ( يوم عصيب ) أي شديد ، والعُصبة : جماعة متعصبة
( 2 ) ( 3 )
متعاضدة ( ونحن عصبة ) قال تعالى : ( لتنوء بالعصبة ) واعصوصب القوم :
( 4 )
صاروا عصبًا وعصبوا به أمرًا " .
فهذا المصطلح يدور حول ( الشّد والربط ) فقد يكون هذا الشد وهذا التعاضد لأمر حسن وفيه الخير ، وقد يكون لأمر من أمور الجاهلية ، فليست مفردة ( التعصب ) هي في معرض الذم دائمًا ، بل قد تكون محمودة تارة وقد تكون مذمومة تارة أخرى وقد كان التعصب للقبيلة سواء كانت على حق أو على باطل من أمور الجاهلية كما قال شاعرهم :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وهذا من التعصب المذموم .
جاء في الحديث النبوي الرد على هذه العصبية الجاهلية ، قال صلى الله عليه وسلم ( لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا ، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر ، وإن كان مظلومًا فلينصره ) . وقال صلى الله عليه وسلم : " من قاتل تحت رايةٍ عميّة يغضب
( 5 )
لعصبةٍ أو يدعو إلى عصبةٍ أو ينصر عصبةٍ فقُتل فقتْلة جاهلية "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ في قوله تعالى : ( ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ضرعًا وقال
هذا يوم عصيب ) هود/ 77
2ـ في قوله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام ( قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا
إذًا لخاسرون ) يوسف / 14
3ـ قوله تعالى : ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه
لتنوء بالعصبة أولي القوة ) القصص / 76
4ـ مفردات ألفاظ القرآن / 568 ت صفوان داوودي
5ـ صحيح مسلم كتاب الإمارة
وتأتي العصبية بمعنى الحماية بسبب القرابة والنسب ، كما في قوله تعالى : ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفًا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ) هود / 91 .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره ( أضواء البيان ) : " بيّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه شعيبًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار
وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية والأواصر النَسَبية من قومه الذين هم كفار، وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر ، وكقوله تعالى في صالح عليه السلام وقومه ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله ) النمل /49 ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء ، ويحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءًا ولا شهدوا ذلك خوفًا من عصبته .
وقال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم ( ألم يجدك يتيمًا فآوى ) أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب ، وذلك بسبب العواطف العصبية والأواصر النسبية ، ولا صلة له بالدين البتة ، فكونه جَلَّ وعلا يَمنُ على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي
( 1 )
طالب له دليل على أن الله قد يُنعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر "
وفي السيرة النبوية عندما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في شِعب أبي طالب تعاضد معه بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم ، وقال صلى الله عليه وسلم ( إنّا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ) .
إن ذم العصبية هو كما يقول ابن خلدون " حين تكون على باطل ، كما كانت في الجاهلية ، ومتى استُعين بها على إقامة حق فلا ذم فيها " وقد جاء في الحديث : " من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدّي فهو يُنزع بذنَبه " وهذا يعني أنه إذا نصر قومه على الحق فهو شيء حسن ، ويقول الشيخ الإبراهيمي موضحًا الفرق بين المحمود والمذموم من العصبية : " وقد أوهموك ـ أيها المسلم ـ أن التعصب مذموم ففرطت في محموده ومذمومه ، وتجردت من أنفذ سلاح تحفظ به دينك ، وما زلت تفرط في حقه خوفًا من أن ينبزوك بباطله حتى أمسيت تعيش
( 2 )
بلا عصبية لدينك " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ أضواء البيان 3 / 41
2ـ آثار البشير الإبراهيمي 3/179
إذن هناك عصبية محمودة أو إيجابية ، هي القدرة على العمل الجماعي ، أو هي تكتل كبير متعاطف متلاحم يسعى لغاية معينة . وهذا لا يكون إلا بالتعاون الصادق الذي يتوفر فيه العدد الكبير كما يتوفر فيه التضحية بالمصلحة الذاتية من أجل المصلحة العامة . وهو التعاون في سبيل إحقاق حق أو إبطال باطل .
قال تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
مفهوم العصبية عند ابن خلدون
( 1 )
لم يضع ابن خلدون تعريفًا جامعًا للعصبية التي أعاد الحديث عنها كثيرًا في مقدمته مع أنه جعلها هي العمود الفقري لتأسيس الدول واستمرارها وحمايتها ، ولكن من خلال حديثه الطويل عن العصبية ومصادرها وأهميتها يمكن أن نقول : هي القوة الجماعية المتآلفة التي تمنح القدرة على تأسيس الدول والدفاع عنها .
أو هي : الكتلة الكبيرة التي تعمل لغاية معينة ، وإذا تتبعنا البابين الثاني والثالث من المقدمة فسوف نجد هذه العناوين : (فصل في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية) (فصل في أن العصبية إنما تكون في الالتحام بالنسب أو ما في معناه) (فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ هي مقدمة تاريخه الكبير : " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم
من ذوي السلطان الأكبر" ولكن هذه المقدمة اشتهرت أكثر من كتابه في التاريخ ، وهي تبحث في فلسفة
التاريخ وعلم الاجتماع .
أهمية العصبية عند ابن خلدون هي أنها الطريق إلى (الدولة) والبشر بحاجة إلى الدولة ، فهي رأس الاجتماع السياسي ، وهي صورة العمران البشري ، وبما أن الإنسان مدني بالطبع ولا بد له من التعاون والعيش المشترك مع أبناء جنسه إلا أن هذا الإنسان فيه ظلم وجهل ولا بد من رادع أو وازع يمنعه من الظلم والطيش ، وهذا الوازع إما أن يكون داخليًا بما يملك الإنسان من دين وخلق يمنعانه من التعدي على الآخرين ، وإما أن يكون الوازع من قبل سلطة الدولة والحكم .
وللوصول إلى الدولة لا بد من القتال لما في طبائع البشر من الاستعصاء ، ولا بد
( 1 )
في القتال من العصبية .
ما هي مصادر هذه العصبية التي يريدها ابن خلدون لتأسيس دولة أو هدم دولة والبناء على أنقاضها ؟
إنها : عصبية القبائل والعشائر التي تكون قوة جماعية كبيرة ، خاصة إذا استطاعت القبيلة الكبيرة أن تستتبع القبائل الصغيرة بحيث تدور في فلكها .
( 2 )
فالعصبية هنا قوية لأنها تعتمد على قرابة الدم والنسب (لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل واحد دون صاحبه) ولكن ابن خلدون شعر أن هذه الدائرة من العصبية لا توجد إلا في قبائل البادية الذين تعودوا على الخشونة وشظف العيش والقتال للدفاع عن أنفسهم ، فهم محاربون بطبيعتهم ولذلك حاول توسيع هذه الدائرة فذكر أنها تكون في الإلتحام بالنسب وما في معناه ، أي مثل عقد التحالفات بين تجمعات صغيرة أو الروابط التي تنشأ بين الأفراد بسبب طول المعاشرة ، كعمل عدد كبير من الناس في مهنة معينة ، أو مثل تجمع النقابات المهنية في العصر الحديث ، وهذا يشمل أيضًا في ظروف خاصة أهل الأمصار (المدن) الذين يلتحمون بالقرابات والصهر ، ويكونوا عصبية للحماية عند أي طارئ .
إن المحور الرئيس في هذه النظرية التي اهتم بها ابن خلدون اهتمامًا بالغًا هو : كتلة كبيرة مع اتفاق الأهواء لتحقيق هدف معين ، فهو يوظف هذه العصبية في الجانب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المقدمة 2/483 هذه النظرة قد وجدت وتوجد في كل عصر وهو الواقع الذي عايشه ابن خلدون واطّلع
عليه من التاريخ ، ولكن ليست قاعدة مضطردة دائمًا ، ففي العصر الحديث مثلًا وفي بعض الدول يتم
تداول السلطة سلميًا ، وإن كان استقرار الغرب وتداول السلطة جاء بعد حروب كثيرة فيما بينهم .
2ـ أي التعصب للأرحام ، والنعرة تعني : الصياح في الحرب .
السياسي ، أي حول الدولة إما حماية لها أو إزاحة دولة وإقامة بديل عنها . ( لأن أحوال الدول عادة ما تكون راسخة لا يزحزحها إلا المطالبة القوية ) وهو ينتقد المؤرخين الذين يتحدثون عن الدول ( ولا يتعرضون لبدايتها ، ولا يذكرون السبب
الذي رفع من رايتها ولا علة الوقوف عند غايتها ) وهو هنا يتكلم عن الدول بشكل عام وأن بدايتها لا بد فيه من العصبية ، وكذلك عن الدول الإسلامية التي قامت على أساس الدين وساعدتها العصبية القبلية كدولة المرابطين في المغرب الأقصى ، ودولة الموحدين التي ساندتها قبائل المصامدة حتى استقر لهم الأمر وحكموا المغرب كله وجزءًا من الأندلس .
هذا المثال هو الذي جعل ابن خلدون يؤكد أن الدعوة الدينية لا بد لها من عصبية ، لأن تغير الأوضاع الفاسدة لا يتأتى مطلقًا بمجرد الدعوة إلى أوضاع أفضل ، بل لا بد من قوة مادية تنصر هذه الدعوة ، وقد ندد ابن خلدون بدعاة الإصلاح الثائرين على الواقع الموجود الذين لم يحققوا نجاحًا بسبب جهلهم بطبائع العمران البشري وأهمية العصبية ، فهم (يكلفون أنفسهم وأتباعهم من العامة فوق طاقتهم ، وإذا ذهب أحد هذا المذهب (الثورة دون عصبية) وكان محقًا قصّر به الانفراد عن العصبية ، وأما إذا كان من الملبسين بذلك طلبًا للرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به
( 1 )
المهالك ، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ) .
ويتابع ابن خلدون حديثه عن اجتماع الدعوة الدينية والعصبية الحامية لها وأن هذا من طبيعة العمران ، وإذا اجتمعتا سيكون النصر غالبًا لهذه الدعوة ، يقول : " فإذا اجتمعت مع الدعوة الدينية العصبية لم يقف لهم شيء لأن الصبغة الدينية تُذهب
( 2 )
التنافس والتحاسد وتُفرد الوجهة إلى الحق " .
والدليل على أهمية العصبية القوية لحماية الحق أنه عندما جاءت رسل الله إلى النبي لوط عليه السلام وخشي من أذى قومه قال كما جاء على لسانه في القرآن الكريم : ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعقيبًا على كلام لوط عليه السلام : " رحم الله لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد وما
( 3 )
بعث الله بعده نبيًا إلا في ثروة من قومه " أي في منعة من قومه وكأن الأصل في الانتصار والغلبة والتمكن هو التضامن والتكتل الذي يفضي إلى القوة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المقدمة 2 / 530
2ـ المصدر السابق 2/530
3ـ صحيح الجامع الصغير 3/176
وإذا كانت العصبية بمفردها حسب رأي ابن خلدون ـ سواء القبلية أو غيرها من التكتلات ـ تستطيع الوصول إلى أهدافها وخاصة الملك (الحكم) عند بعض الأمم ، ولكنه يرى أن جنس العرب خاصة لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، والسبب في ذلك (لأنهم أصعب الأمم انقيادًا ، للأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدين ، ذهب خلق الكِبْر والمنافسة فسهل انقيادهم واجتماعهم ، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولًا للحق والهدى ، لسلامة طباعهم من
( 1 )
عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق ) .
تقويم ونقد
لا شك أن العصبية بمعنى التكتل والتضامن والتعاون في سبيل مبدأ ما ، أو لإحقاق حق وإبطال باطل هي من أهم القوانين الاجتماعية ، فلا تقوم الدول ولا تنجح الدعوات ولا تتأسس المشاريع الكبيرة إلا بالتعاون والتوحد على إنجاز الهدف المطلوب ، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا المبدأ أو هذه السنة من سنن التمكين والنصر قال تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) .
يرى ابن خلدون أن نظريته في العصبية هي محيطة بكل حركة تغيير ، أو كل نجاح لدعوة ، وأساس هذه العصبية القبيلة أو القبائل المتحالفة ، فإذا التحمت مع دعوة دينية فسوف تكون قوة لا يقف أمامها شيء . وإذا كانت هذه ملاحظاته على الدول التي عايشها أو كتب عنها ، قيامها وسقوطها ، إلا أنه لا يستطيع تعميم نظريته على مدى التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي ، فالرسول صلى الله عليه وسلم صهر العرب في كيان قوي موحد هو (الأمة) التي تقوم على الدين ، وكذلك دولة الخلافة الراشدة التي قامت على عصبية الدين والأمة التي نشأت من خلال هذا الدين ، قامت الدولة الإسلامية في المدينة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وتولاها أبو بكر رضي الله عنه وهو من بني تيم وهي من القبائل الصغيرة من قريش .
ولم يتم توليه من خلال عصبية قبلية ، وعندما ارتدت العرب وعزم أبو بكر على قتالهم كان الأنصار والمهاجرون والذين ثبتوا على دينهم من بقية المناطق هم عصبية دولة الخلافة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المقدمة 2/516
لم يتكلم ابن خلدون عن عصبية الدين لوحدها ولكن أضاف لها عصبية القبائل وعندما ذكرت الخلافة الراشدة ، قال : إنها فترة استثنائية ، هي من باب (خرق العادة) أي هي أشبه بالمعجزات ، هي فترة مثالية من الصعب الإستمرار عليها ، ولذلك عادت الأمور ـ كما يرى ـ إلى مجراها الطبيعي ، أي إلى الملك وعندما قيل له : إن دولة الأدارسة في المغرب لم تقم على عصبية القبائل ، قال : هذه حالة خاصة بسبب قرابة إدريس من البيت النبوي ، وهكذا أراد أن يرمم فكرته عن العصبية . والحقيقة أن انتقال الخلافة إلى ملك له أسباب كثيرة ـ ليس هنا موضع تفصيلها ـ والملك وإن كان قد وقع وسارت به الحضارة الإسلامية فترات طويلة إلا أن الأصل هو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وهو المطلوب ما أمكن ذلك .
نستطيع أن نقول هنا أن ابن خلدون كان شديد الواقعية ، هو لا يرسم في ذهنه صورة لما يجب أن يكون ، ولا يحلم بأشياء يعتبرها مثالية عسيرة التحقيق ، هو يرضى بأن تحاط الدولة أو الدعوة الدينية بعصبية تساندها وتحميها .
والحكم الصالح كما يراه هو : " التنافس في الخير ، والعفو والوفاء بالعهد ، وصون الأعراض ، وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء وإنصاف المستضعفين والتدين
( 1 )
بالشرائع .. " أي يريد دولة فيها عدل ورحمة واهتمام بالمسلمين وتعظيم لأمر الشريعة . ولابن تيمية كلام فيه شيء من الواقعية حسب الاستطاعة والقدرة يقول :
" فمن ولي ولاية يقصد بها إقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين ، ، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات ، لم يؤاخذ بما عجز عنه ، فإن توليه الأبرار
( 2 )
للأمة خير من توليه الأشرار " ولكن ابن تيمية يختلف مع ابن خلدون حيث يدعو للعودة لنموذج الخلافة الراشدة حسب القدرة ، ولا يعتبر أن الملك هو الشيء الطبيعي الذي يجب القبول به مطلقًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المقدمة 2/505
2ـ السياسة الشرعية / 223
صحيح أن الروابط العصبية والنَسَبية التي ذكرها العلامة الشنقيطي في تفسيره لقول قوم شعيب عليه السلام (ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) هذه الروابط ستبقى ويبقى الانتفاع بها ، ولكن في جانب تأسيس الدول فإن العصبية القائمة على الدين هي الأصل وهي الأقوى ، والإسلام نقل العرب إلى دائرة أوسع وهي (الأمة)
وأما العصبية التي تعتمد على القبائل والعشائر فقط فإنها ستكون ذات فائدة في البداية ، ولكن ما إن يتمكن صاحبها من السلطة حتى يبادر بإبعاد أهل هذه العصبيىة الذين كانوا معه في طلب الملك وذلك لينفرد في الأمر ، ولا يكون لأحد دالة عليه أو فضل ، وقد يأتي بعصبية مجلوبة من الخارج ، وهذه في العادة لا يهمها أمر الدولة وستكون من أسباب الضعف والإنهيار ، وعندئذ ستأتي عصبية أخرى لتزيل هذه الدولة ، إنها سنة من سنن التاريخ " إن كل دولة تسعى لكي تقيم كيانها على عنصر
( 1 )
خارجي لا بد أن تصبح مرتزقة لهذا العنصر الذي أرادته عبدًا فأصبح سيدًا "
إن فكرة أن يكون هناك كتلة هي الأكبر في المجتمع ، هي العصبية وهي الحاضنة الشعبية للدعوة أو للدولة لحمايتها وتأييدها هي فكرة صحيحة ، وهو ما يسميه ابن تيمية بأهل الشوكة ، أي الذين لهم قوة ومنعة يحصل بها مقصود الحكم من القدرة والتمكن ، وهذا مشاهد في بعض الدول العريقة في الديمقراطية حيث يكون الحزب الحاكم هو عصبية الدولة ، وكما يُقال : " حتى الامبراطوريات الكبيرة كان في داخلها امبراطورية تعتبر نفسها أنها هي المركز " وفي أمريكا كان هناك عصبية غير ظاهرة ، وهي أن الحكم يجب أن يكون بيد العرق السكسوني الأبيض الذي يعتقد المذهب البروتستانتي ويرمزون له بـ wsp ، ولم يقع خلاف ذلك إلا في السنوات الأخيرة ولمرة واحدة . وفي الحقيقة إن من أهم مساهمات ابن خلدون في هذا المجال هو حديثه عن العصبية الجامعة التي ينضوي تحتها العصبيات الصغيرة
( 2 )
يقول : " لأن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة " وهذا ما نلاحظه في دول يكثر فيها الأحزاب السياسية والقوميات الصغيرة والعقائد المختلفة وهذا كله مما لا يساعد على الاستقرار ، بينما نرى أن دولًا كبيرة في عدد سكانها مثل أمريكا وبريطانيا يتناوب على الحكم فيها حزبان كبيران وليس فيها أحزاب صغيرة إلا في النادر ، وهو شيء مقصود عندهم ومن تدبير السياسة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ زاهية قدورة : الشعوبية /16
2ـ المقدمة 2/536
لأن كثرة الأحزاب ينتج عنها كثرة الاختلافات وعدم استقرار الحكم لمدة يستطيع فيها الحزب الحاكم تنفيذ برنامجه الانتخابي المعلن .
خلاصة :
وإذا كانت العصبية وبالمعنى الذي سلف هي بهذه الأهمية في عالم السياسة ، وهي
أيضًا ظاهرة موجودة وإن اختلفت صورها وأشكالها ، فما هي العصبية المطلوبة في واقعنا اليوم ؟ يذكر القرآن الكريم مصطلح (الأمة) وهو مصطلح عقدي ـ سياسي ـ يتخطى مفهوم القبيلة ويرقى إلى رابطة إيمانية أخلاقية ، وأصل المصطلح من ناحية اللغة العربية يعني : القصد ، فكلمة الأمة تعني أن مقصدهم واحد ، وهذا مما يجعل لهم التأثير والقوة في عملية التغيير إلى الأصلح والأفضل ، وقد جاء في بند من بنود (صحيفة المدينة) التي نظمت حقوق وواجبات من يسكن فيها : " هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد
( 1 )
معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس " هذه الأمة من أهل الإيمان والإسلام هي العصبية التي من خلالها تنعم البلاد وينعم العباد بالأمن والأمان والعدل والرحمة .
هذه الأمة هم (أهل السنة) الذين هم الأكثرية في البلاد ، وإن إبعاد هذه العصبية عن أحوالنا السياسية والإجتماعية هو الذي جرّ البلاد إلى كثير من المصائب والمتاعب ، وأن تجربة التاريخ والواقع تؤكد أنه عندما يكون الأمر للسنة فإنهم هم الأعدل والأرحم في التعامل مع جميع فئات المجتمع .
يقول الكاتب (تارك سابا يارد) في كتابه : (الرحالون العرب وحضارة الغرب) :
" إن الأقليات التي كانت تصرّفها أوروبا حسب ميولها السياسية لا تعيش إلا بالإندماج مع الأكثريات وتوحيد المقاصد ، وإن كل أمة لا تُحكم إلا برأي السواد الأعظم من
( 2 )
أبنائها " . إن الدين هو الذي يحدث تغييرًا جذريًا لدى البشر حين يستبدلون تركيزهم على أهدافهم الأنانية بتوجه نحو مبادئ سامية سماوية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ انظر : أكرم العمري : السيرة النبوية الصحيحة 1/ 282
2ـ الرحالون العرب /298
مقالات جديدة

الاتِّباع في القرآن الكريم
بقلم : بقلم: أ.د. محمد أمحزون

البعد الحضاري للصراع الدولي
بقلم : د. حسن سلمان
تم النشر في : 31 يناير 2025

تفسير سورة النصر
بقلم : الأستاذ الدكتور/ كامل صبحي صلاح

معانــي ودلالات الأمــر في القرآن الكريم
بقلم : بقلم أ.د. محمد أمحزون

إيران ذات الأوجه
بقلم : د . محمد العبدة

عاشوراءُ : أسبابُ النَّصْرِ والنَّجَاةِ .. وموجِباتُ هَلاكِ الطُّغَاةِ
بقلم : د.محمد عبد الكريم الشيخ