الاثنين ، 11 ربيع الآخر ، 1446
section banner

على وسائل التواصل.. إغراء المتابعين بالتحدث في أحكام الدين

poster

عندك صفحة على الفيسبوك، أو حساب على تويتر أو إنستجرام، أو قناة على التليجرام أو اليوتيوب؛ وبلغتَ عشرات آلاف المتابعين، أو مئات الآلاف أو الملايين، ويستمع إليك جمهور مقدر، يرجع إليك ويتناقل أقوالك ومرئياتك وصوتياتك، وقد أحدثت حالةً أو شبه حالة بين متابعيك ما بين مؤيد ومعارض؛ وأنت مع ذلك غير دارس لعلوم الشريعة، وقد مرت من عمرك عقودٌ وأنت في تخصص آخر..  إذن فاعلم أن هذه الأعداد، أو هذه "الحالة" أو شبهها، لا تبيح لك أن تتحدث في أحكام الشريعة، ولا أن تصدر نفسَك في الفتوى، ولا تسمح لك أن تحكم بالانحراف أو الضلال على كبار علماء الأمة وفقهائها، ممن شهد لهم القاصي والداني بالعلم والتمكن والإمامة، مع عدم عصمتهم عن الخطأ طبعا، إنما يبيح لك أن تتحدث عنهم بتقدير، ويخوِّلك أن تسألهم وترجع إليهم كما يرجع كل مسلم.

 

ولكن الحاصل أنك تدخل في عويص المسائل، وتناقش في مرئياتك وصوتياتك خلافيات تشغل بها الأمة، وتثير قضايا ماتت ومات أهلها، متخيلا أن عندك من المؤهلات ما يمكنك من الحديث عنها والخوض فيها والحكم على أهلها، والواقع أنك لست مؤهلا للحديث عنها، ولا عشت معها، ولا تخصصت فيها؛ فتفرغ الطاقة العقلية لكثير من الشباب في غير سبيل الرشاد، بدلا من أن يتوجهوا لتفعيل طاقاتهم النفسية والعقلية في فهم دينهم، ومواجهة التحديات المعاصرة.

 

للنفس حظوظا، فالنفس تحب المديح واستمطار الثناء، والتصدر في المجالس، والأمر كما قال أبو حامد الغزالي: إنَّ "حدَّثَنَا" بابٌ من أبواب الرياء.

 

لماذا التحدث في الدين من غير المؤهلين؟!.

 

والذي يحملك على هذا هو ما تراه من أعداد المتابعين لإخلاص كنتَ عليه سابقا، أو تواضع كان الله قد منَّ الله به عليك، أو عذوبة لسان تستتبع الجماهير، أو لحديثك عن مساحات يحتاجها الجيل الحاضر مع ما لديك من إمكانات في الحديث؛ لكنك فاقد للأهلية العلمية بشكل لا يستقيم معه حال، وتتكشف به الحقيقة في أقرب مآل.

 

كذلك فإن للنفس حظوظا، فالنفس تحب المديح واستمطار الثناء، والتصدر في المجالس، والأمر كما قال أبو حامد الغزالي: إنَّ "حدَّثَنَا" بابٌ من أبواب الرياء. يعني أن يجلس المرء على كرسي الحديث، ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فهذا باب من أبواب الرياء، للظهور بأنه على علم مسند، ولديه قدرات الحفظ وملكات الحديث التي تمكنه من أن يتصدر؛ فيصاب بغرور النفس والرغبة في تلبية حظوظها، فيسيء من حيث أراد الإحسان، ويفسد من حيث أراد الإصلاح.

 

إنني هنا لا أقطع الطريق على غير المختصين، بقدر ما أريد أن أبين خطورة هذه الظاهرة التي تغري أهلها بالحديث فيما لم يحيطوا بعلمه ولمَّا يأتهم تأويله، والطريق مفتوحة للتعلم إن لم تكن مختصّا، ولكن تعلم قبل أن تتكلم، ولا تتصدر قبل أن تتزبب، أو لا تتزبب قبل أن تتحصرم، كما قالت العرب!.

 

هذه ثمرة طال ما رأيناها وخبرناها وعايشناها، وسرعان ما ينفض عنك الناس؛ لأن للوعي الجمعي من النضج درجةً تمكنهم من التمييز مع مرور الوقت، ومع تقلبات الزمان وتغيرات الأحوال وتبدلات الأوضاع

 

الانطفاء السريع

 

ولكنك لا تتعلم ولا تحصّل ما تتحدث فيه، أو ما سولتْ لك نفسُك أن تتحدث فيه، وفي الوقت نفسه تركتَ اختصاصك الأصلي الذي قضيت فيه أكثر من نصف عمرك، وخُيِّل إليك – من خلال أعداد المتابعين أو حتى الحضور وكثرتهم – أنك وصلت، نعم وصلت، لدرجة عليا لا تقبل فيها نقدا، ولا مراجعة ولا تصحيحا، ولا حتى تحصيلا، وترى كل ما فوق التراب ترابا؛ وتورمتْ أنفُك كبرا وغرورا قطعا عليك سبيل الزيادة في العلم والإقبال عليه، وسددتَ بهما على نفسك قبول النصيحة حتى لو صدرتْ من أهلها وبضوابطها الفقهية وآدابها الشرعية، ومن ثم يحدث لك الانطفاء المفاجئ والتراجع السريع!.

 

نعم، سرعان ما تنطفئ، وهذه ثمرة طال ما رأيناها وخبرناها وعايشناها، وسرعان ما ينفض عنك الناس؛ لأن للوعي الجمعي من النضج درجةً تمكنهم من التمييز مع مرور الوقت، ومع تقلبات الزمان وتغيرات الأحوال وتبدلات الأوضاع: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء وَٱللَّهُ لَا یحب الظَّـالمين} [آل عمران: ١٤٠]؛ لأنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كلَّ الوقت، ولا كل الناس بعض الوقت، ومن هنا ستنكشف حقيقتك، ويحدث لك الانطفاء، وينفض عنك الناس، فلا أنت أكملت طريق تخصصك الأول، ولا فتحت لنفسك الباب للتعلم والإفادة بما يضعك على طريق التأهيل في موضوع اهتمامك الجديد.

 

أنت يا من تغريك أعداد المتابعين بالجرأة على التحدث في الدين، فاعلم أن هذه الأعداد التي تتابعك هي مجرد اختبار لك، فلا يغرنك ثناؤهم عليك عن الوقوف على حقيقة نفسك.

إن معالم الرشاد من هذه الحالة، والخروج من هذا التيه، تتمحور حول أن يعرف الإنسان نفسه، فيُلزمها ما تعرفه، ويبعدها عما لا تعرفه حتى تتعلمه وتعرفه، وأن يتقي ربه في دينه وشرعه وفي الناس ولا يتحدث فيما لا يعلم، وليكن شعاره: "تكلم فيما تحسن، ودع ما لا تحسن لمن يحسن، واجتهد أن تحسن ما لا تحسن، تكن لك الحسنى وزيادة إن شاء الله".

 

إن استكمالك الحديث عما تخصصت فيه، وأنفقت فيه ثلاثة عقود على الأقل هو أكثر فائدة وأعظم عائدة لك وللناس؛ لما لذلك من تراكم تتسم به المعرفة الإنسانية في تحصيلها وبنائها، وإنَّ ترْكك لهذا التخصص  خسارة لك وللناس ولما أنفقت فيه هذا العمر من الجهد والوقت والمال، وسلوكك لتخصص جديد هو فساد لك وإفساد للآخرين، وجناية على الدين والدنيا معا، فلا أنت كسبت ما بدأت به مشوارك، ولا أتقنت ما تحولت إليه.

 

ولهذا كان القرآن الكريم واضحا في تقدير التخصص واحترامه، يقول الله تعالى: ﴿الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، الرحمن فاسأل به خبيرا﴾ [الفرقان: ٥٩]، وقال تعالى:  ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ [النحل: ٤٣]. وفي المعنى نفسه يقول تعالى: ﴿وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ [الأنبياء: ٧].

 

وكذلك السنة النبوية؛ فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:  "أرحَمُ أُمتي بأُمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقُهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمُهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤُهم أُبَيّ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأُمة أبو عبيدة".

 

إن احترام التخصص وتقديره لا يعود نفعه على الفرد نفسه فحسب، ولا على العلم ذاته فقط، وإنما يعود على الأمة كلها تقدما ورقيا ورشادا، أما أنت يا من تغريك أعداد المتابعين بالجرأة على التحدث في الدين، فاعلم أن هذه الأعداد التي تتابعك هي مجرد اختبار لك، فلا يغرنك ثناؤهم عليك عن الوقوف على حقيقة نفسك، أو التحدث في غير فنك، وأُذكِّرك بمقولة ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: "الناس يمدحونك لما يظنونه فيك فكن أنت ذامّاً لنفسك لما تستيقنه منها، أجهَلُ الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس.