الأربعاء ، 8 ذو الحجة ، 1446
section banner

في السياسة الشرعية

poster

في السياسة الشرعية

د. محمد العبدة

من سنن الله سبحانه في هداية البشر أنه أتم عليهم وأكمل الأمور التي لاتختلف باختلاف الزمان والمكان مثل العقائد والعبادات والأحكام القطعية ، أتمها سبحانه أصولاً وفروعاً فليس لبشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزيد فيها أوينقص . وأما الأمور التي تختلف باختلاف الزمان أو المكان فقد جاء الإسلام فيها بالأصول والمبادئ الكلية ، ومن هذه المبادئ تُبنى كل التنظيمات الفرعية السياسية والاقتصادية والإدارية وحسب الوفاء بالحاجات الواقعية على أكمل وجه . لأن التعميم إذا نزل إلى التفاصيل الجزئية فإنه يقيد الأجيال المقبلة بهذه التفاصيل فلا يستطيعون الاجتهاد من خلال النصوص العامة ، بل يترك لهذه الأجيال أن تجتهد مادامت هذه التفصيلات تنبثق من توجيهات المبادئ الثابتة وتلتزم بها .يقول العلامة الطاهر بن عاشور : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبوته غير معرج على تبيين من يخلفه في تدبير أمور المسلمين ، ولوكان للأمة مصلحة في بيان ذلك لبينه فيما بين ، فترك العهد والوصية لأن الله لم يأمره ببيان ذلك ، ولعل حكمة السكوت عن هذا الأمر قصد التوسعة على الأمة في طرق اختيار مايليق ومن يليق بحال مصالحها في مختلف الأحوال والأعصار والأقطار " ا. ه  ففي موضوع الحكم والسياسة هناك أصل كلي وهو ( الشورى ) والقرآن الكريم دعا إلى ( التشاور ) في الأمور العامة والخاصة وجعل الشورى من خصائص الجماعة المسلمة ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) وأما تفصيلات هذه الشورى : كيفية اختيار الحاكم والشروط المطلوبة ، والمدة المقررة وكيف يتم اختيار أهل الحل والعقد ( مجلس الشورى ) فهذه من التفصيلات الاجتهادية تراعي الزمان والمكان وظروف المسلمين … الخ 

الله سبحانه يقول للمسلمين : أمركم شورى بينكم ، ويقول لهم : ( كونوا قوامين بالقسط …) ويقول : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ثم غرس فيهم نعمة العقل وترك لهم اختيار الوسائل المناسبة . فكل جيل يستبين الهدف من التعاليم الإسلامية في شؤون الحكم والاقتصاد ثم يتخير الطريق الذي يوصله إلى هذا الهدف . وقد أشار الإمام الجويني إلى الخطأ الذي يقع فيه بعض المؤلفين حين يظنون أن بعض أمور السياسة هي قطعية وليست اجتهادية ، يقول : ( قد كثر في أبواب الإمامة الإفراط والتفريط ، والسبب الظاهر أن الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك  القطع في مجال الظن ) .  

ومن العجب أن يقوم بعض الكتاب اليوم باستحضار من كتب في الحكم والسياسة في القرن الخامس الهجري وفي العصر العباسي ولا يراعون أن هؤلاء كتبوا حسب اجتهادهم وظروف عصرهم ، وبعض الآراء مردود عليهم . 

فعند ذكر الرئاسة الأولى ( الخلافة ) وكيف تنعقد ، قالوا : تنعقد بوجهين : باختيار أهل الحل والعقد ، أو بعهد من الإمام من قبل ، ولكنهم لم يذكروا من هم أهل الحل والعقد تفصيلًا وكيف يُختارون وهل بعد اختيارهم هم الذين يختارون الرئاسة الأولى ؟ أم بعد اختيار الرئاسة الأولى بطريقة ما هو الذي يختار أهل الحل والعقد ؟ بأيهما نبدأ ، وهل يصح أن يختار هو وحده مجلس الشورى ؟ ثم يذكرون انعقاد البيعة للإمام ، وأن أقل عدد تنعقد به خمسة مستدلين بانعقاد البيعة لأبي بكر رضي الله عنه بخمسة يقصدون يوم سقيفة بني ساعدة ، وهذا غير صحيح فالذي حصل في السقيفة هو ترشيح لأبي بكر وأما عقد البيعة فقد كان في اليوم التالي في المسجد النبوي ، ولوأن  الصحابة لم يوافقوا فرضاُِ على أبي بكر لم تنعقد له البيعة .

 انعقاد البيعة :

وبعضهم قال : تنعقد بثلاثة : حكماً وشاهدين ؟! وبعضهم يقول :  إن أقل العدد أربعين قياساً على ماتصح به صلاة الجمعة ، ويقول الماوردي : إنها تنعقد بعهد من قبله ، ويستدل بعهد أبي بكر لعمر ، والحقيقة أن عهد أبي بكر لعمر هو ترشيح وليس انتخاباً فقد وافق الصحابة بالإجماع على بيعة عمر رضي الله عنه . المشكلة أن هؤلاء العلماء الذين كتبوا في السياسة الشرعية لم يفرقوا بين الترشيح والمبايعة أو الانتخاب وإن اختيار عمر لستة من كبار الصحابة كان لترشيح أحدهم ، ولذلك قضى عبد الرحمن بن عوف أياماً يستشير سائر الناس ثم اتضح له ميل الأكثرية لترشيح عثمان وفي اليوم التالي تمت المبايعة في المسجد . هكذا نلاحظ اختلاف الاجتهاد بين كل حالة وأخرى وهي دليل على أنها واقعة اجتهادية 

ثم انتقل هؤلاء الكتاب في السياسة الشرعية إلى موضوع عزل الحاكم ، هل يُعزل إذا طرأ عليه الفسق أو أصبح ظالماً بطاشاً ، وأحد أسباب ذكرهم لهذا العزل هو أنهم يفترضون أن حكم الخليفة أو الرئاسة الأولى ليس لها مدة محددة ، ولكن هذه المشكلة تُحل عندما يقدر للرئاسة مدة محددة وربما تعاد مرة ثانية فقط . وهناك مجلس شورى ( المنتخب بالوسائل المناسبة )  وعندما تكون هناك أخطاء وهنات يصبر عليه وينصح ويؤمر بالمعروف كما جاء في الأحاديث النبوية ، وأما إذا تعدى طوره وكثر ظلمه فيحق لمجلس الشورى عزله ، أو يكون هناك مجلس آخر تحال إليه قضايا مثل عزل الحاكم قبل انتهاء مدته ، ويجب أن يكون حاضراً في الذهن أن الحاكم ليس فريداً بل هو بين نخبة يتقارب أفرادها وستظل حصيلة آرائهم أفضل من حصيلة رأي واحد ، أي عندما تكون الشورى إلزامية تحل الأمور بطريقة أسهل .