
محمـد علـي باشا والي مصر (1805-1849م)

محمـد علـي باشا والي مصر
(1805-1849م)
بقلم أ.د. محمد أمحزون
إن الدور الأكثر خطورة من حيث آثاره ونتائجه في التاريخ الحديث، والتي امتدت آثاره حتى الآن هو دور "محمد علي باشا" والي مصر في الحقبة العثمانية. فقد كان هذا الوالي معادياً للدولة العثمانية، بل سعى إلى إسقاطها بتنسيق مع القوى الاستعمارية في بريطانيا وفرنسا. ووجَّه ضربة قوية للقوة الإسلامية الصاعدة في الجزيرة العربية، والتي أعلنت تصدِّيها للنفوذ الأوربي في منطقة الخليج. وعمل على كبح جماح التيار الإسلامي في بلاد الشام.
وفي هذا السياق، كانت مصالحه تتماهى مع مصالح الدول الاستعمارية وهي بريطانيا وفرنسا في المنطقة. وبالتالي فإن استمراره وأبناءه في الحكم يشير إلى توافق دورهم مع السياسة الاستعمارية الأوربية في العالم الإسلامي.
صفات محمد علي باشا
لقد وصف المؤرخ "عبد الرحمن الجبرتي" "محمد علي" وهو معاصر له، من خلال مسيرة الأحداث، وليس لخصومة أو عداء شخصي بينهما، فقال بأنه مخادع كذَّاب يحلف الأيمان الكاذبة، ظالم لا عهد له ولا ذمة، يضمر ويستخدم الجور والعسف في الوقت الذي يعد فيه بالعدل([1]).
وقد أرجع "الجبرتي" الأوضاع المزرية بالشعب المصري المسلم إلى ما يتصف به "محمد علي" من داء الحسد والشره والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم([2]).
اتخاذ بطانة من النصارى واليهود
أحاط "محمد علي" نفسه ببطانة ومساعدين ومستشارين من نصارى الأروام والأرمن، وكتبة ومحاسبين من الأقباط واليهود. وقد أعانه هؤلاء على ممارسة سياسة فيها الجور ولعسف وظلم الفلاحين([3]).
ويصور "الجبرتي" هذا الموقف بقوله: "فتح بابه للنصارى من الأروام والأرمن فترأسوا بذلك... كما أنه كان يحب السيطرة والتسلط، ولا يأنس لمن يعارضه"([4]).
ضم الأوقاف لتهميش العلم الشرعي
ولعل أهم ما قام به "محمد علي" لتقويض مقومات المجتمع الإسلامي في مصر، هو ضمه للأوقاف التي كانت موقوفة على الأزهر لينفق منها على التعليم والطلاب والعلماء. فقد مكَّنه هذا من تحقيق هدفه في تهميش دور العلم الشرعي، بإحكامه السيطرة على علماء الأزهر بعد أن فقدوا قدرتهم على معارضته([5]).
السياسة الاقتصادية
لقد اتسمت فترة حكم "محمد علي" بقرارات اقتصادية مجحفة بالرعية، تراوحت بين أخذ الأراضي والأملاك بالقوة، والتلاعب بالأسعار إلى احتكار البضائع، وفرض المكوس والضرائب وأعمال السُّخْرة (العمل بلا أجر) على الفلاحين.
وقد بَيَّن طريقة تعامله مع من يرفض الانصياع إلى هذه السياسة الاقتصادية الظالمة، فقال في معرض لومه للعلماء الذين انتقدوه في اجتماعهم بالأزهر: إِنْ حصل من الرعية أمر ما فليس عندي إلا السيف والانتقام.
وفي هذا السياق سلك مع مساعديه في الشؤون الاقتصادية، وهم من غير المسلمين، سياسة تتسم بالظلم والقهر والاستعباد ضد جموع الشعب المصري المسلم. فجمع حجج الأرض من الفلاحين، وفرض ضريبة بديلة ، وأبطل التجارة، وزاد في أسعار المعايش أضعافاً مضاعفة، وفرض الضرائب التي لا يطيق الناس دفعها، وجعل كل نشاط اقتصادي يؤول إليه([6]).
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد فتح الباب على مصراعيه للتجار الأوربيين لدخول مصر والسيطرة على الحياة الاقتصادية فيها. وأتاح الفرصة لشركات تجارية أوربية كي تتحكم في الاقتصاد، ومنح امتيازات واسعة لها. وأصبحت مصر هي المزرعة التي تعتمد عليها أسواق أوربا في المنتجات الزراعية([7]).
الحياة الفكرية
تم طبع الحياة الفكرية في عهد "محمد علي" بالطابع الثقافي الأوربي، إذ مكَّن الباشا دعاة الثقافة الأوربية من السيطرة على الحياة الثقافية في مصر، بعد أن همَّش مناهج التعليم القائمة على الشريعة الإسلامية تنفيذاً لسياسة "نابليون" الماسونية. وهذا الأمر أكَّده المؤرخ الإنجليزي "أرنولد توينبي" بقوله: "كان محمد علي دكتاتوراً أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعَّالة في مصر"([8]).
وبقدر ما كان "محمد علي وابنه إبراهيم" منفذين للأهداف البريطانية على الصعيد السياسي، فقد كانا منفذين كذلك للمشاريع الفرنسية على الصعيد الثقافي في مصر وفي بلاد الشام، سواءً لتأثير المحافل الماسونية الفرنسية عليهما أم تحقيقاً لأطماع محمد علي التوسعية في الشام التي أيَّدتها فرنسا([9]).
فما أن نجحت قوات "محمد علي باشا" بقيادة ابنه "إبراهيم" من السيطرة على بلاد الشام سنة 1833م، إلا وبدأ بتنفيذ المشاريع الثقافية الفرنسية. ففتح الباب على مصراعيه لدخول البعثات التبشيرية الفرنسية والأمريكية. ويعتبر بعض المؤرخين أن عام 1834م هو عام تَحَوُّل تاريخي؛ حيث عاد اليسوعيون (Jésuites) إلى بلاد الشام، وتوسَّعت البعثات الأمريكية. وذكر "جورج أنطونيوس" أن دخول قوات "محمد علي" وابنه "إبراهيم" إلى الشام يُعَدُّ نقطة انطلاق لدور المبشرين النصارى. وأنه لولا تأييد "إبراهيم باشا" لهم لبقيت عقولهم مشلولة وأفكارهم آسنة. إذ تمكَّنت كلية "عين طورة" التي أعيد افتتاحها من القيام بدور كبير في تكوين أطر وكوادر من الكُتَّاب والمفكرين أسهموا في نشر أفكار وآراء بين المسلمين حققت أهداف المحافل الماسونية الفرنسية على حساب الفكر الإسلامي الذي كان سائداً إبَّانَ الحكم العثماني([10]).
خيانة الأمة الإسلامية
* اتصال محمد علي بالبريطانيين
حين أرسلت بريطانيا حملة عسكرية إلى مصر كي تحتل مدينة الإسكندرية في مارس 1807م، بدأ "محمد علي" الاتصال بالإنجليز يريد التفاوض معهم للتوفيق بين أطماعه ونفوذهم. وقد استمرت المفاوضات بينهما أربعة أشهر أكَّد فيها "محمد علي" جديته ورغبته المخلصة في الارتباط بهم ورعاية مصالحهم في مصر. وقد تضمَّن التقرير الذي أعدَّه قائد الحملة البريطانية على مصر "فريزر"، والذي تفاوض مع رسل "محمد علي"، وأرسله بعد ذلك إلى "الجنرال مور" في 16 أكتوبر 1807م، أهم جوانب هذه المفاوضات. فقد جاء في هذا التقرير: "أرجو أن تسمحوا لي بأن أبسط لكم ليكون موضع نظركم فحوى محادثة جرت بين باشا مصر والميجور جنرال "شريروك" والكابتن "فيلوز" أثناء قيامهما بمهمتهما لدى سموه. ولدي ما يجعلني أعتقد أن هذه المحادثة، ومن اتصالات خاصة كثيرة أخرى كانت لي معه، بأنه جَادٌّ وصادق فيما يقترحه. لقد أبدى "محمد علي باشا" والي مصر رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية، ووعدناه بإبلاغ مقترحاته إلى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية، كي يقوم هؤلاء بإبلاغها إلى الحكومة الإنجليزية للنظر فيها. ويتعهد "محمد علي" من جانبه بمنع الفرنسيين والأتراك من الدخول إلى الإسكندرية من طريق البحر... وبعد الاحتفاظ بالإسكندرية كصديق وحليف لبريطانيا العظمى، لا مناص له من انتظار أن تعاونه إنجلترا بقواتها البحرية إذا وقع عليه هجوم من جهة البحر، لأنه لا يملك سفناً حربية..."([11]).
* محمد علي في ظل الماسونية الفرنسية
لقد تأكَّد لدى قادة وعلماء الحملة الفرنسية على مصر وعلى رأسهم "نابليون"، أن مشاريعهم وأهدافهم لن تتحقق إلا من خلال حاكم يحمل الهوية الإسلامية ظاهراً وترتبط مصالحه بمصالحهم، ويملك من القوة كمستند ما يمكِّنه من تنفيذ مخططاتهم.
وقد شهد عصر "محمد علي" تأسيس أكثر من محفل ماسوني في مصر. إذ أنشأ الماسون الإيطاليون محفلاً بالأسكندرية سنة 1830م على الطريقة الإسكندرية. وأما الفرنسيون الماسون فقد أسَّسوا محفلهم الأول سنة 1834م في القاهرة. وتبعه محفل آخر لهم في الإسكندرية سنة 1845م تحت رعاية الشرق الأعظم الفرنسي، وضَمَّ العديد من أبناء مصر إلى جانب العناصر الأجنبية([12]).
ومما يشير إلى تشبُّع "محمد علي" بالأفكار الماسونية، وتعظيمه للفكر الأوربي، بل واحتقاره للمسلمين، أنه نُقِلَ عنه وهو يفاوض الفرنسيين على مسألة احتلال الجزائر قوله: "ثقوا أن قراري لا ينبع من عاطفة دينية، فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرِّر من هذه الاعتبارات التي يتقيَّد بها قومي. قد تقولون: إن مواطني حمير وثيران، وهذه حقيقة أعلمها"([13]).
قال تعالى في المنافقين: }وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون{ [البقرة: 14].
تأمل ماذا قال هذا المنافق للفرنسيين عن مواطنيه المسلمين، حيث نعتهم بأنهم حمير وثيران، وأنه لا يعبأ بأمر الدين. وتأمل ماذا قال لأحد علماء الأزهر وهو "عمر مكرم"، حيث كان يسعى سعياً حثيثاً ليكون والياً على مصر مكان "خو رشد باشا" في عام 1805م. فقد كان يتردَّد على "عمر مكرم" نهاراً وليلاً، ويتعاقد معه سِراًّ ويحلف له الأيمان الكاذبة على سيره بالعدل، وإقامة الأحكام والشرائع، والإقلاع عن المظالم، ولا يفعل أمراً إلا بمشورته ومشورة العلماء. ولم يكن ذلك إلا رياءً ونفاقاً([14]).
* عداوته للتيار السلفي في الجزيرة العربية
إن القوة التي أرسلها محمد علي إلى الجزيرة العربية كان أغلبها من الأرناؤوط وبعض الأتراك والنصارى وبعض الضباط الفرنسيين([15]).
ويصور لنا المؤرخ الجبرتي، وهو شاهد عيان، طبيعة هذه القوة بقوله: "أين لنا النصر... وأكثر عساكرنا على غير الملة ! وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا آذان ولا تقام به فريضة ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين. والقوم (يقصد أصحاب الدعوة السلفية في نجد) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة، أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم طائفة الحرب وتتأخر الأخرى للصلاة. وعسكرنا يتعجبون من ذلك، لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته. وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفا غير مختونين"([16]).
على أن مهاجمة الدرعية كان مطلباً ملحاً لمحمد علي، لأن الهدف الحقيقي من هذه الحرب في كل مراحلها كان لخدمة أطماعه التوسعية في إطار تسمح به أهداف السياسية البريطانية في المنطقة، بعد أن أصبحت الدولة السعودية الأولى تشكل خطراً بالغاً على الوجود البريطاني في المنطقة بأسرها سواء في البحر الأحمر أم في الخليج العربي أم في وصولها إلى الطريق البري عبر العراق. فأصبحت بريطانيا تحس بتهديد حقيقي لمصالحها في الشرق. ولهذا فإن وصف هذه الحملة بأنها حملة صليبية في ثوب إسلامي يُعَدُّ وصفاً حقيقيا([17]).
وفي الختام: هكذا استطاع "محمد علي باشا" أن يقوم بما لم يستطع الصليبيون الأوربيون أن يقوموا به بشكل مباشر، في عمله على تحطيم الهوية الإسلامية التي تُعَدُّ الركن الرئيس في صمود الشرق الإسلامي ضد موجاتهم المعادية للإسلام والمسلمين طيلة قرنين من الزمان.
إذ هيَّأ في مصر وفي بلاد الشام المناخ المناسب لإقامة المؤسسات والقوانين والمناهج والأفكار للمعادية للدين الإسلامي وللمسلمين. وأسهم كل هذا في تهيئة العالم الإسلامي لمرحلة استعمارية أوربية مازال يعاني المسلمون من آثارها إلى يوم الناس هذا.
([5]) أحمد خاكي: الجبرتي ومحمد علي، ص 391. وزكريا سليمان بيومي: قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 179.
([8]) أرنولد توينبي: عبد الرحمن الجبرتي وعصره، ص 14. بحث ضمن مجموعة ندوة الجبرتي، القاهرة، سنة 1976.
مقالات جديدة

الأشهر الحرم...أ. د. كامل صبحي صلاح
بقلم : الأستاذ الدكتور/ كامل صبحي صلاح

نظرية العصبية عند ابن خلدون وتأسيس الدول
بقلم : د. محمد العبدة

الاتِّباع في القرآن الكريم
بقلم : بقلم: أ.د. محمد أمحزون

البعد الحضاري للصراع الدولي
بقلم : د. حسن سلمان
تم النشر في : 31 يناير 2025

تفسير سورة النصر
بقلم : الأستاذ الدكتور/ كامل صبحي صلاح

معانــي ودلالات الأمــر في القرآن الكريم
بقلم : بقلم أ.د. محمد أمحزون