الاثنين ، 11 ربيع الآخر ، 1446
section banner

إمارة أفغانستان الإسلامية وواجب الأمة

poster
لما سقطت الخلافة العثمانية وأعلن كمال أتاتورك إلغاء الخلافة سنة 1924م حزن لذلك كثير من المسلمين، حيث كانت الخلافة رمزًا لوحدتهم رغم أنها كانت دولة صوفية، ورغم ما اعتراها من عجز وضعف في آخر عهدها، ومن تبديل لأحكام الشريعة وموالاة للكفار.. ومنذ ذلك الحين حمل العلماء والدعاة على كاهلهم مشروع إعادة الخلافة الإسلامية، وكان من وسائل ذلك نشوء الجماعات الإسلامية.. وها نحن اليوم بعد مرور نحو 100 عام على سقوط الخلافة العثمانية قد أذن الله بقيام الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وذلك في أعقاب هزيمة الأفغان للولايات المتحدة الأمريكية في حرب امتدت عشرين عامًا، اعترف خلالها الأمريكان بعجزهم في القضاء على طالبان رغم الإنفاقات الهائلة التي بلغت 2 تريليون دولار..
لقد تحققت أمنية العلماء والدعاة بقيام دولة إسلامية مرجعيتها الشريعة الإسلامية فقط بلا شريك، لكن هذا الحدث العظيم لم يحظ بالعناية المطلوبة من الأمة الإسلامية عمومًا ومن علمائها خصوصًا، ولاسيما أن هذه الدولة أثبتت وجودها، وبدأت تطور نفسها بشكل سريع ومذهل، ومن ذلك:
- أصبح قوام الجيش الأفغاني ما يزيد على مائتي ألف جندي نظامي مدرب، ومسلح بأفضل ما يمكن، وقد رأينا -ورأى الناس جميعًا- عروضهم العسكرية...
- ورأينا انتشار الكثير من المصانع في ربوع أفغانستان لكفاية احتياجات الأفغان -بل والتصدير للدول المجاورة كما في حديد التسليح مثلًا؛ الذي تصدره أفغانستان الآن لدول الشمال كطاجيكستان وتركمانستان-، مع التقدم الواضح والحثيث في مجالات الطاقة والكهرباء وغيرها من مجالات البنية التحتية..
- ورأينا منع ومكافحة زراعة وتصنيع المخدرات بعد أن كانت أفغانستان في عهد الاحتلال الأمريكي أكبر مزرعة في العالم لإنتاج المخدرات..
- وأنشأت طالبان خلال السنتين الماضية مركزًا صحيًّا لعلاج القلب وعملياته، بينما النظام السابق -وخلال عشرين سنة- لم يَبْنِ مركزًا صحيًّا واحدًا.
- وكشف تقرير بمجلة ذي إيكونوميست (The Economist) البريطانية بأن جهود طالبان لحكم أفغانستان لم تكن دون جهود الحكومات التي سبقتها في الآونة الأخيرة، بل إنها تجاوزت في بعض النواحي التوقعات المنخفضة المسلَّم بها، واعترفت المجلة بأن حكومة طالبان أثبتت أنها في جانب الإصلاح أكثر التزامًا من سابقاتها.
وذكرت المجلة تحسن تطبيق القانون الاقتصادي في جميع المجالات، مما زاد كثيرًا في الإيرادات الجمركية رغم انخفاض التجارة الدولية، حتى بلغ إجمالي الإيرادات للسنة، المنتهية في مارس 2023م، نحو 2,3 مليار دولار، وذلك لأن التهديد بتطبيق الحدود، مثل قطع يد السارق، ثبط بقوة من قبول مسؤولي الجمارك للرشاوى، كما يقول أحد مستشاري الملا برادر نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الاستراتيجية الاقتصادية.
وقد قامت طالبان بتمرير مشروع إنجاز أعمال الطرق الذي عُرقل لسنوات من قبل واضعي اليد غير القانونيين، وتم حشر الباعة المتجولين في مناطق محددة، كما نُقل مدمنو المخدرات من الشوارع إلى مراكز إعادة التأهيل، وأغلقت المطاعم القذرة.
ورغم أن أفغانستان خسرت 75% من ميزانيتها التي كان يتبرع بها الأجانب، فقد جمعت طالبان عائدات كافية لدفع رواتب 800 ألف موظف حكومي، بعد أن انخفضت نسبة الشركات التي تقدم رشوة لمسؤولي الجمارك من 62% إلى 8% وفقًا لمسح أجراه البنك الدولي مؤخرًا، وذلك رغم أن نسبة 41% من الإنفاق تذهب إلى الدفاع والأمن.
وأشار التقرير إلى أن طالبان تقوم بـمراجعات مهمة، إذ يعتقد رئيس شركة إعــــلامـــيـــة مقـــرها كــــابـــل -وليس من المعجبين بحكم طالبان- أن "أفغانستان تدار اليوم بشكل أفضل من باكستان" وأن محطات التلفزيون الأفغانية تتمتع بحرية نقل الأخبار أكثر من تلك الموجودة بالهند. كما أن مجموعة من علماء الآثار الأجانب والمحليين والقيمين على التراث الأفغاني الغني في كابل يشيدون بطالبان لدعمها لهم في ترميم مواقع ما قبل الإسلام.
إن ما يحققه رجال أفغانستان -يوميًّا- ليثير دهشة وعجب كل من عاش تحت حكم طواغيت الدول الإسلامية الذين يعملون عملًا دؤوبًا لتحطيم معنويات الشعوب الإسلامية وقتل أي بادرة للتفوق والتقدم العلمي والتقني والمادي؛ فالأفغان يترقون ويتقدمون بسرعة مذهلة، وما ذلك إلا لتمسكهم بالإسلام الذي هو أصل الحضارة والتقدم والرقي، وسبب لسعادة الدارين..
وهذا لا يعني أن المشاكل والأزمات انتهت من أفغانستان، لكن جزءًا كبيرًا من تلك المشاكل والأزمات هي بسبب الـحصار الدولي، فـــما زالت الإمارة الإسلامية فـي أفغانستان تواجه حربًا ضروسًــا -اقتصادية وسياسية- من المجتمع الدولي، فقد استضافة قطر -قبل أسبوعين- اجتماعًا دوليًّا وبعض العاملين في منظمة الأمم المتحدة -برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش-، وهدف هذا المؤتمر -المعلن- هو محاولة إيجاد سبيل للتأثير على سلطات طالبان في أفغانستان لإخضاعها لأنظمة المجتمع الدولي الكافرة، وصرفها عن تطبيق الشريعة الإسلامية.
يشارك في المؤتمر ممثلون عن نحو 25 دولة ومنظمة دولية، ليس من بينهم حكومة طالبان التي لم يُعترف بها دوليًّا حتى الآن...
ويربط المجتمع الدولي الاعتراف بنظام طالبان والإفراج عن الحقوق المالية لأفغانستان -التي منها ما يزيد عن ثلاثة مليارات ونصف لدى أمريكا- بما يطلقون عليه: احترام طالبان لحقوق الإنسان، والقوانين التعسفية التي تصدرها حكومة طالبان، وحقوق النساء في الدراسة والعمل...
وقد تم إدانة حركة طالبان دوليًّا بما يطلقون عليه: تطبيقها القاسي للشريعة الإسلامية، ومعاملتها الوحشية للعديد من الأفغان، كما أتهمتها الحكومة الأفغانية العميلة السابقة -وغيرها من الحكومات- بأنهم خوارج ويشوهون صورة الإسلام.
وكان ما يسمى بمجلس الأمن الدولي قد تبنَّى بكافة أعضائه الخمسة عشر -قبل أيام- قرارًا يدين طالبان إزاء السياسات والممارسات التي تقيد الحريات الأساسية للنساء والفتيات..
وقد ردت وزارة الخارجية الأفغانية بأن هذا شأن اجتماعي داخلي لأفغانستان.
إن متابعة الكفار والمنافقين في وصف الحكومة الأفغانية بالتشدد في تطبيق الشريعة أو معاملة النساء أو غير ذلك مما يجب أن يصون المسلم لسانه عنه إلا بعد إخضاع هذه المقولات لميزان الشرع..
وورود هذه الألفاظ على ألسنة المنظمات والدول الكافرة والبعيدة عن الحكم بالإسلام لا يعني صحة هذه التهم؛ بل هم في الواقع يتهمون الإسلام نفسه لا تطبيق طالبان للإسلام، إنما حقيقة الخلاف هو في المرجعية؛ فمرجعية طالبان ربانيَّة، ومرجعية النظام الدولي بشرية وضعية..
ولنضرب لذلك مثالًا واحدًا لبيان خطورة الأمر؛ فلو حكم حاكم بقطع يد سارق ما مستمدًا ذلك من قول الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
فهذا الحاكم محسن في ميزان الشرع لتطبيقه حكم الله تعالى..
وأما في ميزان الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وعموم المنافقين والطواغيت فهو همجي مارق يجب الأخذ على يده واستباحة أمواله -بل ونفسه ودمه-، وتسليط المنافقين وكلاب الإعلام عليه بوصفه بأسوأ الأوصاف؛ لينفروا الناس عنه..
ولا لوم ولا عجب من هؤلاء الكفار والمنافقين فهم عبدة الشيطان الذي يأمرهم بمعاداة كل من يوالي الله عزَّ وجلَّ ويعبده وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿‌أَلَمْ ‌أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي: ألا تطيعوه..
وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا ‌فِي ‌السِّلْمِ ‌كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢٠٨ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن قتادة ﴿ادْخُلُوا ‌فِي ‌السِّلْمِ ‌كَافَّةً﴾: ادخلوا في الإسلام جميعًا -أي: في جميع أحكام الإسلام لا بعضها- ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يقول: خطاياه.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يقول: عمله.
وإنما اللوم والعجب ممن شهد أن لا إله إلا الله ثم هو يناصر أعداء الله عزَّ وجلَّ ويتهم إخوانه وليس لهم ذنب إلا تطبيقهم كلام الله عزَّ وجلَّ..
إن قيام دولة أفغانستان بمرجعيتها الشرعية حدث ضخم، ومشروع جاهز لعلماء المسلمين ودعاتهم، قدَّم الأفغان تضحيات جسيمة لقيام هذا المشروع، ينبغي أن توجَّه لخدمته معظم الجهود، وإن كثيرًا من المشاريع المتعثرة يمكن أن تنفذ من خلال التعاون مع طالبان..
فما هو واجب الأمة وعلمائها تجاه هذه الدولة الإسلامية الناشئة؟
يمكن أن نلخص الواجب في عدة نقاط:
1. المناصرة:
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «انصر أخاك ظالـمًا أو مظلومًا» فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان ظالـمًا كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره». [رواه البخاري (6952) من حديث أنس رضي الله عنـه].
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمُهُ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة».
[رواه البخاري (2442) ومسلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «ولا يسلمه»: أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا، وقد يكون مندوبًا بحسب اختلاف الأحوال. [فتح الباري (5/97)].
ولا شك في وجوبه في حالتنا هذه؛ فالحكومة الإسلامية في أفغانستان متهمة بسبب تمسكها بالإسلام لا بسبب دنيوي.
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «..المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره..». [رواه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنـه].
وفي بيان معنى الخذلان في هذا الحديث يقول النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: الخذل: ترك الإعانة والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي. [شرح مسلم (16/120)].
وهاهم إخواننا المسلمون في إمارة أفغانستان الإسلامية في أشد الاحتياج للمساعدة والنصرة ولاسيما في مرحلة البناء التي أعقبت التحرر من الاحتلال الأمريكي..
2. هجرة العقول ورؤوس الأموال إليها:
إن تقوية هذه الدولة الإسلامية الناشئة بالعقول المفكرة والمبدعة في كافة المجالات والتخصصات ضروري لدعمها وتقويتها، وكذلك هجرة رؤوس الأموال بالاستثمار فيها وتطويرها، وهو يدخل في النصرة المطلوبة، فالأصل وجوب الهجرة إليها إلا لمصلحة راجحة..
3. المناصحة:
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «‌الدين ‌النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». [رواه مسلم (55)].
إن مجاهدي طالبان وانشغالهم بحماية ثغر أفغانستان وإقامة الدولة الإسلامية كفيل بتقاربهم مع إخوانهم المسلمين وخصوصًا العلماء منهم، وقد كان السلف يحاورون أهل الثغور ويبينون لهم ما ظهر لهم من الحق، وعامة المسلمين يقبلون النصح إلا الرافضة والجهمية؛ يقول عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عباس بن محمد الدوري سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: كلَّمت الناس وكلَّمت أهل الكتاب، فلم أرَ قومًا أوسخ ولا أقذر ولا أطفس من الرافضة، ولقد نفيت ثلاثة رجال إذ كنت بالثغر قاضيًا: جهميين ورافضيًّا -أو رافضيين وجهميًّا-. وقلت: مثلكم لا يجاور ‌أهل ‌الثغور. [كتاب السنة (506)، وسنده صحيح].
مع الأخذ في الاعتبار أن الخلافات القديمة بين الفرق الإسلامية قد لا يمكن حسمها في زماننا هذا، وعلى من له إمارة أو نوع سلطة أن يأخذ الناس بالتلطف لا بالقمع -ما داموا مسلمين-، وإلزامهم بالتعايش فيما بينهم، ومحاولة تحجيم الخلافات وحصرها في مناظرات بين أهل العلم، ومنع العوام من العصبية والخوض في تلك المسائل، وفي المقابل على العلماء والدعاة أن يتجاوزوا عن كثير من الخلاف؛ خاصة وأننا أمام الكفر الصراح اليوم، فكثير من الدول الإسلامية التي قامت عبر التاريخ لم تخلُ من بدعة؛ كالدولة الأيوبية والخلافة العثمانية.. لكن كان لتلك الدول دور عظيم في نصرة الإسلام ودحر الصليبيين..
ولا ينبغي أن ننسى ما كان في نهايات عصر الجهاد الأفغاني الأول مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية، فقد ظهرت خلافات خطيرة بين المجاهدين، واستغل الكفار تلك الخلافات فأشاعوا في أجهزتهم الإعلامية الموجهة المتاحة في ذلك الزمان -وباللغات المحلية-، أشاعوا عن المجاهدين العرب إشاعات كاذبة مثل قولهم: إن العربي يعبد الشيطان، ويتزوج أخته، ويصلي بغير وضوء، ونحو ذلك من الأكاذيب المفضوحة..
يشيعون مثل ذلك للتدليل على كفر العرب، مما دفع بعض الجهلة المتعصبين إلى تصديق تلك الشائعات وبادر بعضهم إلى قتل بعض المجاهدين العرب الذين يحملون السلاح معهم جنبًا إلى جنب لدحر عدو الأمة الغاشم، وقد قام العلماء بتوضيح كذب تلك الادعاءات الكاذبة التي تنشرها الإذاعات الكافرة، فتوقف القتل بعد أن ذهب ضحية ذلك عدد من الرجال المجاهدين رحمهم الله تعالى..
وهذا هو دور العلماء في محاربة الجهل والتعصب..
فمن الواجب التنبه لخطورة الدسائس التي يشيعها أعداء الإسلام، وتخصيص طائفة من العلماء للقيام بواجب كشف أكاذيب وأراجيف الأعداء، لاسيما وقد أصبح الأمر الآن أخطر وأشد ضراوة بعد شيوع استخدام الجواسيس والإنترنت والمواقع الإجرامية المنتشرة بكثرة من خلاله.
وهذا من الجهاد المطلوب شرعًا؛ فعن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك -حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر ما أنزل- أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن المؤمن ‌يجاهد ‌بسيفه ولسانه». [رواه أحمد (15785) بسند صحيح].
وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». [رواه مسلم (50)].
المعروف عن طالبان أنهم يتبعون المدرسة الديوبندية الهندية الأصل، وهم على مذهب الحنفية في الفقه، والماترودية في الاعتقادات.
والماتردية هي فرقة من المتكلمين أقرب إلى الأشعرية، وبين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقائد طوائف هؤلاء المتكلمين خلاف قديم.
وهم في الإيمان مرجئة، لكن الإرجاء في أصله هو من أخف المقالات البدعية، وإنما تغلَّظ بما زادته الفرق الكلامية وأهل الأهواء، ولذا قال شيخ الإسلام: ... ولهذا دخل في "إرجاء الفقهاء" جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين. ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدًا من "مرجئة الفقهاء" بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال؛ لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله... [مجموع الفتاوى (7/394)].
ولذلك يمكننا أن نقول:
إن المجاهدين من الديوبندية لن يكون شاغلًا لهم: هل العمل من الإيمان أم هو ثمرة من ثمرات الإيمان؛ فإن انشغالهم بالجهاد والإقامة العملية لشرع الله تعالى سيبعدهم عن مثل ذلك التنظير، بل عن كافة تنظيرات المتكلمين؛ فإن بدعة الكلام لم تنشأ إلا عن ترف القعود عن الجهاد، والانشغال عن الكتاب والسنة بترجمة كتب الفلاسفة وإعمال الفكر بعيدًا عن العلم والعمل.
ولاشك أن كل طائفة يوجد فيها متعصبون.
وقد كان أئمة الإسلام -الأربعة وغيرهم- أبعد الناس عن التعصب، يقول شيخ الإسلام: ... وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لـما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما.
لا يقال فيهما مذبذبان؛ بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب؛ فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان.
فإذا تبين له من العلم ما كان خافيًا عليه اتبعه، وليس هذا مذبذبًا؛ بل هذا مهتد زاده الله هدى. وقد قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ‌زِدْنِي ‌عِلْمًا﴾. [الفتاوى الكبرى (2/108)].
🤲🏻 اللهم انصر كتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين في كل مكان.