السبت ، 19 جمادى الآخر ، 1446
section banner

الرد على شبهة عدم جواز المقاومة مع ضعف القدرة

poster
 
من الشبهات التي بدأ البعض يثيرونها مع اشتداد وطأة العدوان على أهلنا في غزة شبهة أن المقاومِين ما كان لهم أن يستفزوا هذا العدو ،وهم يعلمون مدى ضعف قوتهم بالنسبة إلى قوة عدوهم . بل سمعت مقطعاً لبعض المنتسبين للعلم الشرعي يقول فيه : إنه لا يجوز للمسلمين الدخول في معركة إلا إذا غلب على ظنهم أنهم سيحققون النصر على عدوهم .
والحقيقة أن مثل هذا الكلام ما زلنا نسمعه منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى ( انتفاضة الحجارة عام 1987) ،وصار يتكرر في كل مواجهةٍ مع العدو ، ولو التفت إخواننا المجا..هدون إلى مثل هذه الشبهات ،لما استطاعوا الاستمرار في مقاومتهم ،ولا تطوير قدراتهم : من المواجهة بالمقلاع والحجر ،إلى المواجهة بالبندقية ،إلى المواجهة بالصواريخ وقذائف إلياسين ..
بل إن سلفَنا الصالح رضوان الله عليهم لو التفتوا إلى مثل هذه الأقاويل لما قاتلوا ولا فتحوا البلدان ؛وذلك لأن غالبية المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده لم يكن فيها أي تكافؤ بين عدد المسلمين وعتادهم وبين عدد العدو وعتاده ، من أول غزوة بدر إلى ما بعدها من المعارك والغزوات . وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ( 7/ 7) أن عدد الروم في معركة اليرموك كان أربعين ومائتي ألف مقاتل منهم ثمانون ألف فارس،في حين كان عدد المسلمين لا يزيد في أقصى التقديرات على أربعين ألفاً ( أي أن نسبة المسلمين إلى الروم كانت 1: 6)، هذا إضافةً إلى التفاوت الكبير في عدد الخيول والعتاد .
وقد تعرضْتُ لمثل هذه الشبهات في كتابٍ لي صدر منذ أكثر من عشرين عاماً عنوانه : ( مراحل تشريع الجهاد: نسخ اللاحق منها للسابق ) .وذكرتُ هناك ما خلاصته أن الله تعالى -من رحمته بعباده- لم يكلفهم إلا بما يطيقون ؛ولذا عذر غيرَ القادرين ،ورخص لهم في ترك الجه..اد؛ كما قال تعالى ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) .[ التوبة :91 ] .لكن مَن سقط عنه الجه/اد لا يأثم إنْ هو تكلف الجه..اد وقاتل في سبيل الله ،حتى لو أدى ذلك إلى قتله وعدم تحقيق الظفر على الأعداء ،متى كان في ذلك مصلحة شرعية كإحداث نكايةٍ في العدو أو بثٍ للرعب في قلوبهم ،أو تجرئةٍ لقلوب أهل الإيمان أو نحو ذلك .والأدلة على ما ذكرناه كثيرة :
1-منها ما جاء في قصة عاصم بن ثابت لما ( بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس نفر من أصحابه إلى عضل والقارة ،فخرج عليهم قرابة مائة رام ، فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً ، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ... ، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل ... ). [ أخرجه البخاري (3045) من حديث أبي هريرة ].فلا شك أن قدرة عاصم ومن معه لم تكن تبلغ أن يقاتلوا مئة رامٍ ، وقد كان لهم مندوحةٌ في ترك القتال، ومع ذلك أبى عاصم رضي الله عنه إلا أن يقاتلهم فقاتلهم حتى قُتل .
2-ومنها ما ورد في قصة عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وخروجه يوم أحد مع أنه كان رجلاً أعرجَ شديدَ العرج فهو معذور ، ومع ذلك خرج وقاتل ،ورزقه الله الشهادة ، ومرَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مقتله فقال : ( كأني انظر إليه يمشي برجله هذه صحيحة في الجنة..).[ أخرجه أحمد (5/229)،وسنده صحيح كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (9/315) ].
3- ومن تلك الأدلة حديث سلمة بن الأكوع حين أغار بعض المشركين على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فتبعهم سلمة وحده ،فما زال يرميهم بنبله حتى استخلص منهم ما أخذوه ،وما زال يتبعهم وهم يفرون منه ويلقون ما معهم يستخفون ،فاستلب منهم أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً،وفيه من قول سلمة: ( فوالذي كرَّم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ،ولا غبارهم شيئاً حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذا قَرَد ليشربوا منه وهم عطاش قال فنظروا إليَّ أعدوا وراءهم فحليتهم عنه ( يعني أجليتهم عنه فما ذاقوا منه قطرة ...) ، وفيه من قوله صلى الله عليه وسلم : ( كان خيرَ فرساننا اليوم أبو قتادة وخيرَ رجالتنا سلمةُ). [أخرجه مسلم (1807)].
4-ومن ذلك ما ذكرناه آنفاً من كون أكثر معارك المسلمين في الصدر الأول لم يكن قوة المسلمين تكافئ قوة عدوهم ولا نصفها .وصحيح أن الله تعالى لم يطالبنا بمغالبة العدو والصبر على قتاله ،إلا إذا كان عددُنا نصف عدده أو أكثر ،كما في قوله تعالى : ( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).[ الأنفال:66]. لكن ليس في هذه الآية ولا غيرها تحريم ثبات المسلمين أمام عدوهم إذا كان عددهم أقل من نصف عدد العدو ، ولذا قال ابن قدامة في المغني ( 10/544 ) : ( وإذا كان العدو أكثرَ من ضعف المسلمين فغَلَب على ظن المسلمين الظفرُ فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة ،وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب ... وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف ،وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضاً في الشهادة ،ويجوز أن يغلبوا أيضاً ).
وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (2/364) .: ( قال محمد بن الحسن : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه وإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه).
5-ثم إن التوصيف الفقهي لحال المسلمين اليوم في فلس..طين هو أنهم في موقف دفاع .واشتراط القدرة لوجوب الجهاد إنما هو في حال جه/اد الطلب ( أي غزو الكفار في ديارهم ) ،أما في حال جه/اد الدفع كأن يغزو العدو أرض المسلمين ،فإنه يجب الدفاع بما تيسر .قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين ،فواجب إجماعاً ... فلا يُشترط له شرطٌ ،بل يدفع بحسب الإمكان ،وقد نص على ذلك العلماء : أصحابنا وغيرهم،فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر ،وبين طلبه في بلاده ). [الاختيارات الفقهية : ص : 309].
ويقول أيضاً : ( فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم ،وعلى غير المقصودين لإعانتهم ... وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق ،لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج ... ). [مجموع الفتاوى : (28/358-359)].
وختاماً نقول: إنه أياً كانت نتائج الحرب الدائرة الآن ،فإنه يكفي أولئك الأبطال أنهم نابوا عن الأمة كلِّها في مواجهة عدوٍ غاشم احتل الأرض وهتك العرض ،فأحيَوْا ما أمات الناس من فريضة الجه..اد ،وأبقَوْا قضية الأقصى وما حوله حيةً ماثلة في الضمائر والقلوب ،إلى أن يأذن الله بيوم يعود فيه الحق إلى نصابه ،ويَرجع للمسلمين حقُهم السليب.