
السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876- 1909)

السلطان عبد الحميد الثاني
بقلم: أ.د. محمد أمحزون
توليه الحكم في ظروف استثنائية
لقد تولى السلطان عبد الحميد الثاني الحكم في ظروف استثنائية؛ إذ كانت البلاد تَمُرُّ بأزمات حادَّة، ومصاعب مالية كبيرة فشهدت ثورات عاتية في البلقان قامت بها عناصر قومية تتوثب لتحقيق الانفصال، وتعرضت السلطة العثمانية لمؤامرات أوربية بهدف اقتسام الولايات التابعة لها، فكانت الدولة على وشك الانهيار.
وقد أدرك السلطان عبد الحميد حجم المخاطر التي تهدد دولته على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأخر سقوطها لمدة ثلاثين سنة. ولا عجب في ذلك، إذ عُرف هذا السلطان بذكائه الفذ، وقدرته على المناورة، وبراعته في الحوار السياسي، حتى قال عنه جمال الدين الأفغاني: "إن السلطان عبد الحميد لو وُزن بأربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاءً ودهاءَ وسياسة، خصوصاً في تسخير جليسه. ولا عجب إذا رأيناه يذلّل ما يقام في ملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضياً عنه وعن سيرته مقتنعاً بحجته، سواء في ذلك الملك والأمير والوزير والسفير"([1]).
وكان تصوره للعلاقة بين الغرب والإسلام تصوراً واضحاً مبنياً على الشعور بالتميز الحضاري، فهو لا يريد من الغرب المدنية؛ لأنه كان يرى أن للشرق مدنيته الإسلامية الخاصة. إنما كان يريد ما يُهِمُّ فقط من العلوم الحديثة بالتدريج. فالإسلام في رأيه لم يكن ضد التقدم، ولكنه كان يعتقد أن الأمور القيّمة يجب أن تكون طبيعية، وأن تأتي من الداخل حسب الحاجة إليها. ولا يمكن أن يكتب لها النجاح إذا كانت على شكل تطعيم من الخارج([2]).
محاولات السلطان وقف الزحف العسكري الأوربي
على الولايات العربية
سعى السلطان عبد الحميد بكل ما أوتي من حنكة ودهاء سياسي لوقف الزحف الاستعماري الأوربي العسكري على الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية.
ففيما يتعلق بمصر، أيّد السلطان عبد الحميد حركة أحمد عُرابي بك ومنحه رتبة أمير لواء مع الباشوية. وقد قام أحمد عرابي في عام 1882م بإنهاء عمل الموظفين الأوربين في مصر، فاحتجت عليه كل من إنجلترا وفرنسا، وقامتا بمراجعة الباب العالي في شأن إرسال قوة عسكرية إلى مصر. ولم يقع السلطان عبد الحميد في هذا الفخ، ورفض إرسال قوة عسكرية إلى مصر؛ لأن ذلك يعني قمع الحركة الوطنية المصرية بجنود أتراك لصالح الدول الأوربية، وهي دول استعمارية. وهذا من شأنه الإساءة إلى مقام الخلافة في كل أرجاء العالم الإسلامي، ويتنافى مع مبدأ الجامعة الإسلامية التي كان للسلطان عبد الحميد قد اتخذها سياسة له([3]).
وكان السلطان عبد الحميد يتراسل مع أحمد عرابي سرًّا، ويريده أن يمارس دور بطل ومجاهد في الإسلام، ويحكم مصر باسم الخليفة عبد الحميد. لكن يبدو أن الصراع بين الشعب المصري والعناصر التركية هو الذي منع الاستمرار في هذه السياسة([4]).
أما في ليبيا فقد رسمت إيطاليا سياستها لاحتلالها على ثلاث مراحل:
الأولى: الحلول السلمية بإنشاء المدارس والبنوك وغيرها من مؤسسات خدمية.
الثانية: التحرك الدبلوماسي لتعترف الدول الأوربية باحتلال ليبيا.
الثالثة: إعلان الحرب على الدولة العثمانية والاحتلال الفعلي([5]).
وبالرغم من أن السياسة الإيطالية تجاه ليبيا كانت هادئة ومحكمة لعدم إثارة حساسية الأتراك العثمانيين، إلا أن السلطان عبد الحميد كان متيقظاً لتلك الأطماع، فطلب معلومات من مصادر مختلفة عن نشاط الإيطاليين في ليبيا وأهدافهم، فجاءته المعلومات تقول: إن الإيطاليين بمدارسهم وبنوكهم ومؤسساتهم الخيرية التي يقيمونها في ليبيا يسعون من ورائها إلى احتلال هذه الولاية العثمانية([6]).
فقام السلطان عبد الحميد باتخاذ التدابير اللازمة أمام الأطماع الإيطالية، لمّا شعر أنه سيواجه اعتداءً إيطالياً مسلحاً على ليبيا. ومن هذه التدابير إمداد القوات العثمانية في ليبيا بـ(15000) جندي لتقويتها. وظل يقظاً حساسا تجاه التحركات الإيطالية يتابعها شخصياً وبدقة، ويطالع كل ما يتعلق بالشؤون الليبية بنفسه بواسطة سفير الدولة العثمانية في روما ووالي طرابلس، مما جعل الإيطاليين يُضطرون إلى تأجيل احتلال ليبيا. وقد تمّ لهم ذلك في عهد جمعية الاتحاد والترقي([7]).
تمتين العلاقات مع العرب عبر حركة الجامعة الإسلامية
في إطار سياسته الإسلامية، اهتم السلطان عبد الحميد الثاني بالعرب، لذلك لأن بلاد العرب تضم أهم الأماكن المقدسة (مكة، المدينة، القدس)، وهم أصحاب الرسالة، وبلغتهم نزل القرآن، ففطن إلى أهمية العنصر العربي ودوره الثقافي والحضاري.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية: أدرك السلطان عبد الحميد هدف الدول الاستعمارية التي تبذل جهوداً حثيثة لإحداث فجوة بين الترك والعرب بغية سلخ العرب عن الدولة العثمانية. على أن الترك والعرب يشكلان عماد الدول العثمانية، والالتقاء بين الشعبين لابُدَّ له من الاعتماد على القاسم المشترك بينهما وهو: الإسلام.
وهذا ما نصح به المؤرخ أحمد جودت الذي حكم سورية والياً سنة 1878م بأمر من السلطان عبد الحميد، وحظه على أن يُحِلَّ العرب في المكان العالي في السلطة، "فإن لغتهم هي لغة ديننا"، وهو عهد التزم به السلطان سليم الأول([8]).
وكان السلطان عبد الجميد يرى – منذ أن تولّى الحكم – ضرورة اتخاذ اللغة العربية لغة رسمية للدولة العثمانية. وفي هذا يقول: "اللغة العربية لغة جميلة، ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على خير الدين باشا (التونسي) عندما كان صدراً أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكن سعيد باشا كبير أمناء القصر اعترض على اقتراحي هذا وقال: إذا عَرَّبْناً الدولة فلن يبقى للعنصر التركي شيء بعد ذلك"([9]).
وأنشأ السلطان عبد الحميد في إستانبول باعتبارها مقر الخلافة ومركز السلطنة "مدرسة العشائر العربية" من أجل تعليم وإعداد أبناء العشائر العربية من ولايات: حلب، ودمشق، ودير الزور، وبغداد، والبصرة، والموصل، وديار بكر، وطرابلس الغرب، وبنغازي، واليمن، والحجاز، والقدس. وكانت مدة الدراسة في هذه المدرسة خمس سنوات. وهي داخلية حيث تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلاب. ولكل طالب "إجازة صلة الرحم" وهي إجازة مرة كل سنتين، وسفر الطالب فيها على نفقة الدولة([10]).
وكان المتخرجون من هذه المدرسة يدخلون المدارس العسكرية العليا، ويحصلون بعد ذلك على رتب عالية. كما يمكنهم كذلك دخول المدرسة المُلكية – وهي مدنية – يدرسون فيها سنة، ويحصلون بعدها على رتبة قائمقام، ثم يعودون إلى بلادهم([11]).
ومن أركان سياسة عبد الحميد العربية اهتمامه بإنشاء الخط الحديدي الحجازي بين دمشق والمدينة ومكة، وذلك لتسهيل طريق الحج. وقد عهد عبد الحميد إلى الخبراء الألمان في تنفيذ هذا المشروع الذي بدأ العمل به في عام (1319هـ/1901م) وانتهى في عام (1326هـ/1908م)، وتم الاحتفال بوصول هذا الخط إلى المدينة المنورة([12]).
وكان في إنشاء هذا الخط مصلحة للمسافرين؛ إذ تمت الاستعاضة به عن طريق القوافل الذي يتطلب من المسافرين حوالي أربعين يوماً، وطريق البحر الأحمر الذي يستغرق حوالي إثني عشر يوما من ساحل الشام إلى الحجاز، بينما أختزل الخط الحديدي هذه الرحلة إلى خمسة أيام([13]).
واستخدم السكان هذا الخط بغرض أداء مناسك الحج، ونقل محصولاتهم الزراعية إلى المدن الكبرى. وظهرت القرى وأماكن الاستقرار على طول الخط، واستُصلحت الأراضي، كما زاد تعداد سكان بعض المدن الرئيسية التي يمر بها الخط زيادة ملحوظة. ومن الناحية الفكرية ساعد هذا الخط الحديدي على سرعة انتشار الأخبار بنقل الحصف والمطبوعات عبر المدن التي يمرّ بها([14]).
وكانت سياسة السلطان عبد الحميد إزاء هذا المشروع ذات شقين:
الأول: الوقوف أمام الرأي العام العربي والإسلامي بمظهر الخليفة الذي يرعى الشؤون الإسلامية، فتنجذب إليه القلوب.
الثاني: أن تنفيذ هذا المشروع ذو قيمة استراتيجية، من حيث توطيد حكم العثمانيين في بلاد الشام والجزيرة العربية. إذ سوف يكون الخط وسيلة سريعة لنقل الجيوش وتحركها لحماية ولايات الدولة العثمانية.
شل قدرات اليهود لعدم تحقيق طموحاتهم في فلسطين
كانت فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر المحور المركزي لنشاطات الصهاينة الغربيين الرامية إلى تسليم "أرض الميعاد" إلى أتباعهم في العقيدة، فقد كانت فلسطين آنذاك جزءاً من المقاطعات الآسيوية للدولة العثمانية، يسكنها رعايا السلطان العثماني من العرب.
وقد اعترف هرتزل الصحفي اليهودي النمساوي، وهو الشخص الذي ارتقى بالحركة الصهيونية إلى عنصر فاعل في العلاقات الدولية بعد أن كانت عبارة عن مجاميع مفككة غير متجانسة، بأن القرار هو بيد السلطان فقط.
ولغرض استدراج السلطان عبد الحميد إلى مشروعه هذا، قام هرتزل بخمس رحلات إلى إستانبول خلال الفترة من 1896 إلى 1902م (1314-1320هـ)، استطاع أثناءها الوصول إلى الباب العالي وإلى السلطان، وناقش المسألة مع مختلف المسؤولين، ومن ضمنهم رئيس الوزراء، بل حضي بمقابلة السلطان عبد الحميد بشخصه([15]).
ولإغراء السلطان عبد الحميد الثاني بالسماح لليهود بإقامة قرى يهودية في فلسطين، اقترح هرتزل عليه تقديم الخدمات والتسهيلات اللازمة في مسألة الديون العثمانية العمومية، وسيتم تقديم الضمان الكافي بهذا كتابة. وكان المصرفي الصهيوني المشهور روتشليد وراء هذا الأمر([16]).
ولكن هرتزل اكتشف بعد مضي فترة قصيرة بأن السلطان ضد إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وبذلك "أصبح عبد الحميد الثاني في نظر هرتزل: "سلطان ماكراً جداً، خبيثاً جداً، ولا يثق بأحد"([17]).
وكان السلطان عبد الحميد يرى ضرورة عدم توطين مهاجرين يهود في فلسطين حتى يبقى العنصر العربي المسلم محافظاً على تفوقه الطبيعي فيها. وكان من رأيه أيضا: وأنه إذا سمح لليهود بالتوطن في فلسطين، فإنهم سيستطيعون في وقت وجيز جداً أن يجمعوا في أيديهم وسائل القوة في المكان الذي يستقرون فيه، وفي هذه الحالة كما يقول السلطان: "سنكون قد وقعنا قراراً بالموت على إخواننا في الدين"([18]).
وقد عبر عن رأيه في الحركة الصهيونية وفي هرتزل بقوله: "لا يريد الصهيونيون الاشتغال بالزراعة فقط في فلسطين، بل إنهم يريدون إنشاء حكومة لهم وانتخاب ممثلين سياسيين لهم، وإني أفهم جيدا معنى تصوراتهم هذه"([19]).
على أن موقف السلطان هذا لم يكن طارئاً؛ فإن العثمانيين أخذوا الحركة الصهيونية على محمل الجد، وأدركوا خطورتها منذ البداية. ويمكن القول بأن السلطان عبد الحميد بنفسه هو الذي وضع الخطوط الأساسية للسياسة العثمانية في مواجهة الحركة الصهيونية، حيث كان مصراً على منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بأي ثمن.
ففي (28) يونيو و(7) يونيو من عام 1890م/1308هـ، أصدر إرادتين سلطانتين بـ: "عدم قبول الصهاينة في الممالك الشاهانية (الأراضي العثمانية) وإعادتهم إلى الأماكن التي جاؤوا منها"([20]).
بالإضافة إلى أنه طلب من وزاراته أن يدرسوا ويحيطوا بعناية بكافة جوانب المسألة في اجتماعاتهم، وأن يخرجوا بسياسات محددة ومتكاملة في الوقت نفسه، لكي يواجهوا بها خطط ومشاريع الصهيونية على الصعيد المحلي والدولي([21]).
وقد تضمن البرنامج النهائي الذي تمخضت عنه اجتماعات مجلس الوزراء الذي وافق عليه السلطان العثماني: أربع مجاميع من السياسات يوزع تطبيقها على عدة وزارات. عثمانية، لشل قدرات اليهود ومساعيهم الحثيثة لتحقيق مآربهم وأهدافهم وعلى رأسها إقامة كيان صهيوني في فلسطين([22]).
مقالات جديدة

الأضحية فضلها واحكامها
بقلم : أ.د. كامل صبحي صلاح

المجاهدون والمرابطون وعشر ذي الحجة
بقلم : الشيخ /عارف بن أحمد الصبري.

أعظم مواسم الطاعات - رسالة للعلماء والدعاة والمصلحين ولكل مسلمٍ
بقلم : عارف بن أحمد الصبري

في السياسة الشرعية
بقلم : د. محمد العبدة

محمـد علـي باشا والي مصر (1805-1849م)
بقلم : بقلم أ.د. محمد أمحزون

الأشهر الحرم...أ. د. كامل صبحي صلاح
بقلم : الأستاذ الدكتور/ كامل صبحي صلاح